ما من قضية شغلت الوطن العربي الكبير، والعالم الإسلامي الأكبر، منذ الحرب “الأوروبية” الأولى (1914 – 1918)، كالقضية الفلسطينية؛ وهي القضية التي عُرفت بأنها قضية العرب الأولى، أو :القضية المركزية. وأما مركز هذه القضية المركزية نفسها، فهو مدينة القدس.
وقد اتسم الصراع بين “العرب.. وإسرائيل”، حول فلسطين عمومًا، وحول القدس خصوصًا، بكونه صراعًا يشمل الجوانب الدينية والتاريخية والقانونية والسياسية والمعيشية؛ فلا يوجد جانب رئيس واحد خارج دائرة الصراع؛ ولعل هذا ما يجعله صراعًا فريدًا من نوعه عبر التاريخ. كذلك، يتسم هذا الصراع في استمراره الطويل؛ إذ لو حددنا “مؤتمر بازل” (في عام 1897)، بداية له، ولم نذهب أبعد من ذلك (مع الهجرات اليهودية الأولي إلى فلسطين)، لكان هذا الصراع هو الأطول عمرًا من بين القضايا السياسية الدولية المعاصرة.
قضية واكبت القرن العشرين كله – تقريبًا -، وبقيت معلقة حتى مع دخول البشرية إلى رحاب القرن الحادي والعشرين.
وهنا، لا نغالي إذا قلنا: إن الإشكالية الأولى، بل الرئيسة، أمام إتمام تسوية هذه القضية، عبر المسار الذي أراده مصمموها، هي: إشكالية القدس.
ولكن.. عن أى قدس نتحدث؟!.
عن القدس الدينية؟، التاريخية؟، الإسلامية؟، العربية؟، الرمزية؟، القدس القديمة(؟!).. عن المقدسات وحدها؟، أم بعض المقدسات(؟!).. عن القدس في القرن العشرين؟، عن القدس ما قبل العام 1948؟، أم الكبرى، أم الميتروبولية؟.. أم تلك القدس التي تتوسع أرضها دون توقف منذ العام 1993(؟!).
الانغلاق والانفتاح
في اعتقادنا، أن المدخل إلى الإجابة عن هذه التساؤلات، وغيرها، هو ذلك الخاص بـ”الجغرافيا التاريخية”.. أو قل: نقطة التلاقي بين جغرافية التاريخ، وتاريخية الجغرافيا؛ أو إذا شئنا الدقة: جغرافية المكانة، وتاريخية المكان.
ولعل أول ما يواجهنا، في هذا الشأن، هو موقع القدس الجغرافي وأهميته؛ وهي الأهمية التي تعود، في ما تعود إليه، إلى جمع هذا الموقع بين: ميزة “الانغلاق”، وما تعطيه من حماية للمدينة؛ وبين: سمة “الانفتاح”، وما تعطيه من إمكان الاتصال بالمناطق والأقطار المجاورة.
وهنا، لا يمكننا صرف النظر عن استناد هذه الأهمية، أيضًا، إلى مركزية موقع القدس بالنسبة إلى فلسطين والعالم الخارجي؛ وهو ما يؤكد، من جديد، على أهمية موقع القدس الدينية والعسكرية والتجارية والسياسية. فقد ساهم موقع القدس، بما يجمع من صفات الانغلاق وسمات الانفتاح، ليجعل من القدس، كـ”مدينة”، نقطة نشوء الديانتين اليهودية والمسيحية، بل ومركز إشعاع لهما. وجاء الإسلام، بعدئذ، ليربط بين مكة والقدس روحيًا وماديًا.
أيضًا، في المجال العسكري.. اكتسب موقع القدس الجغرافي أهمية خاصة، وذلك نظرًا للحماية الطبيعية التي تزيد من الدفاع عنه.
ولعل الملاحظة، الواجب تثبيتها في هذا المجال، أنه عندما كانت الحملات العسكرية تنجح في احتلال مدينة القدس؛ فإن ذلك “النجاح”، كان يمثل إيذانًا باحتلال سائر فلسطين والمناطق المجاورة لها؛ لأن القدس، بموقعها المركزي الذي يسيطر على كثير من الطرق التجارية، تتحكم في الاتصال بالمناطق المجاورة.
هذا هو ما يتبدى بوضوح، إذا ما ألقينا نظرة سريعة على الموقع الجغرافي لمدينة القدس..
وكما تُشير “الموسوعة الفلسطينية”، فإن عمر مدينة القدس يبلغ نحو 35 قرنًا؛ وقد أقيمت نواتها الأولى في بقعة جبلية هي جزء من جبال القدس، التي تمثل السلسلة الوسطى في العمود الفقري للأرض الفلسطينية.
وتقع القدس على خط “طول” 35 درجة و13 دقيقة شرقًا، وخط “عرض” 31 درجة و52 دقيقة شمالًا.. وهي ترتفع عن سطح البحر “المتوسط” بنحو 750 مترًا، وتبتعد عنه بنحو 52 كيلو مترًا؛ كما ترتفع عن سطح البحر “الميت” بنحو 1.150 مترًا، وتبتعد عنه بنحو 22 كيلو مترًا
جغرافية المكانة
والقدس ذات موقع جغرافي هام، لأن نشأتها على هضبة القدس والخليل، وفوق القمم الجبلية التي تمثل خطًا لتقسيم المياه بين وادي الأردن شرقًا والبحر المتوسط غربًا، جعلت من اليسير عليها أن تتصل بجميع الجهات التي تحيطها.
وهي، أي: القدس، حلقة في سلسلة تمتد من الشمال إلى الجنوب، فوق القمم الجبلية للمرتفعات الفلسطينية. هذا، إضافة إلى أنها ترتبط بطرق رئيسة، تخترق المرتفعات من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب؛ وهناك طرق عرضية تقطع هذه الطرق الرئيسة، لتربط وادي الأردن بالساحل الفلسطيني، من بينها: طريق “القدس – أريحا”، وطريق “القدس – يافا”.
ولعل من أطول الطرق المعبدة، التي تربط بين القدس، وكل من العواصم العربية المجاورة، هي التالية: “القدس – بيروت” (388 كيلو متر)؛ “القدس – القاهرة” (528 كيلو متر).
وقد كانت نشأة النواة الأولى لمدينة القدس، كما يؤكد مصطفى مراد الدباغ في كتابه “بلادنا فلسطين، 1975″، أيضًا، على تلال الضهور (الطور – تل أوفل)، المطلة على قرية سلوان إلى الجنوب الشرقي من المسجد الأقصى. وقد اختير هذا “الموضع الدفاعي”، لتوفير أسباب الحماية والأمن لهذه المدينة الناشئة.
وقد كونت الأودية الثلاثة المحيطة بالمدينة: وادي “جهنم” (قدرون) من الناحية الشرقية، ووادي “الربابة” (هنوم) من الناحية الجنوبية، ووادي “الزبل” من الناحية الغربية.. (كونت هذه الأودية) خطوطًا دفاعية جعلت اقتحام القدس (القديمة) أمرًا صعبًا، إلا من الناحيتين الشمالية، والشمالية الغربية؛ وهو الأمر الذي لاحظه جميع المؤرخون؛ إذ، إن كافة الجيوش التي دخلت إلى مدينة القدس، قديمًا وحديثًا، كانت قد دخلتها من “الشمال”.
والواقع، أن هذه النواة الأولى للمدينة، كان قد تم هجرها بمرور الزمن، وحلت محلها نواة رئيسة تقوم على تلال أخرى غير تلال الضهور (الطور).. مثل: مرتفع “بيت الزيتون” (بزيتا) في الشمال الشرقي للمدينة بين باب الساهرة وباب حطة؛ ومرتفع “ساحة الحرم” (موريا) في الشرق؛ ومرتفع “صهيون” في الجنوب الغربي؛ وهي المرتفعات التي تقع داخل السور، في ما يعرف اليوم بـ”القدس القديمة”.
ولم يعد موضع المدينة (القديمة) يستوعب السكان والمباني السكنية داخل السور، نتيجة نمو السكان بصورة مستمرة، فامتد العمران خارج السور في جميع الجهات. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر الماضي، أخذت المدينة تنمو في الاتجاه الشمالي الغربي، ونحو الغرب في اتجاه مدينة يافا.
وبعد حرب عام 1948، وانفصال القدس “الجديدة” عن القدس القديمة، اتسعت المدينة القديمة بسرعة نحو الشمال والشرق. إلا أن كثيرًا من المباني فيها (في القدس القديمة)، كان قد تعرض للتدمير على يد سلطة الاحتلال الإسرائيلي (بعد عام 1967).
وكانت جريمتا: حرق المسجد الأقصى وإطلاق النار على المصلين فيه، من أبشع الجرائم التي تعرضت لها الأماكن المقدسة الإسلامية.
هذا عن جغرافية المكانة.. فماذا عن تاريخية المكان(؟)… يتبع.