ثقافة

الكتابة الساخرة صنعت في مصر بريادة المتنبي والبشري والنديم

يقول المصريون هذا رجل “ابن نكته” وصف بليغ موجز يوضح عشق المصريين للفن والشعر الساخر.. فقد عرفت مصر فنون الكتابة الساخرة بشكل واضح، مع ظهور النبوغ المبكر للشيخ عبدالله الشبراوي, أصغر من تولي مشيخة الأزهر، وكان في الرابعة والثلاثين من عمره, شابا صغير السن، راجح العقل، شديد الرشد, يدخل صحن الجامع بشوشا مرحا؛ يتكلم بلغة بسيطة –وإن تضمنت فنون السجع– وإذا وجد طلابه في حالة ضيق؛ يبدأ في سرد كتاب النكت الطريفة لحسن الكوثري, وهو الشاعر الذي غنت له كوكب الشرق أم كلثوم قصيدة “أنت المني” وهي من أكثر القصائد التي تبدلت كلماتها لتكون ساخرة مع عبد الحليم حافظ.

قبل الشبراوي كان الشعر العامي لا نراه في صحن الجامع الأزهر، ومن يأتيه يكون فاسقا! لكن تسامح الشبراوي فتح الطريق للشعراء للإجادة في نظمه وإلقائه.

 جمع الشبراوي بين عدة مواهب، فكان شاعرا متميزا وكاتبا مرموقا بمقاييس عصره، كما كان فقيها متعمقا في أصول الفقه والحديث وعلم الكلام, يصفه الجبرتي في ترجمته بأنه “الإمام الفقيه المحدث الأصولي المتكلم الماهر الشاعر الأديب” ويقول عن البيئة التي نشأ فيها إنه “من بيت العلم والجلالة، ووصفه بالحفظ وخفة الظل والذكاء.

الجبرتي
الجبرتي

شيخ الأزهر يكتب عن الفول

كان الشيخ الشبراوي يمثل الجيل السابع من رواد المؤسسة الأزهرية, ومثّل نموذجا هاما في التسامح الديني، فقد أجاز بفتوي دينية رسمية، سفر الأقباط للحج في القدس, وكان له صديق شهير في عصره  اسمه الشيخ حسن شمة، رآه مرة يكتب فسأله ماذا يكتب؟ فقرأ عليه الشيخ شمة هذا البيت:

قالوا تحب المدمس؟ قلت بالزيت حار

والعيش أبيض تحبه؟ قلت والكشكار

فضحك الشيخ الشبراوي وقال له: أما أنا فلا أحبه بالزيت حار، بل بالسمن. وأنشده:

قالوا تحب المدمس؟ قلت بالمسلي

والبيض مشوي. تحبه؟ قلت والمقلي

وله شيء غير قليل من المواليا، بعضه في الغزل، وكله رقيق جميل فيه عاطفة، منه:

فلو فتشوا قلبي لألفوا به

سطرين، قد خطا، بلا كاتب

العلم والتوحيد في جانب

وحب آل البيت في جانب.

وقبل ذلك بسنوات ظهرت شخصيات كثيرة في تاريخ مصر.. أحبوها وسخروا من المواجع والفواجع لحال شعبها, فنجد أبو الطيب المتنبي يهيم في حب مصر والمصريين، فيكتب أروع أشعاره بعد أن عاش في مصر حوالي خمس سنوات، تحوّل خلالها لساخر عظيم؛ فكتب ما هو أبلغ من كل حرف:

وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا

أيبكي على الحب يجعل صاحــــ ــــبه ريشة في مهب الهواء

ولم يبك يوماً لمصر وقد حلَ(م) ليلاً بمصر عظيم البلاء

ضحكت فصرت مع القوم أبكي وتبكي علينا عيون السماء

وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء

سكبت عليها الدماء دموعا أرطب تربتها بالدماء

لك الله يا مصر قد كنت أما لقوم نسوك فيا للجفاء

نظرت إذا القوم حولي سكارى كأن الخمور ندى في الهواء

يسيرون حولي إلى اللامكان فأمضي مع القوم نحو الفناء.

 ابن عروس ثم الجاحظ البشري  

في كل عصر يلمع نجم فنجد قاطع الطريق اللص محمد عبد الله (ابن عروس) الذي كتب أروع فنون الأبيات الساخرة في سجع شعبي غير متكرر, فهو يسخر من حاله ومن كل شيء؛ فيقول:

حرامي وعاصي وكداب

عاجز هزيل المطايا

وتُبت ورجعت للباب

هيا جزيل العطايا.

