عقب حرب أكتوبر المجيدة 1973، بدت تصريحات عدد من المسئولين الأمريكيين عدائية، ولا تخضع لضوابط اللياقة المتعارف عليها دبلوماسيا.. بدأ الحديث عن إمكانية غزو حقول النفط في الخليج العربي، إذا ما تعرضت صادرات النفط لحظر عربي جديد، أو إذا استمرت الدول المنتجة في زيادة أسعار نفطها.. ثم كان تصريح وزير الدفاع الامريكي “جيمس شيلزنغر” مطلع عام 1974، بإمكانية القيام بعمل عسكري ضد الدول المنتجة للنفط، إذا هددت سياستها بعرقلة العالم الصناعي، ثم كان تصريح “هنري كيسنجر” في مجلة “بيزنس ويك” في يناير 1975، والذي قال فيه إنه لا يستطيع استبعاد استخدام القوة العسكرية؛ إذا تعرّض العالم للاختناق النفطي بسبب منتجيه في الشرق الاوسط.. وقد أثارت هذه التصريحات غضب المسئولين السعوديين؛ ما دفعهم لانتقاد المخطط الأمريكي للاستيلاء على نفط الخليج بعنف.
كان “جيرالد فورد” قد تولى مقاليد الرئاسة الامريكية عام 1974، عقب استقالة نيكسون بسبب فضيحة “ووتر جيت”. في تلك الأجواء المشحونة بالارتياب عقب تلك الفضيحة المزلزلة، رأت الإدارة الأمريكية الجديدة أن التدخلات المباشرة لم تعد مأمونة، وأن مواجهة المد السوفييتي لابد أن تأتي عبر وسطاء؛ فأوعزت إلى فرنسا أن تقيم تحالفا استخباراتيا من عدد من الدول التي تدور في الفلك الأمريكي، وبالقطع كان على رأس هذه الدول إيران الشاه والسعودية والمغرب ومصر برئاسة السادات، وبالقطع فإن استخبارات العدو الصهيوني لم تكن بعيدة عن ذلك ترقب وتستفيد إلى أقصى درجة.. عُرف هذا التجمع الاستخباراتي بـ”نادي السفاري” واتخذ من القاهرة مقرا له.
مُوِّل النادي من قِبل السعودية وإيران، ودُعِم عسكريا من جانب مصر والمغرب، وتولت فرنسا الإشراف والتنسيق بما يتيح لها تحقيق النجاح لمشروعها الفرانكفوني في المقام الأول، وتنفيذ الأجندة الأمريكية ثانيا.. ساهم النادي في إخماد ثورة ظفار في عُمان عام1976، كما قدم دعما لنظام موبوتو سيسي سيكو دكتاتور زائيرعام1977، ولحسين حبري في تشاد 1979، كما قدم النادي الدعم لمعارضي نظام هيلامريام الشيوعي في أثيوبيا، وقد استمرت أعمال النادي حتى عام1983، حققت أمريكا من خلاله العديد من النتائج الجيدة، كما كان التحالف أحد أهم ترتيبات الصلح المنفرد بين مصر والعدو الصهيوني عام1978، والذي عُرف باتفاقية كامب ديفيد.
في البداية أظهر النظام السعودي حماسا لمباحثات كامب ديفيد؛ لكنه حرص بعد ذلك على إبراز رفضه لما آلت إليه المفاوضات من نتائج؛ ففي بيان رسمي صادر عن مجلس الوزراء السعودي؛ جاء فيه ما يلي”…أن حكومة المملكة العربية السعودية، مع تقديرها للجهود التي بذلها الرئيس كارتر… ترى أن ما تم التوصل إليه في قمة كامب ديفيد لا يعتبر صيغة نهائية مقبولة للسلام…”.
كانت الشكوك تساور الجانب السعودي بشأن الخطط الجديدة في المنطقة بعد كامب ديفيد، خاصة أن أمريكا تراجعت بشكل واضح عن دعم الشاه بعد تطور الوضع في إيران، كما أنها انتقدت بشدة رفع أسعار النفط؛ حتى أنها لوحت بعدم استبعاد الحل العسكري لضمان استمرار ضخ النفط.. لم تتخذ السعودية موقفا إيجابيا معلنا من كامب ديفيد برغم تطابق رؤيتها مع رؤية الرئيس السادات الذي كان يؤكد أن 90% من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة؛ لذلك لا يعتبر هذا الموقف أصيلا أو معبرا عن الواقع بقدر ما كان استجابة للضغوط العربية والفلسطينية بشكل خاص، والتي رأت أن تسوية على هذا النحو هي بمثابة نحر بدم بارد لقضية فلسطين.. ثم كانت زيارة وزير الخارجية الأمريكي “سايروس فانس” إلى الرياض التي تزامنت مع حملة شنها السناتور اليهودي “فرانك تشرس” رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونجرس على السعودية المتلكئة في دعم الاتفاق المصري الصهيوني.. لكن كل ذلك لا يبدو ذا قيمة إذا ما قورن بالدور الذي لعبته شركات النفط الأمريكية لصالح السعودية إذ مارست ضغوطا كبيرة من أجل ألا تتضرر مصالحها بسبب جموح السياسية الأمريكية بشأن قضية الشرق الأوسط.
