ثقافة

“إيمانويل كانط” الحلم المشروع وصدى الواقع

مقدمة: لقد شكلت الحرب معضلة شغلت أذهان الساسة والمفكرين والفلاسفة على مر العصور، ما دفع الكثير من الفلاسفة إلى تقديم مشاريع تهدف إلى إقرار السلام، وإنهاء الحروب والنزاعات، أملا في ترسيخ مبادئ العيش المشترك بين الأمم والشعوب.

ولقد احتل مشروع الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” للسلام الدائم عام 1795، مكانة مرموقة ومهمة ضمن تلك المشاريع، لأنه تميّز بالدمج بين العقلانية والأخلاقية؛ كما أنه يمثل حلم مشروع من جانب “كانط” لإقرار السلام والأمن والأمان بين الدول والشعوب.

ومن هنا فقد جاء المشروع على شكل جملة من الشروط منظمة وفق أقسام تضم مواد تمهيدية وأخرى نهائية  لإحلال السلام الدائم بين الدول. وفي هذا الإطار يندرج مشروع السلام الدائم ضمن التوجه الفلسفي “الكانطي” الموسوم بالعقلانية الكونية  الشمولية. لأنه ينبثق من فكرة إنسانية عالمية ترمي إلى تحقيق أقصى مراتب السمو الأخلاقي، وهو السلام الدائم.

وهو بذلك يشكل تجسيدا حقيقيا للنزعة السلمية للفيلسوف الألماني “كانط” والذي رغم إقراره بأن النزوع للحرب هو فعل متجذر ومتأصل في النفس البشرية، لكون الفطرة الإنسانية أقرب إلى الحرب سواء كانت حربا بالمعنى الملموس، أو مجرد توجه ينطوي على تهديد دائم بالتجاسر والعدوان؛ إلا أن النزوع إليها شرٌ لكونه يقود إلى الخراب والتدمير، وينطوي على أساليب وحشية وعدائية. وكأن “كانط” برؤيته الفلسفية الثاقبة ينظر إلى عصرنا الراهن الذي مزقته الحروب والصراعات والانقسامات وآخرها الحرب الروسية الأوكرانية التي تدور رحاها هذه الأيام. وفيها تخريب وتدمير وتشريد للأطفال والشيوخ والنساء. وأيضا وجود لاجئين على الحدود في هذه الأيام قارصة البرودة. وكأن مشروع “كانط” في السلام الدائم يسلط الضوء على واقعنا الأليم بما فيه من حروب تأكل الأخضر واليابس. وما أحوجنا في تلك الحروب أن نستلهم النموذج “الكانطي” في مشروعه للسلام الدائم، من أجل إحلال السلام والأمن والأمان بين الشعوب والأمم، في ظل الحرب الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا. ندعو في هذا السياق إلى تغليب العقل والحكمة ووقف نزيف الحرب الدموية، والاسترشاد بالمشروع “الكانطي” لترسيخ ثقافة العيش المشترك وإحلال السلام.

مشروع السلام “الكانطي” وليد عصره:

يمكننا القول أن مشروع السلام “الكانطي” كان وليد عصره، ونتاج ومحصلة ظروف اجتماعية عاشها “كانط” ما حفّزه إلى مشروعه ورؤيته الثاقبة من أجل إحلال السلام؛ لأن المشروع “الكانطي” لم يكن بمنأى عن الأحداث التي زامنته ولعل أهمها الثورة الفرنسية (1789-1799) والتي شكّلت انعكاسا حقيقيا للأفكار التي كان يؤمن بها “كانط”. والمتمثلة في التطلع إلى نظام جمهوري، وأيضا دعوته الى الحرية وإعطاء السلطة الى الإرادة العامة التي يمثلها الشعب، والتي من ضمنها اتخاذ القرار بأن تقع الحرب أم لا..ما جعل كانط يضعه شرطا من الشروط الإيجابية التي جاء بها مشروعه للسلام الدائم. من هنا ترعرع المشروع “الكانطي” للسلام الدائم في ظل تلك الظروف التي عاصرها وعايشها “كانط”. وكانت من محفزات ودوافع كتابته لهذا المشروع  الذي يدعو فيه إلى إحلال السلام بين الدول، وتجنّب ويلات الحروب لما لها من آثار مدمرة على الإنسانية.

