الصراع على عكا في العصور الوسطى:
إذا كان الوجود العربي في عكا، قد بدأ على شكل موجات هجرة، مع تأسيس القبائل الكنعانية لها في الألف الثالثة قبل الميلاد، ثم قدوم قبائل الأموريين (العموريين) ثم الآراميين في [القرون 12-8 ق.م.] ثم الأنباط في القرن الثاني ق.م، فإن سيطرة العرب المسلمين على عكا بدأت في النصف الأول من القرن السابع الميلادي، عندما فتحوها بقيادة الصحابي “شرحبيل بن حسنة” [583-639م] عام 16هـ/636م، فانتزعوها آنذاك من سيطرة الروم البيزنطيين الذين بسطوا سيطرتهم على فلسطين، بعد أن أخرجوا منها الفرس الذين كانوا قد استولوا عليها منذ عام 614م وحتى عام 629م.
ولقد كانت الفتوحات الإسلامية المبكرة في عهد الخلفاء الراشدين؛ تهدف إلى نشر الإسلام في البقاع المفتوحة؛ فكان انتماء الجميع إلى دين الإسلام، الذي حملوا رايته إخلاصًا له وليس تعصبًا إلى جنس أو قبيلة أو عرقٍ أو قومية ما، فلم يكن هناك آنذاك أي انتصار لتعصب أو محاولة لتوريث الحكم. وما أن أصبحت خلافة المسلمين تميل إلى النزعة القبلية؛ فأصبح هناك الأمويون والعباسيون، ثم نمت قوة الشيعة إلى أن سيطرت الخلافة الفاطمية على كثير من بقاع الدولة الإسلامية في عهد العباسيين، حتى تغير الانتماء المخلص للدين؛ فأصبحت الفتوحات الإسلامية تصطبغ بصبغة الفاتحين وانتماءاتهم المختلفة، بل إن الدول الإسلامية المتعددة أصبحت تتصارع فيما بينها للسيطرة على الأقاليم المفتوحة، وبالقطع لم يكن ذلك الصراع باسم الإسلام الذي وحدهم جميعًا فيما مضى، ولكن بدافع تعصبي قَبَلي وسلطوي دنيوي؛ فبدأ تفرق المسلمين وانقسامهم الذي لم ينتهِ إلى الآن.
ومنذ عهد ثاني الخلفاء الراشدين “عمر بن الخطاب” [13-23هـ/634-644م] تعاقب على حكم فلسطين وعكا بعد الخلفاء الراشدين كلٌّ من الخلفاء الأمويين [661-750م]، ثم الخلفاء العباسيين حتى عام 877م، ثم الدولة الطولونية حتى عام 935م، ثم الدولة الإخشيدية حتى عام 969م، ثم الخلافة الفاطمية الشيعية حتى عام 1070م، ثم الأتراك السلاجقة حتى عام 1099م.
وفي عهد “معاوية بن أبي سفيان” –عندما كان واليًا على سوريا عام 20هـ/640م في عهد ثاني الخلفاء الراشدين الخليفة “عمر بن الخطاب”– كانت عكا الأولى في صناعة السفن بعد دار الصناعة في الإسكندرية. وفي عهد ثالث الخلفاء الراشدين الخليفة “عثمان بن عفان” [23-35هـ/644-656م] كانت أول ميناء عربي يقوم منه العرب المسلمون بأولى غزواتهم في البحر المتوسط؛ فأرسلوا منه حملتهم البحرية الأولى على جزيرة قبرص عام 28ه/649م، ثم على جزيرة رودس عام 34هـ/654م.
وكانت بلاد الشام عاصمة الدولة الأموية مقسمة إلى خمسة أجناد هي: جند دمشق، وجند حمص، وجند قنسرين، وجند فلسطين ومركزها اللد، وجند الأردن ومركزها طبرية وكانت عكا من مدنها آنذاك.
أجناد الشام الخمسة في العصر الأموي
ولقد ذكر الجغرافي “شمس الدين الدمشقي” المعروف بشيخ الربوة [654-727هـ/1256-1327م] والذي أجاد في وصف جغرافية بلاد الشام في كتابه “نخبة الدهر في عجائب البر والبحر” فقال: إن مدينة عكا بناها خامس الخلفاء الأمويين “عبد الملك بن مروان” [65-86هـ/ 685-705م]. وقد كان لا يعين واليًا خاصًا على بلاد الشام لأنها كانت تحت إشرافه المباشر، ثم قام الخليفة الأموي العاشر”هشام بن عبد الملك” [105-125هـ/724-743هـ] الذي بلغت الدولة الإسلامية في عهده أقصى اتساعها بتوسعة مدينة عكا وتجديد بنائها.
وفي عهد “أحمد بن طولون” مؤسس الدولة الطولونية في مصر والشام [254-270هـ/868-884م] تم تحصين مدينة عكا وإنشاء قاعدة بحرية فيها، بعد استيلائه على سوريا عام 264هـ/877م. كما أقام على سورها المزدوج برجًا، وذلك من أجل توطيد سلطانه على بلاد الشام وإحكام السيطرة على سواحلها، بعد أن استقام له الأمر في مصر.
ويذكر الرحالة والشاعر الفارسي الشيعي “ناصر خسرو” [394-481هـ/1003-1088م] في رحلته المدونة في كتاب سفر نامة والتي قام بها في الفترة [437-444هـ/1045-1053م] أي في عهد الخليفة الفاطمي “المستنصر بالله” ما رآه في عكا أو (عكة) التي زارها عام 438هـ/1047م. فيصف مسجدها الكبير (مسجد الجمعة) الذي يقع في وسط المدينة، وهو أعلى مبانيها ويقع خارجه قبر النبي صالح. كما يذكر أن تلك المدينة مشيدة على مرتفع، ولم تشيد في الوادي المنخفض مخافة غلبة ماء البحر عليها، وبها قلعة غاية في الإحكام يطل جانباها الغربي والجنوبي على البحر.
ولقد استطاع السلاجقة أن يهددوا بلاد الشام، وأن يستولوا على أجزاء منها، حتى كادت تخرج من أيدي الفاطميين، إذ نجح سلطانهم “جلال الدولة ملك شاه” بانتزاع القدس وفلسطين من قبضة الفاطميين في سنة 463هـ/1070م، ما دفع الخليفة الفاطمي المستنصر بالله [1036-1095م] إلى استدعاء قائد جيوشه في الشام القائد الأرمني “بدر الدين الجمالي” في عام 466هـ/1073م كي يتولى الوزارة في مصر، حيث مركز الخلافة الفاطمية، فحصَّن القاهرة وأعاد بناء السور المحيط بها لصد حملات السلاجقة المحتملة عليها.
وفي القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلاديين لعبت الدولة السلجوقية [1037-1194م] –المنسوبة إلى مؤسس سلالتها “سَلْجُوق بن دُقاق” والتي أسسها حفيده “طُغرُل بك” وكان هو أول سلاطينها– دورًا كبيرًا في تاريخ الدولة العباسية والحروب الصليبية والصراع الإسلامي البيزنطي. فبالتزامن مع ضعفها منذ عام 485هـ/ 1092م بوفاة ثالث سلاطينها جلال الدولة أبو الفتح ملك شاه “محمد بن داود بن ألب أرسلان”، و بعد أن بلغ اتساعها آنذاك من أقصى المشرق إلى بيت المقدس، بدأ ما يُعرَف بالحملات الصليبية و هي الحروب التي شنها الفرنج (الأوروبيون) منذ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي وحتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر الميلادي [1096-1291م].
وهكذا ومنذ أكثر من تسعة قرون، كانت عكا واحدة من أقدم وأهم مدن وموانئ فلسطين الواقعة على الساحل الشرقي للبحر المتوسط في قبضة الصليبيين، فما هي قصة شهر مايو في الصراع على ميناء عكا بين المسلمين والصليبيين في العصور الوسطى؟
مايو سقوط عكا في أيدي الصليبيين:
لقد بدأت أولى حملات الصليبيين في أغسطس عام489هـ/1096م وأسفرت عن الاستيلاء على القدس عام492ه/1099م وتأسيس إمارة لهم بها سميت “مملكة القدس اللاتينية”، واستمرت سيطرتهم عليها حتى عام 583هـ/1187م وهو العام الذي استردها فيه القائد “صلاح الدين الأيوبي” بعد معركة حطين. هذا وقد شهد دخول الصليبيين لبيت المقدس أولى مجازرهم هناك؛ إذ اقتحموا المسجد الأقصى ونهبوا قبة الصخرة وذبحوا أهل المدينة بوحشية بالغة وقتلوا منهم أعدادا كبيرة.. وبذلك فقد الفاطميون آخر أملاكهم في بلاد الشام بعد فشلهم في الدفاع عن بيت المقدس. ثم سقط بعد ذلك ميناء عكا في أيدي الصليبيين عام 497هـ/1104م فاضطرت الحامية الفاطمية هناك إلى تسليمها بشرط المحافظة على أرواح أهلها، ولكن تم الاعتداء عليهم وقتل الكثيرين منهم. وهكذا أصبحت عكاAcre) ) هي الميناء الرئيسي لمملكة الصليبيين في المشرق، فأقيمت فيها أحياء لكل مجموعة من مجموعات الفرنجة الذين استقروا فيها، كما أنشئ فيها عدد من الكنائس والأديرة بالإضافة إلى تحويل عدد من مساجدها إلى كنائس.
ويصف الرحالة والجغرافي والشاعر الأندلسي ابن جبير [540-614هـ/1145-1217م] ما رآه بنفسه في الممالك الصليبية في بلاد الشام خلال رحلته التي استغرقت ثلاث سنوات في الفترة (578-581هـ/1183-1186م) والتي دونها في عام 582هـ/1186م أي في عهد صلاح الدين ألأيوبي [569-588هـ/1174-1193م] وكذلك في فترة الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي. فيذكر أن مدينة عكا (عكة) كانت قاعدة مدن الإفرنج في الشام، وكانت تُشبَّه في عِظمها بالقسطنطينية مجتمع السفن وملتقى التجار من جميع الأنحاء والآفاق، وكانت تعج بالكنائس والصلبان فيما عدا مسجد صغير كانت تقام فيه الصلاة، وكان عند محرابه قبر النبي صالح.
أما قصة شهر مايو/أيَّار في الصراع بين المسلمين والصليبيين فقد بدأت عام 1189م وهو العام الذي بدأت فيه الحملة الصليبية الثالثة، وكانت القوات الألمانية هي أولى القوات التي تحركت في تلك الحملة التي ضمت قوات من فرنسا ومن إنجلترا. ففي يوم 11 مايو عام 1189م بدأ تحرك القوات الألمانية بقيادة ملك الجرمان “فريدريك الأول بربروسا” وكان قوامها نحو ثلاثين ألف جندي من الفرسان والمشاة، ثم حاصر بعد ذلك الصليبيون عكا على مدار عدة أشهر، وفي عام 587هـ/1191م استسلمت المدينة وسقطت بعد أن أنهكها الحصار، وحدثت فيها مذبحة للمسلمين بأمر من ملك إنجلترا “ريتشارد قلب الأسد”. وفي عام 1192م تم عقد الصلح المعروف بمعاهدة الرملة مع صلاح الدين الأيوبي، وبمقتضاه تم السماح للحجاج والتجار المسيحيين بزيارة القدس والأماكن المقدسة بعدما آل حكم بلاد الشام ومن ضمنها القدس للمسلمين، على أن يحتفظ الصليبيون بشريط ساحلي يمتد من صور إلى يافا.
وفي المقال القادم سنكمل بقية قصة شهر مايو في الصراع على عكا بين المسلمين والغرب المسيحي.