كانت المملكة قد تجاوزت الآثار الخطيرة لاغتيال الملك فيصل على يد ابن أخيه، وتولى الملك خالد بن عبد العزيز مقاليد الأمور وقد كان يشغل منصب نائب رئيس الوزراء بالإضافة إلى ولاية العهد.. في تلك الآونة تطلعت إيران للعب أدوار لحساب الولايات المتحدة في المنطقة؛ في محاولة لتثبيت دعائم حكم بهلوي، وإبقاء الدعم الامريكي له لآخر مدى.. لكن الوضع كان أسوأ من أي محاولات أمريكية للإنقاذ.
كان سقوط الشاه في فبراير1979، مدويا كما أحدث هزة عنيفة في ثقة حلفاء أمريكا في المنطقة بها، بعد فشلها في حماية رجلها الأول، أو تقاعسها عن إنقاذه بعد أن بات أمره منتهيا.. فاقم المخاوف الأمريكية بعد سقوط نظام الشاه، التدخل السوفييتي في أفغانستان الذي سبق سقوط الشاه بنحو شهر.. ما حتم على الولايات المتحدة تعديل الكثير من سياساتها في المنطقة.. وفق المستجدات التي أربكت كثيرا من الحسابات الأمريكية.
حاولت السعودية إخفاء مخاوفها من الوضع المقلق في إيران، فرحبت بعودة خوميني من باريس وتشكيل الحكومة المؤقتة برئاسة مهدي بازركان، وعندما أعلنت الجمهورية الإسلامية في أبريل 1979، كان الملك خالد من أوائل المهنئين؛ ثم كان لاندلاع أزمة الرهائن الأمريكيين، واحتلال السفارة الأمريكية في طهران، وسقوط حكومة بازركان في نوفمبر من نفس العام- نذير بتبدد كل آمال السعوديين في علاقات جيدة مع النظام الإيراني الجديد.. من جانب آخر اشتدت الرغبة لديهم في لعب أدوار أكبر في المنطقة من خلال السياسات الأمريكية الجديدة.. وكان الدور الأبرز الذي أسند للمملكة هو الدعوة إلى الجهاد ضد “الملاحدة” السوفييت في أفغانستان، وبالطبع لم يتوقف الأمر عند ذلك، بل طالب الأمريكان السعوديين بإمداد الجماعات المسلحة التي كانت الولايات المتحدة قد دعمتها ومولتها قبل الاجتياح بنحو ستة أشهر لإسقاط النظام الأفغاني.. كما استخدم نظام السادات من قبل الأمريكيين للغرض ذاته، ودفعت أفواج من الشباب المتدين في كلا البلدين (مصر والسعودية) إلى السفر إلى أفغانستان للجهاد في سبيل نُصرة الإسلام.. قبل أن ينقلب السحر على الساحر، ويدفع السادات حياته ثمنا لاستخدامه لورقة التيار الإسلامي المتطرف داخليا وخارجيا، كما ستلقي تلك الأحداث بظلالها الكثيفة على الفترة التي كانت قد شهدت انتعاشا كبيرا في أسواق النفط العالمية، عقب حرب أكتوبر المجيدة.. وقد استمر هذا الانتعاش إلى عام 1982، ما وصف بالعصر الذهبي لصناعة النفط، حيث حققت حكومة المملكة العربية فائضا سنويا بلغ 96 مليار دولار تقريبا.. بعد أن أجريت مباحثات أواخر عام 1977، وأوائل العام التالي له في مدينة سيتي، بولاية فلوريدا الأمريكية بين ممثلين عن الحكومة السعودية، وشركة أرامكو.. وقد تمخضت المباحثات عن اتفاق يقضي بأن يُصبح رأس مال شركة أرامكو، وكذلك مجلس الإدارة سعوديين بكاملهما. ولم يكن من قبيل المصادفة اندلاع الحرب العراقية الإيرانية مطلع الثمانينات، ما كان له أثر بالغ في ابتلاع نسبة كبيرة من عوائد النفط في كل دول الخليج، وانعكاس ذلك على الأوضاع المحلية والإقليمية في منطقة الخليج ككل، وعلى المملكة العربية السعودية على وجه الخصوص.. وكان إجمالي ما دفعته المملكة العربية السعودية للولايات المتحدة ثمنا لأسلحة حصلت عليها في الفترة من(1973-1980) قد بلغ نحوا من 34 مليار دولار، وفي مواجهة الخطر الإيراني المتصاعد أسست السعودية مجلس التعاون الخليجي في 25مايو1981، بدعم ومباركة أمريكية.. وبعد نحو شهر، قصف طيران العدو الصهيوني مفاعل تموز العراقي بعد أن استخدم الأجواء السعودية والأردنية ذهابا وإيابا.. وبالقطع فإن هذا المرور الآمن لم يكن بخافٍ على الدفاعات الجوية السعودية التي كانت قد زودت بأربع طائرات أمريكية للإنذار المبكر المعروفة باسم (أواكس) قبل ذلك بنحو ثمانية أشهر!