مشروع السلام الدائم واستشراف المستقبل:

لعلنا لا نبالغ في القول أن مشروع السلام “الكانطي” كان بمثابة رؤية واستشراف للمستقبل، وكأنه كان يتنبأ بما سيحدث في العصور القادمة، ومنها عصرنا الحاضر. فإذا ألقينا الضوء على بعض بنود وفقرات المشروع “الكانطي” سوف يتضح لنا بجلاء تلك الرؤية في استشراف المستقبل. يبدأ المشروع بست مواد تمهيدية،لا يمكن تصور المشروع بدونها. تأتي في مقدمتها النية المسبقة والرغبة الحقيقية في تحقيق السلام اللتان تشكلان شرطين أساسيين للمعاهدات القبلية، لأن السلام لا يتجلى فقط في منع وقوع الحرب؛ بل في القضاء على احتمال اندلاعها. إن انعدام هذين الشرطين يحوّل فكرة السلام إلى مجرد هدنة مؤقتة أو استراحة للتسلح، يستحيل معها وصف هذا النوع من السلام بالدائم؛ لأنه لا يعدو مجرد كونه حشوا ولغوا. يأتي بعد ذلك تصور “كانط” للدولة التي يقدمها كجماعة إنسانية لا يحل لأحد سواها أن يفرض سلطانه عليها، أو أن يتصرف في شئونها، مؤكدا أن كل دولة كيفما كانت لا يجب أن تملك من طرف دولة أخرى أو تتحكم في شئونها، مشبها إياها بالشجرة المستقلة. كما أنه لا يجوز في هذا السياق دمج أي دولة داخل دولة أخرى. لأن هذا الدمج يشكل سلبا لوجودها المعنوي وتجريدا لكيانها الذي يستحيل بعدها مجرد شيء من الأشياء.. ومن هنا يدعو “كانط” الدول إلى التخلي عن الجيوش، لأن وجودها من وجهة نظره يشكل للدول الأخرى تهديدا دائما بالحرب، والتي تُخلّف خسائر اقتصادية وبشرية، وتحرم الإنسان من حقوقه الأساسية؛ فوجود الجيوش لا يمثل تهديدا للسلام فقط، بل يشكل عبئا ماديا نتيجة النفقات التي تنفق عليها، كما يشكل حطًا من قيمة الإنسان وكرامته. وذلك أن فكرة استئجار الناس من أجل القتال يجردهم من إنسانيتهم ويحوّلهم إلى مجرد آلات، ما يشكل تعارضا مع حقوق الإنسان. هنا كأن كانط تجاوز بنظرته الثاقبة ومشروعه للسلام حدود الزمان والمكان، وكأنه ينظر إلى العصر الحاضر، وما فيه من حروب وانقسامات وصراعات وويلات سببت المزيد من تعاسة الإنسان و شقائه. وخصوصا في هذه الأيام التي تدور فيها رحى الحرب الروسية الأوكرانية. وما نشاهده من تدمير وخراب وتشريد للأسر. ووقوف الآلاف من اللاجئين على الحدود بين روسيا وأوكرانيا. وتهديد مستقبل أبنائنا من الطلاب الذين يدرسون في روسيا و أوكرانيا. إن الحرب كما أشار “كانط” برؤيته الفلسفية العميقة تخلف الخراب وراءها، وتأكل الأخضر واليابس وتسبب مجاعات وتشريد، علاوة على فقدان الأمن والأمان. لذا صاغ “كانط” في مشروعه للسلام الدائم رؤية للخروج من أزمات الحرب عن طريق إحلال السلام الدائم بين الأمم والدول والشعوب. وكأنه يستشرف المستقبل.

الثورة الفرنسية
الثورة الفرنسية

صفوة القول: 

يمثل مشروع “كانط” للسلام الدائم جرس إنذار مبكر للتنديد بويلات الحروب، وآثارها المدمرة التي لا تفرق بين غني وفقير، أبيض وأسود. فالحرب شر مستطير يسبب الألم والحزن للبشرية جميعها. ومن هنا يجب أن نستلهم اليوم دعوة “كانط” في مشروعه للسلام في ظل أحداث ساخنة، وحروب في مناطق كثيرة من عالمنا المعاصر. هذا المشروع يستحق الدراسة ويستحق أن نسترشد بهداه من أجل إحلال الأمن والأمان والسلام في ربوع العالم. ومن أجل ترسيخ ثقافة العيش المشترك التي لا غنى عنها للجميع في ظل التعددية الثقافية والدينية والعرقية. هذا المشروع حصن أمان لنشر قيم السلام والأمان والأمن والحوار وقبول الآخر. من أجل أن تسعد البشرية جميعها، ويحل الخير والازدهار والتنمية في ربوع الإنسانية. إن مشروع “كانط” بفقراته وبنوده؛ أكد أنه لا مفر من إحلال السلام بدلا من الحروب المدمرة التي تضعف البشرية وتضعف اقتصادها. ويجعلها تعاني من الفقر بدلا من توجيه تلك النفقات من أجل بناء المجتمعات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock