كانت السفينة الألمانية المسماة بالأمير هنري تمخر عباب المحيط الهندي في طريقها إلى ميناء السويس بعد أن مرت في طريق عودتها من الصين على جزيرة سرنديب(سيلان) لتحمل على متنها ذلك الشيخ المعنَّى بآلام النفي ومفارقة الأوطان منذ قرابة العقدين من الزمن.
تسع عشرة سنة، هي دهر بكامله، كيف مرت دون أن تكتحل عيناه بمرآها؟ دون أن يستنشق نسيمها العليل؟ دون أن تصافح وجهه الأسمر أشعة شمسها الذهبية؟ دون أن يجيل النظر في تلك الوجوه المكدودة المتعبة التي كان يمسح عنها ملامح الحزن والفاقة؛ بآمال كبار يبعثها في النفوس، تنتصر لمبادئ العدل والمساواة والكرامة والحرية.. كيف مرت تلك السنون هنا في سرنديب بين قوم ليسوا بأهله؛ لكنهم عرفوا قدره فأكرموه غاية الإكرام، بينما كانت الأقلام المسمومة في بلاده تنهش سيرته ومسيرته، وترميه بكل نقيصة وبهتان؟
يذكر يوم وطئت قدماه لأول مرة تلك الجزيرة في التاسع من يناير 1883، ومعه رفاق الثورة والكفاح، عصمت باشا طلبة، وعبد العال باشا حلمي، ومحمود باشا سامي، ويعقوب باشا سامي، ومحمود باشا فهمي، وعلي باشا فهمي.. هؤلاء الرجال الذي تعاهدوا قبل أكثر من عقدين من الزمن على مواجهة الاستبداد والقهر مهما كانت النتائج؛ فضحّوا بمناصبهم ومراكزهم المالية؛ بل وبمستقبل أبنائهم من أجل كرامة مصر واستقلالها وحرية شعبها. يذكر أحمد عرابي كيف رحل الرفاق الواحد تلو الآخر فيرثي لحالهم، حتى آخر من بقي منهم معه وهو محمود باشا فهمي شاءت الأقدار أن يغادر الجزيرة قبله بثلاثة أيام؛ ليكابد عرابي وحده آلام الفقد التي هزمت بقلبه مسرّة العودة إلى حضن الوطن.
ماذا بقي لك يا عرابي في أرض الأجداد؟ ماذا بقى لك بعد أن صادروا أرضك مبالغة في الظلم والعسف بالحقوق، حتى الأفدنة التي تربو قليلا على الثمانية التي ورثتها عن أبيك شيخ البلد في حِصة “هِرِّيَّة رَزَنَة” صادروها، ولو استطاعوا مصادرة تلك الذكريات الجميلة لفعلوا، يوم أن عدت من الأزهر بعد عامين من الدراسة عازما على العمل في الأرض، بعد أن اقتنعت أن هذا أجدى كثيرا من حفظ المتون والشروح دون أي مساحة لإعمال العقل.
فتى في الخامسة عشرة كان بطلنا، حينما وصل إلى المنزل معلمه المقدس ميخائيل؛ ليبشر أخاه أن الخديو محمد سعيد باشا قد أصدر مرسوما يسمح للمصريين من أبناء العمد ومشايخ البلد بالالتحاق بالمدرسة الحربية.. يتهلل وجه أحمد الذي أدرك أنه لهذا العمل خلق، سيصير ضابطا في جيش مصر، وسيكون يوما قائدا عظيما تردد الألسنة اسمه، وتعمر محبته القلوب، بعد أن تصير شجاعته مضرب الأمثال.
يُعيَّن الفتى كاتبا بدرجة “بلوك أمين” ولكنه يرى أن هذه الوظيفة الإدارية ستحول دون ما يطمح إليه من تَرَقٍ سريع، يساعده في إنجاز مهمته التي وهب لها حياته، فيتقدم بطلب إلى رئيسه ليعود إلى الصف مُضَحِيا بجزء من راتبه، ويجتاز الاختبار تلو الآخر حتى يحصل على رتبة الملازم وهو في السابعة عشرة، ورتبة قائمقام وهو بعد في العشرين، ليكون ياورا للخديو سعيد في رحلته إلى المدينة.
مات سعيد.. قالها عرابي بتفجع بالغ، تعجب منه البعض ممن رأى سعيدا حاكما ظالما؛ لا يختلف كثيرا عن سابقه عباس الذي كان مضرب الأمثال في الشاذ والمستغرب من الأفعال.. ويرد عرابي: رأيت منه ما يجعلني أجزم أنه كان مُحبا لبني وطني.. يا رفاق إن قلبي لا يخدعني.
على عكس من ذلك نقم عرابي كل النقمة على إسماعيل الذي سيعيد كل شيء إلى قبضة الأتراك والشراكسة، ما سيعطل ترقيته لنحو اثنتي عشرة سنة!
وإن تسامح عُرابي فيما لحق به من ظلم؛ فلا يمكن أن ينسى لإسماعيل استهتاره الشديد في حملة الحبشة التي وضع على رأسها ابنه حسن، وكان مازال طفلا في معية رئيس الأركان الأمريكي لورنج باشا الذي ارتكب من الأخطاء ما تسبب في إبادة سبع كتائب على أيدي الأحباش.
أدرك عرابي وعدد كبير من الضباط المصريين أن ما حاق بالأمة المصرية من وبال إنما سببه وجود الأجانب وتحكمهم في العديد من المناصب، وهم لا يعملون لصالح هذا البلد ولا لخير أهله؛ لذلك أطلقوها دعوة تسري بين جموع المصريين الذي يعانون سوء الأوضاع بسبب سياسات إسماعيل المالية غير المحسوبة، ما أغرق البلاد في الديون، ولم يكن يعني ذلك للخديو المتهور إلا مزيدا من الضرائب، حتى أصبحت الحياة في بر مصر شبه مستحيلة، وحتى اقتنع عرابي أن التخلص من إسماعيل أصبح ضرورة حتمية.
ثبتت رؤية عرابي بشأن إسماعيل عند اكتشاف اختلاسه لمبلغ كبير جدا من المال قُدِّر بنحو خمسة عشر مليونا من الجنيهات، جمعها في الأشهر الأخيرة قبل خلعه من المديريات المختلفة، وبدلا من أدائها إلى خزانة الدولة استولى عليها وأخذها معه إلى نابولي، وقد حاول إسماعيل عبر هذه الأموال المنهوبة أن يعود إلى حكم مصر باستمالة بعض الضباط الوطنيين، وكان عرابي من ضمنهم، إذ عرض عليه عبر وسيط دفع مبلغ ثلاثين ألف جنيه ثمن مدافع ألمانية أراد عرابي أن يزود بها الجيش، ولكن الصفقة لم تتم وقيل أن المال وصل إلى الإسكندرية، لكن عرابي لم يصل إليه منه شيئا، وكان قد تشكك في إرسال المبلغ من الأساس.
ويتولى توفيق مقاليد الحكم، وهو آخر من يصلح للمنصب الرفيع؛ فصار ألعوبة في أيدى القناصل، وازدادت أوضاع البلاد سوءًا، وبسبب تراجع توفيق عن وعده لشريف باشا بإقرار دستور للبلاد؛ استقال الأخير من الوزارة؛ ليأتي توفيق برياض باشا رئيسا للوزراء ومعه عثمان رفقي المعروف بعدائه الشديد للضباط المصريين وزيرا للحربية، ما جعل الأوضاع على حافة الاشتعال، خصوصا بعد أن فصل الأخير عددا من الضباط المصريين دون دفع مستحقاتهم المالية، ولم يكتف هذا الوزير الشركسي بذلك بل دبَّر للتخلص من عرابي، بعدة محاولات لاغتياله باءت بالفشل بسبب يقظة جنوده وحرصهم الشديد على حياته.
واجتمع عرابي في بيته برفيقيه علي فهمي وعبد العال حلمي، وانتهى الاجتماع على أن يتقدموا بعريضة إلى رئيس الوزراء تتضمن عزل عثمان رفقي وزيادة عدد الجيش إلى ثمانية عشر ألفا وإقرار الدستور الموعود، وفي حالة عدم استجابة رياض باشا تُرفع العريضة للخديوي، وكان ذلك في فبراير من العام 1881، وتكرر الأمر في مظاهرة عابدين الشهيرة في سبتمبر من العام ذاته، بعد أن أضيفت مطالب أخرى تتعلق بإقالة وزارة رياض باشا، وانتخاب مجلس شورى النواب، وإعطائه كافة الصلاحيات.
لم يستطع الخديوي رد المطالب التي تقدَّم بها عرابي، فعزل الحكومة وكلَّف شريف باشا بتشكيل الوزارة، ليفرح المصريون فرحا شديد بهذا الانتصار، لكنها فرحة لم تتم؛ إذ دبَّر توفيق وأعوانه مكيدةً لتبرير التدخل الأجنبي في البلاد، فكانت مذبحة الإسكندرية التي اتخذها البريطانيون ذريعة لاحتلال البلاد بحجة حماية الأجانب، وحتى تفي مصر بالتزاماتها المالية تجاه الدول الدائنة.
استطاع عرابي أن يمنع قوات الاحتلال من التقدم غربا، بل أنه أوقع بهم الهزيمة في كفر الدوار؛ ما اضطر القوات البريطانية لتغيير مسار الحملة إلى ناحية الشرق، وكان ديليسبس قد تعهَّد أن تبقى القناة على الحياد، وأنه لن يسمح بمرور السفن البريطانية فيها، ولكنه لم يلتزم بما وعد به عرابي، وكانت الهزيمة في التل الكبير نتيجة حتمية للخيانة بعد أن سلّم الضابط علي بك يوسف خنفس، الرسم الكروكي للخطة الحربية التي وضعها عرابي للورد ولسلي، كما رَشَا سلطان باشا عددا كبيرا من الضباط حتى يتخاذلوا عن عرابي ومن معه، كما تعاونت القبائل البدوية بتلك المناطق مع المحتل ويسرت له طرق التقدم لمفاجأة الجيش المصري؛ فكانت الهزيمة التي لم يكن منها بد مع اعتراف عرابي بالتقصير في أمور عديدة.
عاد عرابي إلى أرض الوطن بعد نفي استمر لتسع عشرة سنة وأربعة أشهر، فلم يجد إلا الجحود والنكران من أقرب الناس إليه، فقد عملت الدعاية السوداء التي أدارها المحتل وأتباعه عملها، وساعد في انتشارها شيوع الجهل والبطش في طول البلاد وعرضها؛ حتى تنكر له رفاق الثورة والمنفى: علي فهمي ومحمود سامي، ورغم الألم الشديد الذي أحسه عرابي؛ إلا أن الجماهير الوفية عوضته كثيرا فقد استقبل عند وصوله السويس استقبالا شعبيا حافلا، وكان إذا داوم على الصلاة في مسجد الحسين اجتمع حوله الناس، واحتفوا به كل الحفاوة.
وفي ٢٢ سبتمبر سنة ١٩١١م الموافق ٢٧ رمضان عام١٣٢٩هـ يرحل أحمد عرابي عن دنيانا ولم يكن لدى أولاده من المال ما يكفي لتجهيزه ودفنه فاضطروا إلى عدم إعلان نبأ وفاته حتى اليوم التالي، حتى قبضوا معاشه؛ إذ صرفت وزارة المالية المرتبات والمعاشات في هذا اليوم بمناسبة عيد الفطر المبارك، ولم يشيعه إلى مقره الأخير رجل رسمي واحد، ولكن مصر الوفية، أبت إلا أن تكرمه إذ أحاط بنعشه الألوف من أبنائها وتألفت من هؤلاء جنازة شعبية عظيمة، سارت في صمت وخشوع من داره بالمنيرة حتى قبره بالإمام الشافعي؛ حيث أهيل عليه التراب، بين ترحم المترحمين وبكاء الباكين.