رؤى

رمضان ليس أولهم: “العزل الشعبي” سلاح المصريين ضد المطبعين مع الأعداء

علي مدار التاريخ المصري العريق تبقي (فكرة تخليد الأبطال وتجريس الخونة) صفة في جينات هذا الشعب وهي عزل كل من يخونهم ، يطرودنه من جنة الذاكرة الشعبية التي تتغني بالأبطال فقط ،الشعب الذي  مارس العزل  الشعبي للمرة الأولي في عهد الأسرة السادسة من تاريخ الدولة القديمة  الملك سيتي الثاني (أختوس) لأنه تسامح مع العدو (كما كتب نعيم فرج الجزء الثاني من تاريخ الشرق الأدني ) تجرأ وسب الفقراء وانحاز للأمراء ولم يتركوه حتي سقط،هو نفسه الشعب الذي خلد سيرة (الشاعر تي تي ) وحفظ كل شعره حتي اليوم لأنه قاوم الهكسوس  ربع قرن من الزمن في عهد أحمس الثالث ولعل القارئ الكريم يلحظ عبقرية المصريين في تخليد سيرة شاعر المقاومة (رأس برأس) مثل الملك الأسطوري العظيم أحمس) وكل سيرة له تكون مقترنه ببطل المصرييين الشعبي ،بالمقابل تغزل المصريون في الأبطال الشعبيين علي مدار التاريخ. هو الذي يقول ميدان التحرير رغم أن اسمه أنور السادات وكذلك ميدان رمسيس المسمي رسميا مبارك، الشعب يقرر منح كل شخص لقبه الذي يستحقه فهذا خائن وهذا جزار دنشواي، وهذا لقب غزال البر للفتي الورادني الذي قتل الخائن بطرس غالي.

الشعب الواعي الذي لقب نجم الدين أيوب بالملك الصالح، هذا الحاكم  الطيب لأنه كان يحنو علي المصريين بحق ، ثم يطلق لقب خاين بك علي الأمير خاير بك الچركسي ، وهو أول حاكم لمصر تحت السلطة العثمانية ، وهومن خان المصريين وانضم للمحتل التركي فاستحق لعنة المصريين ، كما (أشارت بذلك موسوعة المعرفة) وكمكافأة له ولاه السلطان سليم الأول حكم مصر بعد أن ضمت إلى الدولة العثمانية، ولقد سخرت منه بعض المصادر وسمته “خائن بك”. وقد حكم مصر لمدة خمس سنوات ، وكان عهده عهد قسوة وعنف وساءت أحوال البلاد.

وفي العصر الحديث تفنن المصريون في السخرية من بطرس غالي الذي خان الشعب المصري بل وتم حرمانه من الدفن في الأقباط وهذا سر وجود الكنيسة البطرسية في العباسية التي دفن فيها )كل هذا لأنه شريك الهلباوي في مجزرة دنشواي، ثم قرر الشعب عزل الهلباوي حتي مات شريدا يبكي في طرقات شوارع القاهرة يطلب الرحمة (كما قال د عصام ضياء الدين) مذكرات الهلباوي مكتبة الاسرة 2006.

وقبل الطرد من مجد الوجدان المصري، كان كل بائعي اللحوم في المدبح ينادون لسان الهلباوي قرب قرب ( إشارة تدل علي مكانة صاحب الصيط)،

 إبراهيم الهلباوي أول نقيب للمحامين في مصر

إبراهيم الهلباوي أعظم المحامين الذين أنجبتهم مصر في ذلك الوقت وصفه عباس محمود العقاد ذات مرةٍ بأنه “كان ذا ذلاقة لسانٍ لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها”. وكان الهلباوي خطيبا مفوها وممثلا رائعا يمزج بين العربية الفصحى والعامية البسيطة ويتحرك بخفةٍ ورشاقة، يجبر المحكمة على سماعه ويجعل من يسمعه ويراه مشدوها بعبقرية هذا الرجل. قال عنه عبد العزيز البشري في “المرآة” إنه “شيخ يتزاحف على السبعين إن لم يكن قد اقتحمها فعلا، عاش مدى عمره يبغضه ناس أشد البغض، رجل عبقري” وقال معاصريه: ” كان الهلباوي يقف في المحكمة فيهز مصر كلها بفضل حججه القانونية البارعة التي جعلته يدعى أعظم طلاب المرحمة والغفران ولم يحظي بهما حتي مات ولم يمشي في جنازته أحد ، والقصة تستحق الحكي .

 إبراهيم الهلباوي
إبراهيم الهلباوي

يوم العار والعزل الشعبي

في يوم 20 يونيو 1906، ( أصدر بطرس باشا غالي ناروز) وزير الحقانية بالنيابة قرارا بتشكيل المحكمة المخصوصة لمحاكمة المتهمين في حادثة دنشواي برئاسة بطرس باشا غالي نفسه،( شفت العدل ) وعضوية كلٍ من “المستر” هبتر نائب المستشار القضائي، و”المستر” بوند وكيل محكمة الاستئناف الأهلية والقائم مقام (لهادلو) القائم بأعمال المحاماة والقضاء بجيش الاحتلال، وأحمد فتحي زغلول بك (شقيق سعد باشا ) رئيس محكمة مصر الابتدائية وأن يكون انعقادها في شبين الكوم يوم الأحد 24 يونيو،.. ثم التقى الهلباوي محمد محمود بك( يامحاسن الصدف محمد محمود تاني مكرر في تاريخ مصر ) رئيس حزب الأحرار الدستوريين ، وكان يعمل آنذاك سكرتيرا خاصا لمستشار وزير الداخلية الإنجليزي “المستر” ميتشل، الذي سأله عما إذا كان أحد من المتهمين في حادثة دنشواي قد وكله للدفاع عنه..فلما نفى ذلك أخطره بأن الحكومة قد اختارته ليمثلها في إثبات التهمة ضد المتهمين أمام المحكمة المخصوصة، باعتباره من أشهر و أكبر المحامين سنا وأقدمية.

(مذكرات إبراهيم الهلباوي: تاريخ حياته، إبراهيم الهلباوي بك تحقيق عصام ضياء الدين؛ تقديم د. عبد العظيم رمضان).

مذكرات الهلباوي
مذكرات إبراهيم الهلباوي

وكان رد الفعل البريطاني قاسيا وسريعا، فقد قدم إثنين وخمسين فلاحا مصريا للمحاكمة بتهمة القتل المتعمد.

وقد استخدم الهلباوي دهاءه لتكييف واقعة اعتداء الفلاحين بالضرب على الضباط الإنجليز، بحيث يثبت أن الحريق الذي وقع في الجُرن نتيجة رصاص الضباط الإنجليز أثناء رحلة الصيد في دنشواي، هو ما حدث بعد اشتباك بين الفلاحين و الضباط الإنجليز ، الذين لم يكونوا أصلا السبب في حدوث حريق الجُرن،وهكذا تمكن الهلباوي من تبرئة الضباط الإنجليز من الأخطاء والجرائم التي ارتكبوها، في حين زاد من مسؤولية الفلاحين عن الحادثة. واتخذ الهلباوي من نجاح الفلاحين في إخماد النيران في الجُرن في غضون ربع ساعةٍ فقط دليلا على أن الفلاحين هم الذين أطفأوا النيران بعد أن أشعلوها ( شفت الفصاحة).

وهكذا أثبت الهلباوي تهمة سبق الإصرار أمام المحكمة ،وكأن الفلاحين رتبوا الأحداث بحيث صمموا على قتل الإنجليز إذا جاءوا للصيد في قريتهم. وكان الملازم بورثر قد ذكر أثناء إدلائه بأقواله أمام المحكمة أن المتهم التاسع عبد المطلب محفوظ قد حماه هو وزملاءه من العدوان عليهم، وقدم إليهم المياه ليشربوا، وهي شهادةٌ كانت كافية لتبرئته.

وعندما جاء الدور على الشاهد فتح الله الشاذلي نجل عمدة دنشواي، ورد في أقواله هو الآخر أنه قد قدم الماء للضباط..فتنبه الهلباوي إلى نقطةٍ جزم بأنها فاتت على الملازم بورثر، ووقف ليقول إنه يلاحظ شبها كبيرا في الملامح بين المتهم عبد المطلب والشاهد فتح الله، وأنه يعتقد أن الأمر قد اختلط على الملازم بورثر..فاستدعت المحكمة الضابط الإنجليزي الذي حسم الأمر، وقال إن الذي سقاه هو ابن العمدة وليس المتهم. وبذلك حرم الهلباوي المتهم التاسع من فرصته للنجاة من الحكم عليه بالأشغال الشاقة المؤبدة.

وكتب صلاح عيسى في كتابه المميز “حكايات من دفتر الوطن” كيف بذل إبراهيم الهلباوي جهدا ضخما في تفنيد كل ما جاء في أقوال المتهمين والشهود ليهدم كل واقعةٍ يمكن أن تتخذ ذريعةً للتخفيف عن المتهمين الأبرياء في حادثة دنشواي، وليثبت للمحكمة أن الحادثة ارتكبت عمدا ومع سبق الإصرار، بل إنه فند التقارير الطبية التي قالت إن الضحية الوحيدة في الحادثة وهو الكابتن البريطاني بول، قد مات متأثرا بضربة شمس، وأكد أن موت بول بضربة شمس لا ينفي أن المتهمين هم الذين قتلوه لأنهم هم الذين ضربوه، وألجؤوه إلى الجري تحت أشعة الشمس اللاهبة. أضف إلى ذلك أن الهلباوي اتهم المتهم البريء حسن محفوظ بأنه “لم يكدر قريةً بل كدر أمةً بأسرها بعد أن مضى علينا 25 عاما ونحن مع المحتلين في إخلاصٍ واستقامة وأمانة.. أساء إلينا وإلى كل مصري..فاعتبروا صوتي صوت كل مصري حكيمٍ عاقل يعرف مستقبل أمته وبلاده”.

صلاح عيسى حكايات من دفتر الوطن
صلاح عيسى حكايات من دفتر الوطن

وفى 27 يونيو من ذلك العام صدر قلم المحكمة المخصوصة التى قضت بإعدام على حسن على محفوظ ويوسف حسن سليم والسيد عيسى سالم ومحمد درويش زهران وتم تنفيذ الحكم علنا في دنشواى فيما تم الحكم على ٢ بالأشغال الشاقة المؤبدة والحكم على آخر بالأشغال ١٥ سنة ثم حكم بالسجن ٧ سنوات على ٦ متهمين مع معاقبة كل منهم بخمسين جلدة علنا. ،وفي الثانية من ظهر يوم ‏28‏ يونيو، جرى تنفيذ تلك الأحكام الجائرة، بعد محاكمةٍ استمرت بضعة أيام فقط وأمام أعين الأهالي، عاش الهلباوي بعد هذه الحادثة ذاق أثناءها الذل والهوان والسخرية والسب والبصق من المصريين وطارده لقب “جلاد دنشواي” في كل مكان. وكانت له كلمته الشهيرة: “ما أتعس حظ المحامي وما أشقاه. يعرض نفسه لعداء كل شخص يدافع ضده لمصلحة موكله فإذا كسب قضية موكله، أمسى عدوا لخصمه دون أن ينال صداقة موكله”.

ومن سوء حظ إبراهيم الهلباوى أنه عمَّر طويلًا بعد الحادث لأكثر من ثلاثين عامًا ذاق خلالها معني ما فعل الذل والهوان من المصريين الذين قابلوه بالكراهية في كل مكان. يقول الأديب يحيى حقي( كتاب صفحات من تاريخ مصر دار المعارف 2007: إنه رأي الهلباوى- يخطب في سرادق ضخم ازدحم فيه أنصار حزب الأحرار الدستوريين من أجل تخليص البلاد من يد المحتلين، وقوبل خطابه بالهتاف والتصفيق، وامتلأ الرجل ثقة وزهوًا وظن أن الدنيا قد صالحته، ولكنه لم يكد يفرغ من خطابه حتى ارتفع صوت في آخر السرادق يهتف (يسقط جلاد دنشواى)وسقط مغشيا عليه،ثم أفاق يقبل يد كل شخص يقابه يرجو السماح لكن ذاكرة المصريين لا تسماح الخونة .

هكذا يعلم الشعب معني خالد فلم يكن هذا الممثل  سوى حالة تكررت وستلقى نفس المصير ولو بعد حين .

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock