فن

فتوح نشاطي.. فنان من رحم ثورة 19

حين ندرس مذكرات فتوح نشاطي مع خليل مطران وطه حسين, ندرك أن رموز هذا المسرح وصانعيه الأوائل؛ خرجوا من رحم ثورة 19، خلف المؤسس نجيب الريحاني وسيد درويش وشيخ المسرح الثائر يونس القاضي، ثم الكبار جورج أبيض ويوسف وهبي وزكي طليمات، وللإنصاف أيضا فالقراءة الواعية لتاريخ المسرح المصري، ترد بعض الاعتبار للعظماء السبعة, وفتوح نشاطي يدخل ضمن الرواد؛ ليس لكونه ممثل كبير أو مخرج مسرحي متميز؛ بل لكونه ساهم في تأسيس صناعة المسرح.. فهو دارس ومجرب لفن الديكوروالاضاءة والموسيقي، ويتحدث ويكتب الفرنسية بطلاقة، فضلا عن براعة في فهم  لغة شكسبير المسرحية وهذا مقياس مهم. فتوح نشاطي يشبه زميل عمره طليمات كثيراً فسجله من الأفلام السينمائية قليل إذ شارك فيها بأدوار متوسطة وصغيرة، أبرزها دور المايسترو عزيز في فيلم شارع الحب مع عبد الحليم حافظ، بينما تكمن قيمته الكبيرة وعطاؤه الفني الرائع في منجزه المسرحي الزاخر في الإخراج والتمثيل والترجمة للمسرح.

 من قهر الزحلاوي لبراح ثورة 19

بسبب مرض التيفود، كانت طفولة فتوح نشاطي حزينة, تجربة المرض حُفرت في وعيه مبكرا وذاكرته البصرية القوية جعلته يحفظ تفاصيل مدهشة, كان ميلاد فتوح قبل ثورة 19 المجيدة  بثمانية عشر عاما.. التحق الشاب الصغير بطلائع الثورة –ربما– للتخلص من الشعور بالقهر الذي خلّفته قسوة معلمه “ميشيل زحلاوي” الذي كان يضربه بقسوة رغم تفوقه!

مع مدرسة الزحلاوي تكونت عند الفتي صورة المشهد المسرحي , فقد كان الزحلاوي يأمر التلاميذ بالنوم الأجباري كي يمارس تنظيف شعره من القمل , يا للمشهد الكوميدي الأسود الذي دخل وجدان الصبي, ثم كانت مدرسة الفريرساحة أخري للتفوق علي نفسه؛ فعرف سبل الأدب والمسرح الفرنسي صغيراً، وأجاد للغة الفرنسية في وقت قياسي، ثم تعرف عن قرب علي المثل الأعلي له الشيخ سلامة حجازي، وهو يشاهدالمسرحية المترجمة عن الفرنسية باسم “تليماك” بطولة جورج أبيض، وهناك انبهر الطفل الصغير وسحر بهذا العالم الغريب وافتتن به؛ ورهن حياته كلها بعد ذلك  للمسرح الذي أصبح عشقه الذي لا يقاوم وشغفه الذي لا ينتهي, وحين قامت ثورة 19، وجد فتوح نشاطي الفرصة للمشاركة في مظاهرات الثورة مع الشيخ سيد درويش الثورة.. وللعودة إلى أماكن الشغف الوطني المصري، فيكتب ويسجل فتوح نشاطي في (مذكراتةالجزء الأول والثاني ) مشهد الثورة المجيدة؛ فيقول في مارس 1919، كنت مع الثوار في جو مشحون بالعواصف لا حديث سوي طرد المحتل, الحرية والاستقلال هي مطلب المصريين, كنت في ميدان العتبة مع الثوار أهتف حتي تعرضت للضرب وكدت أموت, ثم عرف شقيقي أنني أخرج مع الثوار في مظاهرات وسبني وأتهمني بالفشل وفكرت في الانتحار لولا توفيق تادرس رئيس نادي المعارف الذي رأي في شخصي موهبة مسرحية؛ فرشحني لتمثيل رواية العصفور في القفص لمحمد تيمور، وحققت المسرحية نجاحا كبيرا.. بعدها مثّل فتوح عدة مسرحيات باللغة الفرنسية مثل المهرج للويس ماجرو والفزع  الأكبر لاندريه دي ميلورد.

جورج أبيض
جورج أبيض

تبدأ مرحلة جديدة في مشوار فتوح المسرحي فقد غيرت ثورة 19مصر للأفضل, وكان برلمان الثورة 1924، نتاج ومنطلق جديد للبعث الثقافي وظهرت وزارة الشئون الأجتماعية التي تدعم المسرح .

يضيف فتوح في مذكراته: “ثم تعرفت على الكاتب محمد تيمور الذي قدمني لروز اليوسف وزوجها زكي طليمات، وبقية أعضاء المدرسة الحديثة للتمثيل أحمد علام وخيري سعيد وإبراهيم المصري وطاهر لاشين، ثم تدربت علي تمثيل مسرحيات المهرج والفزع الكبير لاندريه ملورد ثم كانت الروايات الفرنسية التي ميزت  نشاطي عن غيره من الممثلين, وتواصلت علاقة فتوح نشاطي مع الفنان زكي طليمات وروزاليوسف في الوقت الذي ينضم فيه فتوح لأعضاء  حزب الوفد (قبل تشكيله فعليا) بسبب نفي سعد باشا زغلول, وهنا في بيت الأمة منزل سعد يتعرف فتوح علي الفنان المونولجست الوطني حسن فايق والقيادي الوفدي حمد الباسل وحنا وهبي وأحمد باشا رياض, وبالفعل يغني فتوح علي المسرح ويمثل رواية روي بلاس.. وكان العرض يتضمن قصائد وطنية من كتابة نيقولا رزق الله.

يكمل الفنان الحديث في مذكراته: ” وفي 10مارس 1923، يدخل عالم المسرح المصري النجم يوسف بك وهبي ونحن معه من باب كبير يسع كل فناني ثورة 19وظهرت الفرقة المصرية الموحدة بزعامة يوسف وهبي، وفي ذلك الوقت كنا نسمع من الممثلين عن حسم وشدة يوسف بك وهبي مع نجوم العرض، فكنت أخاف من يوسف وهبي فعلا خصوصاً بعد أن ضرب الفنان أحمد علام, في نفس الوقت فشل المخرج عزيز عيد في السيطرة علي العرض”.

ويواصل الفنان فتوح نشاطي نشر الحقائق كما شارك فيها من وجهة نظره, فقد كان يعتقد نشاطي أن روزا  غير جادة في منحه الفرصة  الفنية, ولكن طبيعة روزا هي المزاح  طوال الوقت، لكنها كانت جادة جدا هذه المرة.. وتدرب فتوح على عشرات الأدوار المسرحية وخصص لكل مسرحية مدة أسبوع وكان أداؤه بارعا نال إعجاب عزيز عيد، الذي عرض عليه أن يستقيل من وظيفته ويتفرغ للمسرح، وتردد فتوح كثيرا فالوظيفة المصرفية تضمن له دخلا مستقرا، حتى كان يوم اصطحب فيه عزيز عيد فتوح نشاطي لمقابلة يوسف وهبي، الذي اقنع نشاطي بالاستقالة من المصرف والانضمام لفرقة رمسيس، وهو ما حدث بالفعل.

وفي فرقة رمسيس بدأت تتشكل ملامح  عطاء وتميز المشوار الكبير الزاخر لفتوح نشاطي، فترجم ومثل وشارك في إخراج مسرحيات راسبوتين والذبائح والبؤساء والشرف والرعاع وتحت العلم وأستاذ اللطافة ونوتردام دي باري والكاردينال والذئاب وغيرها من عشرات المسرحيات في تاريخ المسرح المصري.

خمسون عاما في خدمة المسرح - فتوح نشاطي

خليل مطران وفتوح لقاء التأسيس

في عام 1935، تقرر الدولة إنشاء فرقة قومية للمسرح يتولى إدارتها  الأديب الكبير خليل مطران، كان فتوح من محبي الشاعر الكبير وكان يحفظ أشعاره وترجم بعضها للفرنسية، وقد سعي لمقابلتة ورحب مطران بلقاء الشاب الواعد وسمع منه وأعجب بثقافته رفيعة المستوي ولغته الفرنسية الراقية.. وكان اللقاء بمثابة تأسيس لمكانة نشاطي في المسرح كمخرج وممثل خصوصاً مع طلب مطران من نشاطي تقديم مواهبه والمساعدة في عمل الفرقة التي  استقطب إليها عددا من الممثلين الكبار من  أعضاء الفرق الخاصة، وكانت فترة توهج  فتوح نشاطي، فقدم مع الفرقة القومية مسرحيات  أهل الكهف وتاجر البندقية من إخراج زكي طليمات، والملك لير من إخراج عزيز عيد، لكن نشاطي اصطدم كغيره من الممثلين من أمثال نجمة إبراهيم وآمال حلمي وسراج منير وروحية خالد وعبد العزيز خليل بوضع أسمائهم في أفيشات مسرحية السيد من إخراج عزيز عيد؛ باعتبارهم مجرد كومبارس، فثارت ثائرتهم ووعدهم عزيز عيد وزكي طليمات بتدارك الأمر، لكن المسألة تكررت في مسرحيات أخرى, وفي عام 1936، تعلن الفرقة القومية عن منح مسرحيين فرصة السفر والدراسة بفرنسا في فروع الإخراج والتمثيل والديكور، ويتقدم لها نشاطي مع زميله سراج منير، وتظهر النتيجة ولا يجد نشاطي ومنير اسميهما في كشف الفائزين بالمنحة، ليثور من جديد ويتوجه إلى خليل مطران الذي يخبره بأن اللجنة التي اختارت الفائزين كان على رأسها الدكتور طه حسين! ويتوجه الممثلان الشابان غاضبين لمقابلة طه حسين، الذي يقابلهما في البداية بتجهم واضح كعادته عندما يمتحن أحد وتلك صفة ظلت به منذ تعليمه في الأزهر الشريف, غير أنه بعد أن سمع لكل منهما أدرك أنهما أكثر من يستحق المنحة, لكن الدكتور طه حسين صمم وقرر امتحان فتوح نشاطي في فنون المسرح ومستوي اللغة الفرنسية وقد كان العميد يدرس تاريخ المسرح العالمي  في معهد التمثيل منذ فترة طويلة, كان لقاء فتوح مع العميد ساحة جدال دامت ثلاث ساعات قضاها أمام العميد طه حسين، صال فيها وجال حتي أقنعه بضرورة موافقته علي المنحة, وقد كان طه حسين يصر في كل لجنة يرأسها علي تحري الدقة خوفا من اتهامه بمجاملة أحد

خليل مطران
خليل مطران

باريس وهيلين وعشق للمسرح

كانت موافقة الدكتور طه حسين على منح فتوح نشاطي الحق في البعثة بمثابة بعث جديد, فقد كان فتوح يرغب في الرد علي شقيقه الذي كان يستغله في العمل ويسخر منه كثيراً, وعندما كان يقول له سوف أسافر باريس مثل طه حسين كان يضحك, الآن فقط رد كرامته أمام شقيقه وكل الأسرة علي حد وصف فتوح نشاطي في مذكراته.

في فرنسا يقضى نشاطي ما يقارب ثلاثة أعوام دارسا وعاشقا وناهلا من المسرح الفرنسي، وهناك تعرّف على رفيقة حياته “هيلين” الفرنسية من أصل مصري، ويعود من فرنسا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بعدة أشهر، ويصدر بعد عودته مباشرة كتابا عن أيامه في فرنسا، تولت طباعته ونشره دار الهلال , ثم يعود نشاطي فيترجم ويخرج ويمثل حوالي سبعين مسرحية  بدأها بمسرحية مترجمة لهنري دي بورنييه بعنوان مصر الخالدة، وفي عام 1939، أخرج مسرحيتي تحت سماء إسبانيا  والأمل، وبعد فترة نجح في الأشراف علي  الإخراج في الفرقة القومية، والفرقة المصرية للتمثيل والموسيقى، والفرقة المصرية الحديثة والمسرح القومي المصري، من مسرحياته (الغيرة) عام 1948، ومسرحية ألمظ وعبده الحامولي1963 ، ثم توالت المسرحيات التي أخرجها نشاطي، ومثّل فى كثير منها وترجم بعضها، مثل مسرحيات المهرج والست هدى لشوقي وأوديب ملكا ولويس الحادي عشر، والأول والأخير وانتحار توت عنخ آمون, والسلطان الحائر، وعزيزة ويونس, ودموع المهرج, والثائرة الصغيرة وبيت الزوجية وسلك مقطوع وآدم وحوا ومروحة الليدي وندمير، ليصل إلى أكثر من مائتي مسرحية.

 صداقة ناجي وعداء عزيز عيد

 في حياة نشاطي شخصيات مهمة منها مثلا الفنان المخرج عزيز عيد الذي كان في حالة عداء نفسي معه، كما يحكي في كتابه والغريب حقاً أن فتوح أذاع سر سبب الكراهية مع عيد، وهو العصبية التي كان يتعامل بها معه، وكتب أن جورج عيد شقيق عزيز روي له دخول  عزيز المستشفي للعلاح من داء العصبي الذي جعله فتى مدللا يتعامل مع الناس بقسوة وعنجهية, وعلي الجانب الآخر كان الشاعر الكبير الدكتور إبراهيم ناجي الصاحب الأهم في حياة فتوح نشاطي، وهو الذي لفت نظر فتوح لفن الترجمة وشارك معه في ترجمة مسرحية الجريمة والعقاب, وكان يقول له أنت نجم مسرح ولن تبني مجدا في السينما وتفاصيل وجهك الحاد لن تجعلك سوي ضيف علي السينما, صدقت رؤية ناجي فعلا فالسينما لم تستفيد من موهبة نشاطي كممثل بارع، ربما لانشغاله الطاغي بالمسرح، فشارك في أفلام وداد مع أم كلثوم، وليلة غرام، والله معنا، وحب وإعدام، وشارع الحب، بالإضافة إلى دوره في شارع الحب، والناصر صلاح الدين، وفي عام 1970 أخرج فتوح نشاطي آخر أعماله المسرحية وهي مسرحية “سر الحاكم بأمر الله”.

عزيز عيد
عزيز عيد

وتبقي مع ذلك ملامح فتوح نشاطي كقائد أوركسترا أغنية الليالي, وهو يقود الأوركسترا ويراقب عبدالحليم حافظ ماثلة في الأذهان إلى اليوم.

كان لصوت فتوح نشاطي نبرته المميزة  التي تدركها عند سماعك لها, فمن ذا الذي يستطيع أن ينسى لعبه لدور والد دورنت في مسرحية الكذاب بقلم كورني، فكان مشهد المعاتبة التي تغمره وضيقه من كذب ولده دورنت في آخر المسرحية إثباتا لقدراته التمثيلية كفنان متميز، وكاتب خرج من روح ثورة  19 التي ظلت معه علي حد وصفه حتي نهاية عمره.

ومن الملفت للنظر في مذكرات نشاطي هو ذاكرته التي حفظت الأسماء بدقة طبقا لسير الأحداث, يحي حقي مثلاً كان من محبي فتوح نشاطي فتجد معه حكاية مقال عنه وينشر الصور بالحدث, مثلا الفنان أنور وجدي يقدمه نشاطي في المسرح فيضع الصورة كما هي, ومن المؤكد أن الفنان الكبير كان يسجل يوميات حياته لمدة أكثر من خمسة وسبعين عاما ترك لنا فيها قصص تستحق الرواية بحق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock