وصفها مصطفي أمين فقال: كانت جامعة كبري في الثقافة والفن والموسيقي, لو أسست حزبا سياسيا لحكمت العرب حبا وطواعية.
كانت أم كلثوم مؤسسة ثقافية كبري درست بحور الشعر والعروض والقوافي علي يد مولانا الإمام الأكبر الدكتور مصطفي عبد الرازق شيخ الجامع الأزهر الشريف, وخاضت معارك الشعر حتي عبرت كل البحور لتعلن تأسيس كوكبها الفني الخالد.
تدخل أم كلثوم المسرح، تجلس تستحضر روح الشعر.. صمتٌ لا يقطعه سوى صوت الحاج خليل: صلي علي النبي.
هي صيادة ماهرة للكلمة، تكون في حنجرتها لينة أو حادة، تعرف متي تبتسم ومتي تخضع مخارج حروفها للشجن, تعطي لمستها بكل دقة, نفس قيمة الشعر العامي أو الفصيح.. في غنوة فات المعاد مثلا، غنت كلمة حبيبي بستة ألحان مختلفة.
في غنوة ألف ليله وليله حكي المخرج المسرحي أحمد مرعي كيف كتب مرسي جميل عزيز الغنوة علي قهوة “البوستة” في الزقازيق، علي كورنيش بحر مويس أمام كوبري سوارس, في الستينات ومرسي جميل عزيز بيته كان في شارع الشمسي (مرسي جميل عزيز حاليا) وقعد يدندن ثم طلب رقم تليفون, بعد كده عرفنا إنه كان رقم بليغ حمدي, المهم.. بليغ يادوبك قال ألو ..جاله صوت مرسي بيقول: ياحبيبي..الليل وسماه، ونجومه وقمره.. قمره وسهره.. وأنت وأنا.. يا حبيبي أنا.. يا حياتي أنا.. كلنا كلنا، في الحب سوا..
بليغ: كمل يا حياتي ..(وحياتي دي كانت لزمة مع بليغ)
مرسي ..لاء خلاص..دا المذهب بس، وكتبته للست.. ولو مش موافقة مش حاكملها.
بليغ ..طيب اقفل دلوقتي يا مرسي..ياحبيبي..الليل وسماه
بعد كده بليغ نفسه بيكمل من خلال برنامج اذاعي في السبعينات يقول بليغ: قفلت مع مرسي واتصلت بأم كلثوم وكانت نائمة قولت لهم صحوها عايزها ضروري.. وبمجرد سمعت صوتها ومن غير سلام ولا كلام قولت لها نفس اللي قاله مرسي بالضبط.. سألتني.. مين المجرم ده؟!
قلت لها: مرسي.. وحالف براس ابوه لو ما وافقتي ما هو مكملها.
أم كلثوم.. طب خليه يكمل وابقي هاته وتعالي.
أنا بليغ يا مرسي بسرعة تعالي عشان كوكب الشرق عاوزاك؟
في تلك الغنوة أثبتت الأجهزة الإلكترونية أن صوت أم كلثوم بلغ أعلى الترددات يليها الشيخ محمد رفعت.
وكررت سومه كلمة إزاي، إزاي، إزاي أوصف لك يا حبيبي إزاي
قبل ما أحبك كنت إزاي يا حبيبي.
أم كلثوم كسرت الأعراف السائدة لفن الغناء العربي
تقول الدكتورة رتيبة الحفني في كتابها “أم كلثوم” “غناء كوكب الشرق معه يتوقف الزمن ويذوب المكان ولا يبقى غير اللحن والكلمة, فقد استطاعت بما امتلكته من مواهب صوتية أن تختصر الثقافة والوجدان العربي كله في حنجرتها المثقفة, فصوت أم كلثوم هو أكثر الأصوات العربية ضبطا لمعادلته الرياضية، فهي تتطابق مع المعادلة الرياضية للسلم الموسيقي الطبيعي, لأنها كسرت الأعراف السائدة لفن الغناء العربي في وقتها، فأدخلت الأغنية الفصيحة إلى الوجدان الشعبي، كما أدخلت الدين إلى رحاب الفن عندما غنت قصائد شوقي الدينية, كما طوّعت الشعر الفصيح، وجعلت الفصحى تمشي بين الناس في الأسواق, فقد تخرجت من قبل من مدرسة الابتهال الديني والمقامات العربية الأصيلة عند الشيخ أبو العلا محمد، فارتقت بالأغنية إلى عوالم الجمال والجلال التي تخاطب المستوى الوجداني والوطني والقومي.
الرقي بالغناء بعد أن كان للإماء
جاء في كتاب الدكتور إبراهيم عبدالعزيز أبوزيد “أم كلثوم في الشعر العربي” أن المكانة الرفيعة التي وصلت إليها أم كلثوم، كانت بفضل مثابرتها وجهدها في محراب الفن، حيث بدأت مسيرتها الفنية ضمن طوائف المغنين في فترة من الزمان لم يكن فيها الغناء دارجا بين النساء، وكان الناس يربطون هذه المهنة بالإماء وغيرها مما تختزنه الذاكرة العربية من صورة سلبية حول المرأة الفنانة، لكن أم كلثوم استطاعت بفضل ما وصفه الكاتب بـنزالها في معركة الغناء, نجحت في أن تغير النظرة الدارجة تلك لعوالم الغناء، بسلوكها وحياتها المحترمة وبصوتها وما أدته من الأغاني سواء في الحب أو الأغاني الوطنية ما جعلها تلقّب لاحقا بالمجاهدة في دعم صفوف الجيش بالغناء, وقضت كوكب الشرق علي فكرة غناء العوالم والخلاعة، الذي كان قد انتشر بين المصريين في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهو عبارة عن أغان تخاطب الحِس الشهواني لدى المستمع، والتواصل مع المستمع يتم إما بالكلمات المبتذلة أو بالكلمات والأداء الرقيع لتسهيل وصول الابتذال، وأغلبها أغاني في شكل «طقطوقة»، مثل: «يا بت ما تمشيش كده عريانة، الغندورة، أم 44، وأحلاهم»، ومن أمثلة فن العوالم: «حلف إنه يمتعني» لعبد اللطيف البنا، و«عاشق وليه تلوموني وبين النهود واحملوني» لصالح عبدالحي، و«حرص مني اوعى تزغزغني جسمي رقيق ما يستحملش» لمحمد عبدالمطلب، و«شفتي بتاكلني أنا في عرضك خليها تسلم على خدك» لسيد درويش، و«يوه يا دين النبي تنك سارح.. ما شبعتش من ليلة إمبارح» لفاطمة رشدي، و«ارخي الستارة اللي في ريحنا أحسن جيرانك تجرحنا» لمنيرة المهدية، و«خد البزة واسكت» لنعيمة المصرية، و«ياريتني في حلقك برقه وأتمتع فوق خدك ساعة» للمطربة تودد، و«إن كنت شاريني ماتبعنيش.. مش ليلة تجيني وعشرة مافيش» لسيد درويش، و«تلبس وتقلع شفتشي» لسيد درويش.
كلنا نعرف كيف كانت بداية الطفلة الفلاحة البسيطة, و ليس غريبا أن تبدأ أم كلثوم حياتها بالإنشاد الصوفي في حلقات الذكر، وأن يكون أستاذها في الغناء الشيخ أبو العلا، الذي تأثر بالتصوف كأزهري ساهم في تعبير صوت أم كلثوم بشعر يعبر عن الأصالة مقترنا بلفظ الجلالة والدعاء والصلاة على النبي عليه السلام والعبارات الدينية الأخرى في أغاني أم كلثوم، وكانت قصيدة(حديث الروح) قمة الشعر الصوفي الجميل التي اشتهرت بعد أن غنتها أم كلثوم هي التي اختارت كلماتها من أبيات قصيدتين لإقبال بعنوان (الشكوى) و(جواب الشكوى).
والوحيد الذي نجي من التعديلات الكلثومية هو بيرم التونسي فلم تعدل له ولو كلمة واحدة وغنت أعظم نص شعبي صوفي “القلب يعشق كل جميل” لتثبت عبقرية التعامل مع نوعيات الشعر برقي شديد حتي الشعبي منه, وفي قائمة من عدلت لهم الشاعر السوداني الهادي آدم, وبكر بن النطاح, وجورج جرداق, وحافظ إبراهيم, وصلاح جاهين, وطاهر أبو فاشا.
وشيخ الأزهر الرابع مولانا العلامة عبد الله الشبراوي وعلي الجارم, وعمر الخيام بمشاركة أحمد رامي, وجاء في موسوعة أم كلثوم (المجلدات الثلاثة) التي أصدرتها «دار موسيقى الشرق» لإلياس وفكتور سحّاب, فهناك ما لا يقل عن ربع ما غنته أم كلثوم، مكتوب بالعربية الفصحى، ومن نظم شعراء كبار، سواء من زمانها أو من زمان سابق, فهي سيدة استثنائية
وجاء في كتاب إلياس وفكتور سحاب عشرات الصور فوتوغرافية الكثيرة لأم كلثوم وهي تغني على المسرح، وكذلك بصور فوتوغرافية لجمهور من المستمعين يصفق بنشوة وبحب وسعادة غامرة تظهر على الوجوه، لننظر معا إلى الوجوه من جديد: إنها تعي أنها تعيش لحظات تاريخية، وأن من يشيع فيها وفي قلوبها الفرح سيدة استثنائية في قامة كليوباترا أو قامة أي سيدة من سيدات التاريخ الخالدات، ولم تقتصر على اختياراتها بالفصحى، فأغانيها بالعامية المصرية مكتوبة أيضا بعامية راقية.
في ستوديو ماسبيرو أم كلثوم تحضر بعد صلاة الفجر، بصحبة الموسيقار محمد عبد الوهاب، كي تسجل غنوة أنت عمري للإذاعة، وقبل التسجيل قامت بعمل عشرة بروفات كاملة, وكاد عبد الوهاب يغمي عليه من المجهود!
فقال لها معقول يا سومه عشر بروفات كاملة! فهل سني وسنك يسمح لنا بهذا المجهود؟
صمتت كوكب الشرق ثم قالت: معلش يا محمد نتعب شوية عشان حيجي وقت كما قال العقاد لن تجد مصر لنفسها سوي كنوزنا يا محمد؟ بكي عبد الوهاب من شدة الموقف، وقد حكاه لسعد الدين وهبه فقال: كانت تساوي عشرة مطربين مع بعض, وهي الوحيدة التي أشعر بمتعة سماعها حتي أنني أتحول لعزف عود أو قانون أو طبلة، كي أشعر بمتعة العزف خلف أم كلثوم, ولا شك أن أم كلثوم فعلت في الغناء العربي في مصر والوطن العربي؛ مثلما فعل البارودي في الشعر العربي في بواكير عصر النهضة، وما فعله مختار في الفن التشكيلي الحديث، وما فعله سيد درويش في الغناء الوطني الشعبي، وما فعله سعد زغلول ومصطفى كامل في السياسة المصرية، وما فعله طه حسين في مناهج دراسة الأدب العربي.
ذات يوم قالت كوكب الشرق: هل تكلثمت يا أستاذ عقاد عندما كتب فيها قصيدة شعر وفسر سر اسمها براية النصر الحريرية في الحرب, وقال العقاد: كانت تغني لنفسها قبل أن تغني للناس، بالمواهب الربانية في صوتها قوة الأسى وجلال المعنى وحسن السلوك وروعة الأداء وسمو العاطفة وجلال العقل وخصوبة الخيال وأصالة الوجدان.
جرأة تعديل شعر شوقي
استطاعت أم كلثوم أن تختار من شعر الكبار ما يخص صوتها وحدها، فقصيدة “سلوا قلبي” لشوقي حديقة شعرية مكونة من واحد وسبعين بيتًا تحيلها أم كلثوم لمقطع غنائي مكون من واحد وعشرين بيتاً فقط, هكذا تجرأت ام كلثوم فعدلت شعر أمير الشعراء، وفي قصيدة كتبها مدحا لها, فأي عبقرية تلك التي تملكها الست؟! وفي قصيدة “إلى عرفات الله” تبلغ بها عبقرية الذوق أن تحذف كلمات الشعراء الكبار وتستخدم كلمات أخرى، ثم يرضخ لها الشعراء ثقةً في ذوقها العربي المصفى, فكلثمت أبي فراس الحمداني وابن النبيه المصري، والشريف الرضي، والعباس بن الأحنف، وصفي الدين الحلي، وحافظ وناجي, وكأنها كانت تجلس إليهم جميعًا في جلسات الذوق والثقافة والمعرفة في معمل كوكب الشرق.
يقول الناقد الفني الكبير كمال النجمي في كتاب “تراث الغناء العربي” “لقد أسهم صوت أم كلثوم إسهاما جوهريا في خلق أساليب التلحين العربية المتطورة، وأتاح للملحنين أن يجوبوا آفاقا شاسعة ما كانت تخطر على بالهم؛ لولا وجود هذا الصوت العبقري, فكشفت عن المعني المسكوت عنه في الشعر، وأظهرت أسرار تراكيب الشعر نفسه، فهي المكلثمات الكريستال، وهي تعبير مدهش كأنها الصوتي والروحي المشع.
الشعراء داروا في فلك الكوكب
في حوار مع كوكب الشرق أم كلثوم جاء بكتاب «شعراء أم كلثوم» عن لجوئها لهذه التعديلات قالت: إنني أُجرى التعديلات وفق ما أراه مناسبًا لأذواق مستمعيّ أم كلثوم، من دون أن يؤثر هذا التعديل على معنى القصيدة أو ما يرمى إليه الشاعر, حيث مكنتنى حرفة إتقان قراءة الأشعار كثيرًا من ذلك، ولعل هذا التذوق، وحفظ آلاف الأبيات الشعرية بين قديم وحديث هو الذى أعانني بعد ذلك على أن أختار من قصيدة فيها مئتا بيت، ثلاثين بيتًا أُغنيها، فلا يحس المستمع أنني قفزت من بيت إلى بيت، فتركت عشرة أو عشرين بيتًا.
من التراث تناول الكتاب أبو فراس الحمدانى وابن النبيه المصرى وهو من أصحاب الشعر الرقيق والغزل البديع، وقد عاصر الدولة الأيوبية, وتغنت سيدة القصيدة العربية أم كلثوم بقصيدتين للشاعر ابن النبتة، الأولى «أفديه إن احفظ الهوي» من ألحان الشيخ أبو العلا محمد, والثانية قصيدة «أما أنا أيها القمر المطل».
في قصيدة «هذه ليلتي» لجورج جرداق التي كان مطلعها في الأساس:
هذه ليلتي وهذا العود
بث فيه من سحره داوودُ
فاملأ الكأس واسقنيها وهاتِ
كلّ ما طاب من فتون الحياة!
فاعترضت أم كلثوم على هذا المطلع لورود ذكر «داوود» فيه وقد نزل الشاعر عند طلبها وغيّر المقطع فأصبح:
هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماضٍ من الزمان وآتٍ
الهوى أنت كله والأماني
فاملأ الكأس بالغرام وهاتِ.
وقد بلغت النصوص الشعرية التي تناولت أم كلثوم واحدًا وسبعين نصًا, وهذا يعني أن الشعراء داروا في فلك أم كلثوم، وارتبطوا بالأحداث المهمة في حياتها, فهي الوحيدة التي مدحها العقاد، فكيف يمكن تفسير هذه الظاهرة:
هلل الشرق بالدعاء
كوكب الشرق في السماء
عاد في حلة الضياء
وفي هالة البهاء
لم يغب هاجرًا ولكن
كما غربت ذكاء
أم كلثوم يا بشيرا
من الله بالرجاء.
بعض شعراء أم كلثوم جمعهم الكاتب حنفي المحلاوي في كتاب شعراء أم كلثوم قال فيه: «تبين لنا من بعد طول صحبة لهذه الفنانة المعجزة أم كلثوم أنها قد أخذت بيد أكثر من أربعين شاعرًا مصريًا وعربيًا ومن دول إسلامية، نحو الشهرة والمجد.. خلال رحلتها الفنية الطويلة والتي امتدت لأكثر من خمسين عامًا, والأمر في هذا السياق لم يقتصر على شعراء العصر الحديث، بل وشمل أيضًا شعراء من العصر العباسي وغيره من العصور المتقدمة، إذ مازلنا حتى يومنا هذا نردد كلمات شاعر كبير ظهر في القرن الثالث الهجري، وهو أبو فراس الحمداني والمعروف بشاعر السيف والقلم الذى تغنت بكلماته أم كلثوم, ورائعته قصيدة «أراك عصى الدمع», ومن أعجب الروايات أنه تم العثور على أكثر من أصل لقصيدة «من أجل عينيك» ما يعنى أن كوكب الشرق جمعتها من مجموعة من القصائد –تقريباً الديوان بالكامل– فقد أخذت سيدة القصيدة العربية أم كلثوم تنتقى من عدة قصائد من تأليف الأمير عبدالله الفيصل- عدة أبيات- أطلقت عليها في النهاية اسم «من أجل عينيك».
لقد قامت أم كلثوم بعمل هجوم علي القلاع الشعرية التي لا تفنى مدى الدهر، صوت عظيم خالد، مؤسس على نصوص شعرية خالدة، قديمة وحديثة معا، كما غنت في السنوات الاخيرة من عمرها الفني لشعراء محدثين من الأقطار العربية غنت لشعراء من لبنان وسوريا والكويت والسعودية والسودان في ما يشبه الإلحاح على قومية واحدة تجمع بلاد العرب جميعها مشرقا ومغربا، والواقع أن أم كلثوم كانت رمزا من رموز التوحيد العربية، في حياتها كانت رمزا للوحدة وبعد موتها كانت هذا الرمز وهي ما زالت كذلك حتي الساعة.