مختارات

للإحباط العام في مصر.. أسباب أخرى!

بقلم: حسين عبد الغني، إعلامي وصحفي مصري

نقلًا عن صحيفة مصر 360

حسين عبد الغني

 

 

 

 

هل السبب الوحيد لإحباط المصريين الشديد من أداء السلطة هي الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تعصرهم عصرا؟ أم أن هناك أسبابا أخرى؟

‎للإجابة على هذا السؤال لابد لنا من العودة إلى بداية الحكم القائم.

‎ولعل اللقطة المؤسسة لهذه البداية وللعلاقة بين الرئاسة المصرية الحالية والشعب هي لحظة ترشيح السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه لرئاسة الجمهورية.

‎إذ اختار المشير عبد الفتاح السيسي أن يطرح نفسه على الشعب المصري للمنصب “المدني” الأهم في النظام السياسي المصري وهو يرتدي زيه العسكري كقائد عام للجيش المصري.

‎كان الرئيس السيسي ومعاونوه الذين يعرفون أن هذه اللحظة حاسمة في بناء “صورته الذهنية” لدى المصريين وفي صياغة العقد الاجتماعي غير المكتوب معهم، ولكنهم رغم ذلك قاموا بمخاطرة كبرى في اختيار أن يترشح بالزي العسكري بكل رسائله المبطنة للجمهور العام.

‎لماذا قبل المرشح الرئاسي آنذاك ومخططوا حملته الرئاسية هذه المخاطرة؟ لأنه وبحساب المكاسب والخسائر فقد كانت المكاسب من الترشح بالزي العسكري للجيش المصري في هذه اللحظة من تاريخ البلد أكبر بكثير من الخسائر.

كانت هذه الحسابات تقول إن الشعب المصري الذي كادت هويته الوطنية والحضارية أن تضيع في سنة حكم الإخوان وأنهكته من قبلها سنة وأربعة شهور من الحكم المرتبك للمجلس العسكري كان ينظر للجيش وقائده باعتباره المنقذ الذي انضم للانتفاضة الشعبية ضد نظام الإخوان وساعد في إسقاط حكم المرشد أو على الأصح حكم نائب المرشد والقادر على وقف الفوضى ومواجهة الإرهاب الذي أطل برأسه بعد 30 يونيو، والقادر أيضا على وقف التدهور الاقتصادي والمعيشي في حياة الشعب اليومية.

‎العقد الاجتماعي غير المكتوب الذي عقد في هذه اللحظة بين غالبية الشعب المصري من “كتلة الاستقرار أولا” في صورة تأييد السيسي رئيسا كان يتلخص في أن المصريين -من غير النخب التي كانت تخشى وعن حق من ضياع مكاسب ثورة 25 يناير التي جعلت الشعب طرفا رئيسيا في موازنة سلطات الحاكم- كانوا يوافقون على حكم يديره الرئيس ومسؤولون كلهم من أصول عسكرية “طازجة للغاية ” وإن حجب هذا جزءا من الحريات العامة التي انتزعتها ثورة يناير بدماء شهدائها مقابل أن تقوم مجموعة الحكم الجديدة بنقل الحزم والانضباط والجدية وسرعة الإنجاز التي عرفت به المؤسسة العسكرية إلى حياة مصر المدنية التي كان حكم مبارك البليد على مدى 30 عاما قد أورثها الفساد والترهل واحتقار القانون وسيادة الاستثناءات وقانون الأغنى والأقوى والأعلى صوتا في حالة فوضى مجتمعية كاملة، ولهذا لم يكن غريبا أن يكون أهم فيلم عبر عن هذه المرحلة عنوانه.

ثورة 25 يناير
ثورة 25 يناير

“هي فوضي”

‎لعل هذا يفسر من ناحية لماذا كان الانقضاض على الحريات العامة وتعطيل مواد الدستور في الباب الثالث وفض تحالف 25 -30 الذي قاد انتفاضة 30 يونيو انقضاضا سريعا وقاسيا من السلطة دون خوف كبير من تآكل رصيدها الشعبي الكبير آنذاك.

وهو يفسر من ناحية ثانية لماذا سكت المصريون على مضض لنحو 8 سنوات متحملين أنات آلاف البيوت المصرية التي سجن أبناؤها من التيارات المدنية لا لذنب إلا إصرارهم على عدم التخلي عن الأحلام الكبرى لثورة يناير.

‎التآكل الكبير في هذا الرصيد الشعبي وتزايد حالة التذمر وعدم الرضا الحالي وارتفاع منسوب ما يمكن وصفه بحالة القلق العام والاكتئاب العام الذي يهيمن على مشاعر ووجوه المصريين الآن لا يعود فحسب إلى الأزمة الاقتصادية الخانقة التي يعيشها المواطن المصري وكوت نارها كل الطبقات الاجتماعية

‎حتى تلك منها التي كانت مستورة وتمثل كتلة “الاستقرار أولا” ولكن يعود أيضا إلى الوعود الكثيرة غير العلنية في العقد غير المكتوب الذي بمقتضاه منح المصريون أصواتهم لقائد الجيش وقتها عندما طلب تأييدهم.

‎ماذا توقع المصريون من نخبة حاكمة قادمة من الجيش بـ حزمه وصرامته.. وعندما لم يتحقق هذا التوقع بعد مرور نحو “9” أعوام على توليها السلطة كانت روافد إحباط حقيقية قد صبت مياها إضافية في مجرى النهر الأكبر الذي كان قد صنعه التأزم الاقتصادي والتدهور الخطير في معيشة أغلب المصريين؟

‎توقعت “كتلة الاستقرار” أن تحصل من حزم وضبط وربط العسكريين -الذين أصبحوا مدنيين بعد انتخاب المشير رئيسا شرعيا للبلاد- على حلول وخلاص لمشكلات مزمنة دهمت المجتمع والشارع المصري وتكاد تكون غيرت شخصيته الوطنية ونمط قيمه الذي تراكم في طبقات حضارية على مدى آلاف السنين

مظاهرات 30 يونيو
مظاهرات 30 يونيو

من هذه المشكلات:

‎- الإخفاق في كبح جشع التجار وكبح زيادة الأسعار

‎استدعى المصريون خبرة النظم العسكرية أو القادمة من أصول عسكرية التي عرفها العالم وخلاصتها أنها بما اتصفت به من حزم وشدة وبسبب رغبتها في اكتساب شعبية سريعة تمكنت من فرض رقابة صارمة على تزايد أسعار السلع خاصة الأساسية منها والسيطرة على غلاء المعيشة وتمكنت من إخافة التجار الجشعين ومنعتهم عبر إجراءات حكومية صارمة من الاستمرار في تحقيق أرباح غير معقولة من عمليات الاحتكار وتعطيش السوق.

‎لكن ما حدث هو أن الدولة المصرية التي أخافت السياسيين والناشطين ودفعتهم للشقوق في السنوات التسع الأخيرة.. شقوق السجن أو الصمت أو الهجرة كانت دولة لينة وخائفة من خدش شعور التجار والمستوردين المرهف وعاجزة عن الاقتراب من ملف الأسعار وكبح جشع التجار حتى عندما تبين لها بإحصاءات أجهزتها الرسمية أن الارتفاع الجنوني في الأسعار أكبر بكثير من ارتفاع قيمة الدولار أمام الجنيه وهي الكذبة الوقحة التي يرددها القطاع الخاص الكبير ليل نهار لتبرير التضخم الذي عبر حاجز العشرين في المائة مؤخرا.

‎ولم تجرؤ الحكومة على الوقوف مرة واحدة مع الفقير وصاحب الدخل المتوسط وأقصى ما ذهب إليه انسحابها أمام نفوذ طبقة الأغنياء وإعلاميين يعملون حرفيا لضمان مصالح هذه الطبقة هو دعوة القطاع الخاص إلى العطف على الشعب ووضع أسعار السلع. تصوروا كيف يرى العالم بلدا باتت أغلى أمانيه أن يعرف الشعب فيه سعر السلعة التي يشتريها مهما غالى البائع وتمادى في هذا السعر.

هنا وعندما يقارن المصريون كيف كبحت الدولة السياسة والسياسيين وكيف أخفقت في كبح جشع التجار وغلاء المعيشة لابد أن يصيبهم هذا الإحباط العام.

تحويلات المصريين بالخارج
أزمة الدولار في مصر

‎عدم كبح الفساد

‎في عهد مبارك خاصة في النصف الثاني من حكمه حدث التزاوج الحرام بين الثروة والسلطة وساحت وذابت الفوارق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة وصار الحكم في قرارات الاقتصاد الكبرى والتصرف في أصول الدولة تحت رحمة سيف تضارب المصالح للوزراء – رجال الأعمال.

‎وتحول فساد الانفتاح الاقتصادي والقطط السمان في عهد السادات إلى فساد ممنهج ومقنن في عهد مبارك بتشريعات توالت في السنوات العشر الأخيرة لحكمه منذ سيطرة الحرس الجديد ولجنة السياسات علي الحزب الوطني الحاكم والحكومة آنذاك.

‎راهن المصريون هنا أيضا على أن العسكريين -الذين باتوا مدنيين- سيقطعون بما عرف عنهم من صرامة شجرة الفساد التي ألقت فروعها بظلها الكئيب على مصر كلها وحجبت شمس الإنصاف والمساواة في فرص الحياة والترقي الاجتماعي.

‎لكن ما حدث هو أن مستويات الفساد لم تتراجع قيد أنملة، وما تراجع فقط هو ثقة المصريين في أن السلطة القائمة تبذل جهدا حقيقيا لكبح الفساد وقطع جذوره الملتفة كثعبان أرقط تحت أرض هذا الوطن.

‎في استطلاع رأي أخير لمعهد واشنطن ذكر غالبية المستطلعين المصريين بشكل مليء بالإحباط أن الدولة لا تفعل ما يكفي لمنع الفساد، فإذا أضفنا إلى ذلك نسبة مماثلة رأت أيضا أن الدولة لا تفعل ما يكفي لتطبيق نظام ضرائب عادل لعرفنا مستوى الخذلان الذي شعر به مواطنون تغاضوا عن الحريات العامة وحرية التعبير في مقابل أن توزع النخبة الحاكمة الجديدة ثروة الوطن بقدر من العدالة يحول دون تحقيقها فساد مستشر ونظام ضرائب ينحاز للأغنياء.

الازمة السكانية فى مصر

عدم إنهاء فوضى الشارع المصري أو إعادة حكم القانون:

‎هذه ربما كانت أكثر مهمة توقع المصريون أن ينجح فيها وبسرعة حكام لم يعرفون في كل حياتهم المهنية السابقة في الجيش الوطني سوى الانضباط والمساواة في الشدة والحزم حتى لو وصل الأمر إلى تطبيق قاعدة صارمة هي “الحسنة تخص والسيئة تعم”.

‎ وأملوا أن ينقلوا هذا إلى شارع منفلت لم تعد فيه النساء تأمن على نفسها من التحرش والاغتصاب، وأن تنتهي جمهوريات الميكروباص وجمهوريات التوك توك وفوضى المرور وحوادث الطرق المخيفة، وأن يتم السيطرة على انتشار المخدرات الطبيعية والمصنعة وبيعها بشكل شبه علني مكتسحة شباب الأمة من كل الطبقات

‎ وكان ابتعاد النخبة الحاكمة الجديدة عن الحياة المدنية في عهد مبارك أحد الأسباب الإضافية التي زادت في توقعات المصريين بنجاح السلطة في التغلب على مصدر كبير لمعاناتهم اليومية إذ عني ذلك في العقل الجمعي أنهم ليسوا جزءا من شبكة المصالح التي استفادت من فوضي الشارع وغياب حكم القانون الذي يفترض أنه لا يفرق بين غني وفقير وأنها ليست مدينة أو مضطرة لتسديد فواتير لأحد.. ولكن جاءت الريح هنا أيضا بما لا تشتهي سفن المصريين، إذ أدى تركيز الأمن لمعظم قدراته على الأمن السياسي إلى تقليل التركيز على الأمن الاجتماعي وبالتالي إلى استمرار الفوضى الاجتماعية في الشارع المصري وتفاقمها، ولم تقابل التضحية بحرية التعبير والمشاركة السياسية بمكسب عودة الانضباط والمساواة أمام القانون.

جمال مبارك برفقة والده وعلاء مبارك

‎الإخفاق في كبح العنف الاجتماعي والأسري الذي ارتفع لمستويات غير مسبوقة:

‎رغم كل السلطات المطلقة غير المسبوقة في تاريخ مصر الحديث منذ دستور 1923 التي منحتها السلطة للمؤسسة الأمنية في السنوات التسع الأخيرة فإن تركيز المؤسسة على استخدام هذه السلطات في الأمن السياسي ومهام حفظ أمن النظام قادت إلى الإحباط الرابع للمصريين من مرحلة جديدة توخت منها أن تنهي عهد الدولة الرخوة والنظام القوى التي ذاقت مرارتها وعرفتها تمام المعرفة في عهد مبارك.

‎لا شيء تغير فالدولة ظلت رخوة والنظام ظل قويا بدليل أن أكثر ما أخاف المصريين منذ بدء الألفية الثانية وهو انفجار مستويات العنف الاجتماعي قد تحقق، والغريب وللأسف أنه تحقق في ظل جهاز أمني يحكم البلاد بقبضة حديدية.

‎تقول كل التقارير الدولية والمحلية في السنوات الأخيرة أن مصر عرفت بعض أعلى معدلات العنف الاجتماعي والأسري وحوادث القتل والاغتصاب وزنى المحارم وأكبر نسب للطلاق في العالم ومعدلات البلطجة وفرض السيطرة ومشاجرات الشوارع وارتفاع كل مؤشرات الجريمة ككل. ورغم سياسة حجب التقارير الدورية عن الأمن العام وتقارير بحوث المراكز الاجتماعية في السنوات الماضية فإن مطالعة صفحات الحوادث في الصحف والمواقع المصرية وتقارير المنظمات الدولية المهتمة بدراسة مستويات الأمان الاجتماعي تعطي فكرة واضحة عن إخفاق سلطة ارتدت ثوب الحزم منذ البداية وتصور الجميع أنها ستردع الجريمة ردعا وتسيطر على العنف الاجتماعي والأسري الذي لا يتوافق مع طبيعة مجتمع نهري مستقر يميل تاريخيا إلى التكافل والحلول التوفيقية للمشكلات الاجتماعية إلى مجتمع بات أبناؤه يمارسون العنف ضد بعضهم البعض خاصة مع تزايد الفقر والفجوة الطبقية وانعدام الأمل في الغد وتراجع بل اختفاء حريات التعبير السلمي فصاروا يتنفسون غضبا في بعضهم البعض.

‎الأزمة الاقتصادية الطاحنة هي “أم” الإحباط العام والسبب الرئيسي لانحسار الرضا الشعبي ولكنها ليست الوحيدة فلو كانت السلطة الحالية بما توسمه المصريون فيها من نقل للحزم والمساواة في المؤسسة العسكرية للحياة المدنية قد حققت وعودها الضمنية وعقدها الاجتماعي غير المكتوب بينها وبين المجتمع لكان الإحباط أقل ولبقي شيء من رصيدها عند الناس.

‎ماذا عن الإحباط الخامس والسادس.. إلخ، يكفينا هنا فقط وبحزن أن نستعيد شعر نجيب سرور “الإحباط الخامس محبط فليعبر من غير هوامش!”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock