في عام1908، سيطرت حركة الاتحاد والترقي على مقاليد الأمور في اسطنبول، قبل أن ينجحوا في عزل السلطان عبد الحميد في العام التالي.. انتهج الاتحاديون سياسة العنف والإرهاب مع الشعوب التي كانت خاضعة للدولة العثمانية؛ خاصة الشعوب العربية التي تعرضت للمزيد من الانتهاكات ناهيك عن سياسة التتريك التي اعتمدها الاتحاديون من غلاة القومية الطورانية وعلى رأسهم جمال باشا الذي كان حاكما على سورية، وعُرف بعدائه الشديد للعرب الذين اتهمَ زعماءهم بالخيانة والتآمر على الدولة العثمانية؛ وأعدم عددا من خيرة أبناء العروبة من مدنيين وضباط في السادس من مايو /آيار من العام1916، لتتطور الأحداث بعد ذلك بوتيرة متسارعة؛ ويعلن الشريف حسين بن علي في الأيام الاولى من يونيو/حزيران من نفس العام انطلاق الثورة العربية الكبرى ضد الاحتلال العثماني.
كان الشريف حسين مقربا من السلطان عبد الحميد الذي رفض عرض الشريف باستضافته في مكة، والعمل سويا على استعادة السلطة من أيدي الاتحاديين.. لكن السلطان ارتضى وضعا أقل ما يوصف به بأنه مهين، وغادر إلى سالونيك منصاعا لأمر أعدائه دون أن يبدي أية مقاومة.
في هذه الآونة اكتشف الشريف حسين مؤامرة لاعتقاله من قبل الأتراك بالتواطؤ مع والي المدينة المنورة؛ فأسرع بالتواصل مع الإنجليز بالقاهرة عن طريق إرسال ابنه الأكبر عبد الله إليهم، وبدأت المفاوضات بين الطرفين والتي عُرفت بمراسلات الحسين- مكماهون، والتي توصل فيها الطرفان إلى اتفاق يقضي بأن تقدم بريطانيا الدعم للشريف حسين في ثورته ضد الحكم التركي، وأن تعترف بقيام الدولة العربية المستقلة التي سيكون الحسين ملكا متوجا على عرشها.
رأت بريطانيا في الشريف الحسين بن علي، حليفا قويا يحظى بتأييد واسع بين العرب، ولا يفتقر إلى الشرعية الدينية بوصفه الشريف على مكة والحاكم الفعلي للحجاز، لكن السياسة البريطانية لا تعرف الوفاء بالعهود أو الالتزام بالاتفاقيات، وهذا ما فضحه تسريب اتفاقية سايكس بيكو من جانب البلاشفة بعد انهيار الحكم القيصري في روسيا.
أرسل جمال باشا الاتفاقية إلى الشريف حسين؛ لحثّه على وقف الحرب ضد الأتراك، بعد انكشاف نوايا بريطانيا الحقيقية، لكن الشريف عندما أخبر مكماهون بذلك قام الأخير بإبلاغ الخارجية البريطانية التي أوعزت إليه بالإنكار، والتأكيد على الوعود البريطانية اتساقا مع القاعدة الدبلوماسية الإنجليزية “يمكن إعطاء ما يحلو من الوعود؛ فالوضع يتغير فيما بعد”.. ولم يصمد الإنكار طويلا في ظل انتشار الفضيحة وإثباتها من عدة أطراف؛ واضطرت بريطانيا بعد ذلك إلى تقديم مكماهون ككبش فداء واقالته من منصبه.
بعد ذلك وفي نوفمبر عام 1968، نشرت صحيفة التايمز وثيقة بخط إدوارد لورانس، جاء فيها “إنني فخور ومستريح الضمير، لأن الدم الإنجليزي لم يسفك في المعارك الثلاثين التي شهدتـها، فالعرب الذين أتقنت خداعهم وسقتهم بمئات الألوف إلى مذابح انتصارنا لا يساوون في نظري موت إنجليزي واحد، وكنت أعرف مبكرا أن وعودنا لشريف مكة لم تكن تساوى الحبر الذى كتبت به”.
أخذت بريطانيا ترسل المال والسلاح بقدرٍ لا يعطي للعرب أفضلية حسم الصراع، لكن ربما بما يكفي لدحر الأتراك.. في الوقت الذي دخل فيه الجيش البريطاني من مصر إلى فلسطين ثم إلى الشام، بالتزامن مع وصول فيصل بن الحسين بقواته إلى الأردن، ثم احتلاله مدينة القدس الشريف في ديسمبر 1917،ليلتقي مع الجيش البريطاني على مداخل دمشق في أواخر سبتمبر 1918، وقد استقبل الجيش العربي استقبالا منقطع النظير في دمشق.
في أول لقاء بين الجنرال اللمبي قائد الجيش البريطاني والأمير فيصل في دمشق، بعد يومين من دخولهما إليها، عَيَّن اللمبي فيصلا حاكما على سورية، تساعده قوة بريطانية وضابط ارتباط فرنسي لإبقاء سورية تحت قيادة الحلفاء. وحكم الإنجليز العراق مباشرة من دون اللجوء إلى الحسين أو أحد أولاده، وحكموا فلسطين أيضا وبدؤوا تهيئة الأرض أمام الصهاينة لإقامة دولتهم المزعومة؛ وفاء بالوعد المشؤوم.
لم يكن في وسع بريطانيا المدفوعة بطموح هائل نحو التهام تركة الدولة العثمانية- أن تفي بما وعدت به الحسين الذي اتهمها علانية بالخيانة بعد اتفاقها مع فرنسا على احتلالها لسورية تحت اسم الانتداب، وكان الإنجليز يمارسون كافة الضغوط على الحسين للقبول بوعد بلفور، مع تأجج النزاع بين الهاشميين والسعوديين، وسرعان ما بادر الإنجليز إلى دعم السعوديين، فهاجموا الحجاز واحتلُّوه، وغادر الحسين الحجاز سنة 1924منفيا إلى قبرص، وبقي ابنه “علي” ملكا في جدة، ثم ما لبث ابن سعود أن هاجم جدة واحتلها سنة 1926، وبذا انتهت دولة الحجاز الهاشمية، وظل الحسين محجوزا في قبرص حتى مرض، ونُقل إلى عمّان حيث توفي سنة 1931، ودُفن في القدس، بينما كان ابنه عبد الله يحكم الأردن وفيصل يحكم العراق.
لقد كانت قوى الثورة العربية في موقف حرج طوال الوقت بين مطرقة القوميين الأتراك وسياساتهم الإجرامية تجاه الشعوب العربية، وسندان بريطانيا وفرنسا وأطماعهما وتوجهاتهما اللاأخلاقية التي لا تعرف سوى الخداع والمراوغة وإخلاف الوعود، ومع ذلك فقد تمكنت قوى الثورة من طرد الأتراك من الحجاز وشرق الأردن، حتى بات حلم الدولة العربية الموحدة المستقلة قريبا؛ لكن مخطط الشرذمة البريطاني، كان قد بدأ يفرض نفسه كحقيقة على الأرض؛ فقسمت البلاد إلى ثلاث مناطق عسكرية: جنوبية وتشمل فلسطين تحت الإدارة البريطانية, وشرقية تمتد من العقبة جنوبا حتى حلب شمالا تحت إدارة فيصل, وغربية تضم المنطقة الساحلية من سوريا ولبنان من صور جنوبا إلى كليكيا شمالا تحت الإدارة الفرنسية. واتبع ذلك بالغزو العسكري الفرنسي وفرض الانتداب البريطاني على فلسطين(وشرق الاردن) والعراق, كما فرض الاحتلال الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان.
وكانت أبحاث التنقيب عن البترول في الجزيرة العربية قد بدأت تؤتي ثمارها، ما أوجب تطبيق سياسات استعمارية أكثر دهاء تمنح الممالك استقلالا اسميا، بينما تكون مقدراتها بالكامل في قبضة الشركات التابعة لتلك الدول، وهذا ما قاله صراحة إدوارد لورانس في كتابه ثورة في الصحراء “… لقد فكرنا في مستقبل العالم العربي بعد الحرب العالمية الأولى، ووجدنا أنه ينقسم إلى قسمين، في الشمال دول متقدمة نسبيا لوجود أنهار وفيرة وحضارات قديمة وطبقات نالت حظا من التعليم، بينما في الجنوب صحراوات جرداء لا يزال البترول في باطنها.. فوجدنا أننا لو أعطينا الاستقلال للدول المتقدمة نسبيا، فسرعان ما ستتقدم وتتحول للصناعة وتصبح خطرا علينا، ولذلك منحنا الاستقلال للمملكة العربية، وفرضنا الحماية والانتداب على العراق وسوريا ولبنان وفلسطين”.. يكشف ما قاله لورانس عن السياسة الغربية تجاه العرب، والتي تقوم على التقسيم والتجزئة والعرقلة لمنع أي صورة للتقدم العلمي أو الاقتصادي أو حتى على المسار السياسي والديمقراطي، ومازالت القوى الاستعمارية متمثلة في الولايات المتحدة التي ورثت الإمبراطورية البريطانية؛ تطبق نفس السياسات القذرة، فتستخدم دول الثروة العربية وممالك النفط والغاز في استهداف الدول العربية ذات البعد الحضاري والثقافي الزاخر والمؤهلة بطاقاتها البشرية لإحداث الفارق– تارة بالأفكار المتطرفة وتارة بتدفق الأموال بلا حساب في مجالات كالسياسة والثقافة والرياضة ونحوها بقصد الإفساد والتخريب والإخلال بموازين القوى الحية في المجتمع.. ومازال السيناريو مستمرا من بغداد إلى دمشق إلى القدس إلى بيروت إلى القاهرة إلى صنعاء، ويبقى “الحبل على الجرَّار” كما في المثل العربي الشائع.