بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري
نقلًا عن مصر 365
في الأيام الثلاثة الماضية، برزت أهمية طرح ملف «تحويلات المصريين بالخارج» على أجندة موضوعات الحوار الوطني المرتقب عقده خلال الفترة المقبلة، ففي هذه الأيام صادف كاتب هذا المقال، خبرا صحفيا ومقابلة تلفزيونية أعطيا هذا المصدر الهام من مصادر الدخل القومي الدولارية قيمة مركزية في كيفية التعامل مع الأزمة الاقتصادية الخانقة، وفي ضرورة إعادة النظر في الأولويات التي سيطرت على الإنفاق في السنوات الماضية والتي يبدو أن هناك توافقا عاما على أهمية مراجعتها جذريا وترتيبها من جديد.
أما الخبر، فهو تقرير صادر عن البنك الدولي يقول إن تحويلات المصريين بالخارج ستزداد بنهاية العام الحالي بنسبة 8%، أي 3.5 مليار دولار لتتجاوز الـ34 مليار دولار، علما بأنها زادت العام الماضي بنسبة تزيد عن 6% وبلغت حوالي 31,5 مليار دولار.
وعندما نعرف أن تحويلات المصريين في الخارج في العام الماضي تساوي تقريبا مجموع عائدات السياحة وقطاع النفط والغاز وقناة السويس التي بلغت معا حوالي 32 مليار دولار، وأن تحويلات المصريين في الخارج تتساوى تقريبا مع قيمة كل الصادرات السلعية غير النفطية العام الماضي، نتأكد من وزنها النوعي في الاقتصاد المصري بسبب «اختلالاته الهيكلية»، وهنا يأتي دور المقابلة التلفزيونية والتي كانت دارت قبل أيام بين الإعلامي شريف عامر ورجل الأعمال أحمد هيكل الذي أكد فيها على أن أهم مصدر للعملة الأجنبية في مصر الآن هو تحويلات أبنائها في الخارج، وأنهم أهم ما تصدره مصر للعالم، أي يمكننا القول باختصار إن «أهم صادرات مصر هي ثروتها البشرية».
وهنا أتساءل، من الذي صنع هذه الثروة البشرية؟ لا شيء غير عملية التعليم الواسع والمجاني التي اتبعتها الدولة المصرية بعد ثورة يوليو 1952، والتي قضت على أكبر ركود اقتصادي وجمود طبقي في مصر وفتحت الباب للطبقات الوسطى والفقيرة لاستخدام التعليم كأكبر رافعة للحراك والترقي الاجتماعي.
ما يؤكد هذا هو أن تحويلات المتعلمين تمثل القسم الأهم من تحويلات المصريين في الخارج.
فهذا التعليم الواسع والمجاني -الذي سخرت منه ولاتزال نخبة الانفتاح الاستهلاكي- هو الذي وفر المُعلم والمهندس والطبيب والمترجم والصيدلي والصحفي والقاضي وأستاذ الجامعة.. إلخ، الذي تحتاجه عملية التنمية السريعة في دول الخليج العربية وحتى في بعض دول العالم المتقدم في عدد من التخصصات الدقيقة كما أثبتت تجربة جائحة كورونا حيث بات أطباء مصر وبلدان أخرى أثناء موجتها الأولى والثانية هدفا لإغراءات الدول الغربية لسد العجز لديهم في الأطقم الطبية .
ويمكن بسهولة هنا تصور الزيادة التي قد تحدث في حصيلة تحويلات المصريين في الخارج، إذا تمت استعادة مصر جودة التعليم، التي ظلت قائمة حتى حرب أكتوبر تقريبا -راجع في هذا الصدد مقاطع الفيديو ذائعة الانتشار على موقع «يوتيوب» للحاصل على جائزة نوبل العالم الراحل أحمد زويل، أو مفتي مصر السابق الدكتور علي جمعة.
ويمكن أن نطرح هنا 4 قضايا على الحوار:
تحويلات المصريين في الخارج أو ما يسميه تقرير البنك الدولي نفسه بـ«التجاوب الإيثاري للمصريين بالخارج تجاه الصعوبات التي يشهدها اقتصاد بلدهم»، تضع النقاشات حول النمو السكاني في سياقها الموضوعي دون تهويل أو تهوين، فمن الصحيح العمل على ضبط معدلات النمو السكاني عند مستوى معقول بما لا يتجاوز معدلات النمو الاقتصادي المتحققة، لكن من الصحيح أيضا الحفاظ على طبيعة النمو السكاني ذات الطبيعة الشابة التي تتصف بها مصر والمجتمعات العربية عموما، حيث يشكل الشباب نحو ثلثي السكان في مقابل أمم تعاني من الشيخوخة، وتعاني بالتالي من نقص فادح في القوة العاملة والطاقة البشرية. بسبب الثروة البشرية المصرية الشابة المتعلمة تحولت مصر الي «بنك الخبرات البشرية للمنطقة العربية» كما كانت تردد دوما وعن حق النخب الكبيرة في منطقة الخليج التي سبق وأن عرفت لمصر حق قدرها.
تحويلات المصريين في الخارج رغم أنها مصدر دولاري يتأثر صعودا وهبوطا بالضغوط الخارجية مثل أسعار النفط والتوترات الإقليمية – يمكن هنا مراجعة اثنتين من أسوأ أزمات عودة أقسام كبيرة من العمالة المصرية في الخارج في عهد مبارك في 1986 مع الانخفاض الحاد وقتها في أسعار النفط إلى دون 8 دولار أو بعد غزو العراق للكويت وحرب تحرير الكويت 1990-1991، مثلها في ذلك مثل عائدات السياحة والنفط وقناة السويس، إلا أنها تعد أقل هذه الموارد تذبذبا ويمكن القول أنها بشكل عام في اتجاه تصاعدي ( حدثت تراجعات طفيفة في سنوات قليلة).
بالتالي تعيد تحويلات المصريين في الخارج كمصدر للعملة الأجنبية الاعتبار لأولوية الاستثمار في التعليم ورفع مستويات الخريج المصري في كل التخصصات خاصة مع زيادة القدرة التنافسية لبقية الدول المصدرة للعمالة. ويحتاج هذا إلى التصدي للحملات المغرضة من لوبي التعليم الخاص ضد مجانية التعليم وتطوير التعليم الفني، فرغم كل الضجيج من المدارس والجامعات الدولية وانتشارها المخيف بدون تخطيط وبشكل أضر بعملية التنشئة الوطنية لا تستطيع هذه المؤسسات التعليمية الخاصة سد حاجة سوق العمل الإقليمي والحفاظ على حصة مصر فيه، وهي حصة ثبت في ظل إخفاق الدولة المصرية والقطاع الخاص في الخمسين سنة الأخيرة في التصنيع والتصدير السلعي أنها مسألة حياة أو موت للاقتصاد المصري خاصة من ناحية قدرته على تدبير موارد النقد الأجنبي لاستيراد سلع استراتيجية مثل القمح والزيوت أو مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي.. إلخ.
يصغر ويتضاءل حجم وقيمة المعونة الأمريكية التي كلفت مصر الكثير من استقلالها السياسي والاقتصادي، وأضعفت دورها العربي والإقليمي عندما نعرف أن إجمالي تحويلات المصريين في الخارج في عشر سنوات فقط (205 مليار دولار) يقترب من ثلاثة أضعاف إجمالي تحويلات المعونة الأمريكية لمصر في خمسين سنة أو أكثر (75 مليار دولار). كذلك تبدو الشروط التي ارتبطت بهذه المعونة عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي الخاضعين لهيمنة واشنطن بالغة الإجحاف – بدءا من فرض بيع القطاع العام والخصخصة وبيع البنوك وشركات التأمين العامة ورفع الدعم وحتى إجبار مصر على برامج تصحيح هيكلي في عامي 1976 و1991 وغيرها قادت عادة إلى توترات سياسية وزيادة في معدلات البطالة واتساع الهوة بين الطبقات- إذا قارنتها بالضغوط المحدودة التي تملكها الدول العربية النفطية للضغط على مصر باستخدام ورقة العمالة المصرية مع ملاحظة أن انتقال هذه العمالة بالأساس هو عرض وطلب وحاجة متبادلة للطرفين. بعبارة أوضح فإن تطوير التعليم المصري وخريجيه يمكن مصر مستقبلا من الاستغناء الكامل عن المعونة الأمريكية وفك القيود التي تكبلها والتصرف بحرية أكبر في تسيير اقتصادها وسياستها الخارجية.
يمثل التعليم والصحة -مع ما تبقى من الدعم وبرامج الحماية الاجتماعية- أحد أهم أوجه الإنفاق العام لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية ومبدأ تكافؤ الفرص، ويمثل إخفاق الحكومات المتتالية في الالتزام بالنسبة المقررة في الدستور للإنفاق على التعليم وهي 6٪ دليلا على نهج «نيو ليبرالي» لا يراعي بشكل عادل أو حتى كاف الفئات الفقيرة (الإنفاق على التعليم في موازنة 2021 يقل عن النصف أي يقل عن 3%) الأخطر اقتصاديا أنه لا يراعي هنا حتى المصلحة البراجماتية لهذه الحكومات نفسها في الحاجة لتأمين موارد نقد أجنبي كافية واحتياطيات نقدية دولارية كافية سواء لمواجهة تكاليف الاستيراد أو لتقليل الحاجة إلى الاقتراض الخارجي الذي أصبح يمثل الوحش المخيف الذي يلتهم تقريبا كل الفائض الأولي ويحوله إلى عجز مستمر.
على المدى القصير فإن رفع الاستثمار في التعليم إلى نسبته الدستورية أو قريبا منها يضمن استمرار المصدر الرئيس للعملات الأجنبية وهي تحويلات المصريين في الخارج .
وعلى المدى المتوسط والطويل تصبح استثماراتهم العائدة وعودتهم هم أنفسهم لوطنهم إضافة للتنمية في مصر وليس عبئا على سوق العمل. الهجرة بطبيعتها طالت أم قصرت لابد وأن تنتهي خاصة مع تزايد أعداد الكوادر الوطنية الخليجية المتعلمة والمدربة.
على الحوار الوطني أن يشرح أن المصلحة العامة للدولة وكيانها الوطني وإمكانية خروجها من الأزمة الاقتصادية مرهون بإعادة ترتيب هرم الأولويات المقلوب، ويوضح للذين يريدون تأجيل الاستثمار في التعليم ويفضلون الاستمرار في التشييد والبنية التحتية إلى ما لا نهاية أنهم يعرضون تدفقات تحويلات المصريين العاملين بالخارج وهي المورد الأساسي لتوازن ميزان المعاملات الجارية لخطر داهم. هؤلاء لا تقل خطورة أفكارهم عن خطورة أفكار الذين يرفضون تقييد الاستيراد -راجع الأرقام المحزنة لقوائم الاستيراد الترفي المستفز الذي تمكنت بعض الصحف أخيرا من إعلانه للجمهور العام غير المتخصص بعد سترها زمنا طويلا من أول السيارات الفارهة والمجوهرات الفاخرة إلى أطعمة القطط والكلاب.. إلخ.
وإذا كان من الواجب تذكير الفريق المعادي لتقليل الاستيراد أنه لا بديل ولا مناص عن الإنفاق على الزراعة التصنيع والقطاع السلعي، وبالتالي زيادة قيمة الصادرات على قيمة الواردات وحتى تذكيرهم بالشعار القديم ولكن الذي يظل صحيحا «التصدير أو الموت»، يجب أن نُذكر أيضًا أصحاب منهج الإنفاق على البنية التحتية إلى ما لا نهاية بـشعار «استثمر في البشر ولا تستثمر في الحجر».
الاستثمار في التعليم والصحة هو من أوقف الاقتصاد المصري على قدميه طيلة السنوات الصعبة الأخيرة كما ثبت ذلك بجلاء من تدفقات تحويلات المصريين في الخارج.