بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن موقع عُمان
كتبت وكتب غيري أن الحرب الأوكرانية هي حرب «شبه عالمية» قد تقود لحرب عالمية ثالثة كاملة وقد يكون السلاح النووي خيارا فيها، أيضًا، لأول مرة منذ قنبلتي هيروشيما ونجازاكي الأمريكيتين على اليابان.
وكتب كثير منا أن الحرب المسلحة هي فقط التي تدور رحاها في أوروبا لكن الحرب الحالية بالمعنى «الجيوسياسي والاستراتيجي» تشمل مناطق أخرى بالغة الأثر في حسم المسار النهائي للصراع نصرًا أو هزيمة.
فالحرب الرامية أمريكيا إلى تركيع روسيا وتخويف الصين، ومن ثم منع قيام نظام دولي يشاركها أحد فيه في قيادة العالم، والرامية صينيا وروسيا إلى النقيض أي إلى إنهاء التفرد الأمريكي على العالم.. عادت بالعالم إلى حالة الحرب الباردة وأخطر سياساتها وهي سياسة حافة الهاوية.
وهذه الحالة كما يعرف الجميع هي حالة تثبيت مناطق النفوذ القديمة، والسعي للسيطرة على مناطق نفوذ جديدة، وهي أيضا كما نعرف حالة حرب أو حروب بالوكالة وحالة تنشيط مذهل للاقتصاد الأمريكي عبر المجمع الصناعي العسكري الذي سيكون الرابح الأكبر من تأثير الحرب الأوكرانية في رفع درجات القلق العالمي والإقليمي في صورة عودة دول كثيرة إلى حالة الإنفاق العسكري الفادح.
وإذا كانت منطقة آسيا والمحيط الهادئ والهندي هي منطقة صراع واضحة بحيث أصبحت نقطة الارتكاز الجيوسياسي للعالم فإن منطقتنا الشرق أوسطية بما فيها العالم العربي ومنطقة الخليج استعادت في هذه الحرب كل أهميتها وصارت ثاني أهم ساحة إقليمية للنزاع الكوني الذي تعتبر حرب أوكرانيا مجرد انعكاس له ومجرد متنفس يعبّر به عن تفاعلاته الصراعية.
وهنا يسهل تفسير التحوّل الذي طرأ على السلوك الأمريكي من دول المنطقة وبالتحديد الدول الخليجية ومصر. فالعلاقة التي اتّسمت بالتوتر منذ وصول إدارة بايدن للحكم قبل عامين بسبب ثلاثة ملفات هي «التنديد الأمريكي بحالة حقوق الإنسان في كثير من الدول العربية، وتراجع التزامها النسبي بأمن منطقة الخليج، وتصميمها على إحياء الاتفاق النووي الإيراني الذي كان الرئيس السابق ترامب قد ألغاه» سرعان ما تغيّرت بعد فترة من اندلاع الحرب الأوكرانية خاصة وقد قاومت الدول العربية والخليجية نسبيا الضغوط الأمريكية في بداية الأزمة لأخذ موقف سياسي منحاز إلى صفها ضد روسيا، وأخذ موقف اقتصادي بزيادة الإنتاج النفطي وبالتالي امتنعت مؤقتا عن المشاركة في إحكام طوق العقوبات الاقتصادية الغربية على موسكو التي تعتمد بشكل أساسي على صادراتها من النفط والغاز.
مع هذه المقاومة العربية الخليجية “النسبية” وشعور واشنطن بأن الموقف العربي الخليجي يحتاج إلى “ترويض” بدأت عملية التودد إن لم يكن التملق بدلا من النقد والجفاء، والاهتمام بدلا من الإهمال، وتراجعت لغة أو نغمة خطاب حقوق الإنسان لتحل محلها لغة أو نغمة المصالح الحقيقية العارية.
بعبارة أخرى عاد الفكر الاستراتيجي الأمريكي إلى فكرة تثبيت المنطقة خاصة العالم العربي فيها كساحة نفوذ له والتي كرّسها بشكل شبه مطلق اختفاء الاتحاد السوفييتي الذي كان قد قاسمه فيها جزئيا ولمرحلة محدودة فقط.
ولتأكيد وضع المنطقة منطقة نفوذ أمريكي وضمان اصطفافها خلف التحالف الغربي الذي تقوده واشنطن لهزيمة روسيا هزيمة استراتيجية تستنزف فيها قوتها العسكرية والاقتصادية بل وقد تتمكن من تغيير وإسقاط نظام بوتين المعادي للمركزية الغربية، كان لا بدّ لواشنطن من تقديم بعض التنازلات لحلفائها وبالتحديد معالجة هواجسهم ومخاوفهم الناتجة من شعورهم بأنها خانت التزامها التقليدي والتاريخي بأمنهم، وهو الالتزام الموجود بالنسبة للخليج منذ لقاء أو صيغة (روزفلت – عبدالعزيز ١٩٤٣)، وبالنسبة لإسرائيل منذ قيامها ١٩٤٨ على حساب فلسطين التاريخية وشعبها.
العلاقة مع إيران كما هو معروف هي محور هذه الهواجس مع حلفاء واشنطن من العرب والإسرائيليين وهي ما تعاملت معه الإدارة الأمريكية في الأسابيع الأخيرة مباشرةً وبالتحديد عبر إعادة النظر في تصميمها على العودة السريعة للاتفاق النووي الإيراني في ظل المعارضة الحادة من تل أبيب وجزء وازن من الدول الخليجية له، واعتبارهم إياه اتفاقا سيئا لن يمنع إيران منعا كاملا من امتلاك السلاح النووي في المستقبل، كما أنه لا يشمل قيودا على تمددها في الإقليم عراقيا وسوريا ولبنانيا ويمنيا.
وأنّ رفع العقوبات عن إيران سيفيد روسيا اقتصاديا إذ إن طهران ملتزمة بسداد ديونها لموسكو في حال إنهاء تجميد جزء من أموالها بعد رفع العقوبات.
فمرة واحدة وبشكل يكاد يكون “انقلابيا” في مسار هذا الاتفاق فوجئ العالم بأن الاتفاق الذي أعلن من أكثر من طرف من أطرافه المتفاوضة مع طهران أنه بات جاهزا ووشيكا، سرعان ما أصبح مريضا في غرفة الإنعاش، وصارت فرص الفشل في توقيعه أكبر من فرص النجاح.
وانتقلت الدبلوماسية الأمريكية «بقدرة قادر» من إعلان استعدادها لاتخاذ قرارات صعبة من أجل التوصل للاتفاق النووي مع إيران، بما في ذلك إمكانية الموافقة على أصعب شرط إيراني وهو رفع اسم الحرس الثوري من قائمة المنظمات الإرهابية، إذ ألمح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى أن هذا التصنيف هو قرار اتخذه ترامب بمفرده ورفض من قبل كل الإدارات السابقة لأنه يضر بمصالح أمريكا، انتقلت هذه الدبلوماسية نفسها إلى التعهد لرئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت بعدم رفع اسم الحرس الثوري من قائمة الإرهاب وإلى إعلان تشاؤمها من حل المشكلات التي تواجه الاتفاق وأنها تعد نفسها للفشل في المفاوضات وتنظر في خيارات أخرى للتعامل مع إيران وبرنامجها النووي.
فما الذي حدث؟! إذ إنه في أغلب الظن لم تغيّر واشنطن فكرتها الاستراتيجية في أن هذا الاتفاق هو أفضل وسيلة لمنع إيران من حيازة سلاح نووي وإبقاء إسرائيل قوة نووية وحيدة في الإقليم.
كما أن واشنطن لم تغيّر طموحها لكسب إيران إلى صفها في الصراع القادم مع الصين أو على الأقل إبعادها تماما عن المحور الصيني والروسي التي هي أقرب إليه الآن بكل وضوح.
فقط لم تعد هذه المسألة الأولوية السياسية الأمريكية المتقدمة فكسب الصراع الحالي وهزيمة روسيا في أوكرانيا متقدم على أي أولوية أخرى وحاجة أمريكا إلى إسرائيل ومنطقة الخليج -لأسباب مختلفة- في دعمها في كسب الحرب مع روسيا والتي يخوضها الطرفان بالوكالة في أوكرانيا تتقدم على أي حاجة أخرى.
تباطؤ المحادثات في الملف النووي والذي يصل إلى حد التجميد ليس المؤشر الوحيد على وقف أمريكا ولو مؤقتا لما بدا أنها مرحلة سيولة سياسية تتصاعد فيها التفاعلات الحرة بين دول المنطقة، وبالتالي بدأت العودة إلى سياسة إشراف الولايات المتحدة على هذه التفاعلات وضبطها بما يتفق مع ترسيخ أنها منطقة نفوذها.
من هذه المؤشرات انهيار التحسن الذي حدث في العلاقات الروسية – الإسرائيلية في السنوات الأخيرة وعودة العلاقات بين موسكو وتل أبيب إلى علاقة شبيهة بعلاقات العداء التي كانت قائمة بين الدولة العبرية والاتحاد السوفييتي السابق.
الإسرائيليون الذين مكنتهم العلاقة المتحسنة من التدخل عسكريا في سوريا كلما أرادوا لمنع تحوّل الوجود الإيراني إلى خطر عليهم والذين كانوا قد تريثوا في بداية الحرب في الانحياز الصارخ لأوكرانيا، صاروا في الأسبوعين الأخيرين طرفا نشطا يكاد يكون مباشرا عسكريا وسياسيا في الحرب مع الجانب الأوكراني – يتحدث الروس عن أسلحة ومرتزقة عسكريين ومستشارين كبار من إسرائيل تدفقوا على مسرح الحرب الفعلي لدعم الرئيس والجيش الأوكرانيين.
من هذه المؤشرات أيضًا عودة الوتيرة المكثفة من الاتصالات – والزيارات الأمريكية إلى منطقة الخليج واستعادة اللهجة التصالحية وتصريحات المدح والإشادة المعتادة بعلاقات التحالف الاستراتيجي مع الرياض ودول المنطقة. وتم في هذا الصدد الإفراج أخيرا عن صفقات أسلحة لمصر ودول خليجية كانت عطّلتها إدارة بايدن.
ومن غير المستبعد أن تشمل هذه المؤشرات في المستقبل القريب استجابة وموافقة واضحة من واشنطن على طلبات وموافقات سياسية معينة تخص تطورات مستقبلية في بعض دول المنطقة كانت ترفض إعطاءها في العامين الأخيرين.