كتب الباحث د. محمد جرادات في كتابه “الكتابة الساخرة الصحافة” في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تجلت الكتابة الساخرة على يد الكاتب عبدالله النديم في صحيفتيه اللتين أسسهما, “الأراجوز” وكانت قمة الكتابة الساخرة، ثم سطر أكثر من سبعة آلاف بيت من الشعر الساخر في “التنكيت والتبكيت” و”الأستاذ” وواصل النديم توهجه الشعري طوال رحلة اختفاء استمرت تسع سنوات كاملة, ولعل واقع النديم مع هزيمة الثورة العرابية، كان سببا مباشرا في تفجر أزجاله الشعبية.  ثم جاء عبد العزيز البشري الذي حوّل الكتابة الساخرة لقيمة أدبية في بداية القرن العشرين، إذ عاصر عدداً ليس بالقليل من كبار الأدباء؛ مثل لطفي السيد، ومحمد حسين هيكل، والزيَات، والعقاد، إلا أنه استطاع أن يَحُوز مكانةً كبيرة بين هؤلاء؛ باعتباره أحدَ أهم الكتَّاب في عصره، حتى لقَّبَه طه حسين بكاتب النيل، ولقب أيضا بجاحظ عصره، فلا شك أن البشري تَركَ آثارًا واضحةً على أدباء عصره.

الكتابة الساخرة الصحافة

اتَّبَعَ البشري الأسلوبَ الساخر في كتابته، حتى أُطلِق عليه شيخ الساخرين؛ لاختلاط جِدِّه بهَزَله، وقد أسَّسَ بفضل أسلوبه هذا مدرسةً خاصةً به تميَّزَتْ بالأسلوب السهل الممتنع. ولم تكن النكتة لتشيع في حديثه فحسب، ولكنها تُنَضِّر أدبه الذي يكتبه أو يلقيه في الإذاعة، أو ينشره في الصحف، وخاصة ما كان ينشره في “المرآة” فإنه ميدان فسيح لنكاته الأدبية الرائعة، وطالما وضع النكتة مع صورة من يتحدث عنه كأنما هي عنوان الموضوع، كأن يكتب تحت صورة حافظ رمضان باشا المتخيلة التي رسم في أعلاها وجه مصطفى كامل باش” ومحمد فريد وجه مصطفى كامل، ووجه فريد كلاهما لازم لوقت الشغل فقط، كما يكتب تحت صورة إبراهيم وجيه باشا الذي كان وزيرا للخارجية معروفا بالمبالغة في الأناقة والعناية بالمظهر، على مفوضينا وقناصلنا، في جميع أقطار العالم موافاتنا تلغرافيا بآخر “مُوْدَة” وكما يصور المغفور له الأستاذ الأكبر الشيخ أبا الفضل الجيزاوي، ويكتب تحت صورته “الحمد لله لم يبق لي إلا مائة ألف جنيه و 5000 سهم بنك عقاري قديم حتى أنقطع”.

كَتبَ البشري في شتَّى مناحي الحياة؛ فكَتبَ في الحياة الاجتماعية عن كلِّ ما يُواجِه المواطنَ البسيط والمثقف في حياته؛ فقد كان حريصًا على أن يرسم صورةً مماثِلةً للواقع المصري. ولم يكن البشري من مؤلِّفي الكُتُب، فقد عبَّرَ عمَّا يَجُول بداخله من أفكارٍ في المقالات الصحفية؛ فهو لم يؤلِّف سوى كتابٍ واحد لوزارة المعارف عن التربية الوطنية، وجاء في كتابة  «في المرآة».

هذا الحوار مع شخص اسمه غراب

 هل طلبني أحد في التليفون يا غراب؟

– لم يطلبك يا سيدي إلا النيابة، والقصر العيني، والإسعاف!

– إذَنْ فامض إلى جريدة الأهرام، وإليك نمرة جلوس ولدي، واسأل: هل نَجَحَ في امتحان الشهادة الابتدائية؟

– سقط يا سيدي، وأغلب الظن أن ليس له مُلْحَق!

– أرجو منك يا غراب أن تراجِعَ لي هذه «النمرة» في كشف سباق الدربي.

– يا خسارة يا سيدي! لقد كان بينها وبين «النمرة» التي رَبِحَت الجائزة الكبرى رقم واحد! .

نقيب الصحفيين الساخر أباظة

وظهر في تلك الفترة الضاحك الباكي فكري أباظة نقيب الصحفيين الذي حول الكتابة الساخرة لفن إذاعي مميز, وكان فكري أباظة قد شارك في ثورة 1919، إذ كان خطيبا وصحفيا وقائدا للثوار، وكان وقت نشوب الثورة متواجدا في مدينة أسيوط وخطب في أكبر كنائسها وألف نشيدا قوميا وقتها تغني به المسلمون والأقباط، وطلبت السلطات البريطانية القبض عليه، ولكنه تنكر وأدعي أنه تاجر حمير، وسافر للقاهرة في قطار يحمل مهمات لقوات الاحتلال، وكان الكاتب الشهير الساخر أحمد رجب يقول: إن هذا النوع من الكتابة سلاح الفقير على الغني، وسلاح الضعيف على القوي، وسلاح المظلوم على الظالم؛ لذلك فهي سلاح الأكثرية، ونقد للواقع ورفض له، لكن بشكل قادر على التعبير، وتمرير المعلومة للمتلقي؛ لأن السخرية ليست تنكيتًا ساذجًا فقط، لكنها نوع من التحايل العميق، وهذا ما يجعل هناك فارقًا بين النكتجي والكاتب الساخر، فالأول يشبه «الحنطور» بينما يشبه الثاني «الطائرة» وقد عبّر أحمد رجب عن الكتابة والفنون الساخرة بكل مشتملاتها  في كتابه “الفهامة”.

فكري أباظة
فكري أباظة

ظل أحمد رجب فترة من حياته يكتب في نقد الحكومة ورئيس وزرائها بذوق وأدب جم، واتخذ لنفسه خطا واحدًا لم يعدل عنه، لكنه اعترف في الوقت ذاته بأن الكتابة الساخرة في عصرنا تعد ثورة على كل شيء، حتى على اللغة، فلا احترام لقواعدها، كما أن هناك ابتعادًا مقصودًا عن «الأكلشيهات» التقليدية، فمن الممكن أن تكون السخرية مضحكة.

كما قدم أحمد رجب للكتابة الدرامية أعمالاً ساخرة، فعلى سبيل المثال في فيلمه «فوزية البرجوازية» الذي اعتبره النقاد من الأفلام التي حفرت في الذاكرة، قدم الواقع الذي تعيشه بعض الأسر، وكان العمل خطوة ناجحة في خلق شخصيات تم استخدامها في أعمال كوميدية خفيفة مثل “كمبورة” السياسي و خميس بيه نجله، جاموسي بيه والبيروقراطي.

 اكتشاف جلال عامر في التجمع

هل الكتابة الساخرة صنعت لمصر؟ هذا السؤال طرحته يوما علي السياسي اليساري العظيم أبو العز الحريري عندما اجتمعنا ذات يوم في جريدة التجمع التي كان يرأس مجلس إدارتها برئاسة تحرير الصحفي النابه الدكتور أحمد الحصري, فقال الحريري لنا: معكم الجريدة, اكتبوا وسوف أحميكم, كان معنا في التجربة النادرة الراحل جلال عامر، والفنان لطفي لبيب والفنان عبد العزيز مخيون وهو كاتب ساخر مميز جدا, بدأ جلال عامر ينشر معنا مقالات  مصر على كف عفريت و”قصر الكلام”، ومئات المقالات في الصحافة، فعرفنا عنه كتابة الجملة الساخرة بسيطة الشكل كثيفة المعنى، ومنه نقتبس “كان نفسي أطلع محلل استراتيجي، لكن أهلي ضغطوا عليا لأكمل تعليمي”، “كل واحد يسأل الآن: مصر رايحة على فين؟ مش تسألوا قبل ما تركبوا؟”، “البلد دي فيها ناس عايشة كويس وناس كويس إنها عايشة”، “احنا الشعب الوحيد الى بيستخدم “المخ” فى السندوتشات” وآلاف الجمل المعبرة عن حال المواطن المصري.

جلال عامر
جلال عامر

 في يوم الجمعة الموافق الثاني عشر من فبراير عام 2012م، شارك جلال عامر في مظاهرة كانت ترفض السلطة العسكرية التي فُرضت على مصر بعد خلع الرئيس “محمد حسني مبارك” وتُطالب بسلطة مدنية منتخبة. وأثناء المظاهرة هجم مجموعة من البلطجية على المظاهرة، فأُصيب جلال عامر بنوبة قلبية أودت بحياته، وكان آخر ما قاله حسب ما ذكرت المصادر الإعلامية “المصريين بيموتوا بعضهم”.

ومن الكتاب الساخرين الذين ظهروا بشكل لافت عمنا الراحل ناجي جورج في حقبة التسعينات  وقد اكتشفه المؤرخ الكبير صلاح عيسي، وهو مدير تحرير الأهالي, كان  ناجي جورج  بحق  أديبا وكاتبا مسرحيا وصحفيا له أسلوبه الخاص, فكتب مئات المقالات لكبرى الصحف وخاصة بجريدة الأهالي تحت عنوان “يوميات موظف”، والتي عبّر فيها عن هموم الطبقة المتوسطة، وقد عمل خبيرا بوزارة العدل لسنوات طويلة, وتزوج من الفنانة “إيفا” وله منها ولدان “نديم، وشريف” كتب للسينما سيناريو وقصة فيلم “الكلام في الممنوع” بطولة نور الشريف. وكتب العديد من المسرحيات للقطاع العام والخاص مثل “عزبة القرود”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock