للزهور وللربيع حكايات كثيرة يجيد التحدث عنها الشعراء، ويُقرِّبها إلى النفوس الملحنون بنغماتهم الشجية التي تَعلق بالأذهان؛ فيظل المرء يردد تلك الحكايات وكأنها حكايته هو، التي ما أن يأتي الربيع؛ حتى تتفتح في وجدانه من جديد؛ مثلما تتفتح زهور الربيع أبيضها وأحمرها وأصفرها وبنفسجها.
وحكايات الربيع وزهوره لا تقتصر فقط على جمال الورود الذي يلتفت إليه كل قلب ينبض بالحب؛ ولكنها أيضا قد تكون حكايات هجر وشقاء وفراق؛ فتحمل في طياتها الحزن والألم مثلما تحمل الفرح والسرور والبهجة. وفي العصر المملوكي أي منذ ما يقرب من سبعمئة عام نظم الشاعر العراقي “صفي الدين الحِلِّـي” [677-752ه/1277-1349م] بعض الأبيات مادحًا جمال الربيع فقال:
زمانُ الرَبيعِ شَبابُ الزَمان
وَحُسنُ الوُجود وُجودُ الحِسانِ
وأطنب في وصف الربيع في قصيدة أخرى قائلًا:
خَلَعَ الرَبيعُ عَلى غُصونِ البانِ
حُلَلًا فَواضِلُها عَلى الكُثبانِ
وَنَمَت فُروعُ الدَوحِ حَتّى صافَحَت
كَفَلَ الكَثيبِ ذَوائِبُ الأَغصانِ
وَتَتَوَّجَت هامُ الغُصونِ وَضَرَّجَت
خَدَّ الرِياضِ شَقائِقُ النُعمانِ
وَتَنَوَّعَت بُسطُ الرِياضِ فَزَهرُها
مُتَبايِنُ الأَشكالِ وَالأَلوانِ
كما كتب عن مصر وربيعها قائلًا:
فَاِصرِف هُمومَكَ بِالرَبيعِ وَفَصلِهِ
إِنَّ الرَبيعَ هوَ الشَبابُ الثاني
إِنّي وَقَد صَفَتِ المِياهُ وَزُخرِفَت
جَنّاتُ مِصرَ وَأَشرَقَ الهَرمانِ
وَاِخضَرَّ واديها وَحَدَّقَ زَهرُهُ
وَالنيلُ فيهِ كَكَوثَرٍ بِجِنانِ
وَبِهِ الجَواري المُنشَآتُ كَأَنَّها
أَعلامُ بيدٍ أَو فُروعُ قِنانِ
نَهَضَت بِأَجنِحَةِ القُلوعِ كَأَنَّها
عِندَ المَسيرِ تَهُمُّ بِالطَيَرانِ
ناهيك عن وصفه في قصيدة أخرى للقاهرة التي كان يزورها للتجارة فقال عنها:
لِلَّهِ قاهِرَةُ المُعِزِّ فَإِنَّها
بَلَدٌ تَخَصَّصَ بِالمَسَرَّةِ وَالهَنا
أَوَ ما تَرى في كُلِّ قُطرٍ مُنيَةً
مِن جانِبَيها وَهيَ مُجتَمَعُ المُنى
وقال عن نيلها:
وَفي النَيلِ إِذ وَفّى البَسيطَةَ حَقَّها
وَزادَ عَلى ما جاءَهُ مِن صَنائِعِ
فَما إِن تَوَفّى الناسُ مِن شُكرِ مُنعِمَ
يُشارُ إِلى إِنعامِهِ بِالأَصابِعِ
وهكذا يظل حُسن الحديث نابعًا من طيب الكلمات، فكلما كانت الكلمات راقية وكلما تمكنت الألحان والنغمات الموسيقية من أن تزيدها جمالا وحُسنًا كلما كُتِب لها الخلود عبر الأجيال. وكم من قصيدة بديعة تم هجر أبياتها عبر الزمان! بينما أخرى قد تم تداولها بين العوام بسبب جمال موسيقاها ولحنها، فإذا ما تكاملت النغمات الشعرية مع النغمات الموسيقية؛ فستُطرِب الآذان وينتشي الوجدان وتعلق بالأذهان. أما إذا فسدت العقول وتم تغييبها عن التفكير في المعاني، كي يتحقق إلهاؤها عن الانشغال بالقضايا المطلوب منها الدفاع عنها، فلن يكون هناك سوى الغث من كل شيء؛ فتسود الرداءة والفساد والقبح، وتنكشف سوءات المجتمعات، ولا يكون هناك سوى الرذائل والدنايا التي كلما اُنْغُمِسَ فيها كلما صَعُبَ الابتعاد عنها.
لذلك سنحاول أن نلقي الضوء على ما كان يُسْتَمَعُ إليه منذ زمن ليس ببعيد؛ كي نسترجع تلك الحالة الشعورية والمزاجية، التي كان يحياها من سبقونا، علَّنا نطرب لما كان يطربهم؛ فنستعيد البهجة التي يجب أن تتخلل الحياة العامرة بالمعاني والأحلام، والزاخرة بالقضايا والأهداف العامة، فيعود بذلك مجتمعنا نابضًا بالحرية والكرامة من جديد.
وفي هذه المجموعة من المقالات سيكون حديثنا عن الربيع وزهوره من خلال قصائده المغناة على مدار القرن الماضي؛ وكيف كانت تدعو إلى تأمل الطبيعة وجمالها خاصة في الفصل الذي تتفتح فيه الزهور، وكيف حمل فصل الربيع للمحبين ذكريات الفراق والألم؛ جنبًا إلى جنب مع ذكريات اللقاء بين الأحبة وعذوبته. كما سنعرض في مجموعة أخرى من المقالات أغاني الربيع والزهور الخفيفة والقديمة وقصائد العامية الشهيرة والأخرى المنسية.
ولنبدأ الآن بواحدة من قصائد الفصحى لشاعر العصر المملوكي، الذي سبق وذكرناه وهو الشاعر “صفي الدين الحِلِّي” والتي تغنت ببعض أبياتها الفنانة “وردة الجزائرية”[1939-2012م] ولحنها لها الموسيقار “بليغ حمدي” [1931-1993م] في مسلسل “الوادي الكبير” عام 1974م، وهي قصيدة “وَرَدَ الربيع فمرحبًا بوروده” التي عدَّل في أبياتها “نزار العظم” صاحب قصة هذا المسلسل، والذي كتب له أيضًا السيناريو والحوار. وقد كان ذلك المسلسل من إنتاج تليفزيون لبنان وتم تقديمه باللغة العربية الفصحىى. وفيما يلي بعض أبيات القصيدة الأصلية التي غنتها “وردة” بعد أن تم تغيير بعض كلماتها.
وَرَدَ الرَبيعُ فَمَرحَبًا بِوُرودِهِ
وَبِنورِ بَهجَتِهِ وَنَورِ وُرودِهِ
وَبِحُسنِ مَنظَرِهِ وَطيبِ نَسيمِهِ
وَأَنيقِ مَلبَسِهِ وَوَشيِ بُرودِهِ
فَصلٌ إِذا اِفتَخَرَ الزَمانُ فَإِنَّهُ
إِنسانُ مُقلَتِهِ وَبَيتُ قَصيدِهِ
وَتَجاوُبُ الأَطيارِ في أَشجارِهِ
كَبَناتِ مَعبَدَ في مَواجِبِ عودِهِ
وَالوَردُ في أَعلى الغُصونِ كَأَنَّهُ
مَلِكٌ تَحُفُّ بِهِ سَراةُ جُنودِهِ
وَالياسَمينُ كَعاشِقٌ قَد شَفَّهُ
جَورُ الحَبيبِ بِهَجرِهِ وَصُدودِهِ
وفي مصر سنبدأ رحلتنا مع قصائد الربيع وزهوره؛ بالحديث عن واحدة من أجمل القصائد المغناة، والتي شدت بها مطربة من مطربات الإذاعة المصرية في أواخر الأربعينيات وهي المطربة “جيهان” أو (سارة أحمد مسعود) [1920-1959م]. وإذا كانت تلك المطربة المنسية قد وافتها المنية في سن صغيرة، إلا إنها قد شاركت في العمل الإذاعي (عذراء الربيع) الذي غنت فيه قصيدة “هيا إلى المروج” وكانت من الصور الغنائية في ذلك العمل، الذي أخرجه “محمد محمود شعبان” (بابا شارو) [1912-1999م]. وهي من ألحان الملحن المبدع “محمود الشريف” [1912-1990] ومن كلمات الشاعر الغنائي “عبد الفتاح مصطفى” [1924-1984] الذي كتب في الستينيات لكوكب الشرق “أم كلثوم” أغنيتها الشهيرة “طوف وشوف”.
المطربة “جيهان”
هيا الى المُروج هيا الى الرُّبى
نستقبل الصباح مُعطّر الصَّبا
هيا هيا
ابنة هذا النور في غصنك المسحور
حياكي يا آذار يا بهجة النوار
هيا هيا
ها قد صفا الغدير وأزهر الكرْم
و رنَّم العصفور كأنه حُلم
هيا هيا
الورد من دمي صبغته دمى
ورائق الندى من رقة فمى
هيا هيا
يا خضرة الوديان يا فرحة الشطآن
حياكي يا آذار يا جنة النوار
هيا هيا
وفي المقال القادم سنواصل رحلتنا مع القصائد المغناة باللغة العربية الفصحى عن الربيع والزهور.