في إطار محاولتنا مقاربة مصطلح التأويل ودلالته، لنا أن نؤكد –بداية– على أن معالجة النص القرآني لابد أن تتم عبر ضوابط الاستخدام الإلهي للمفردة، وهو استخدام مميز يرقى بالمفردة إلى مستوى المصطلح؛ لذا فمن حيث إن القرآن مُركب على اللغة العربية كأداة تعبيرية، فإن التعامل مع هذه الأداة يجب أن يكون بمستوى الانضباط المنهجي نفسه. وعليه فإن التعامل مع المصطلحات القرآنية، لا يمكن أن ينبني إلا على البنائية القرآنية نفسها.. إذ ليس الأمر قضية ظاهر وباطن، أو مطلق ومقيد، وغيرها مما اتفق على تسميته بـ”علوم القرآن” بل مصطلح محدد في دلالته ومفهومه ومعناه.
دائرة الدلالة
ومن ثم، فإن مقاربة دائرة الدلالة التي يتخذها المصطلح، وتؤكدها مواضع الورود في التنزيل الحكيم، تبدأ بملاحظة أن لفظة تأويل وردت في كتاب الله العزيز في سبعة عشر موضعًا، وذلك في سبع سور؛ مرة واحدة في ثلاث: النساء، يونس، الإسراء؛ ومرتان في ثلاث: آل عمران، الأعراف، الكهف؛ ثم ثماني مرات في سورة يوسف.
ولعل ورود لفظة تأويل في كتاب الله، بمثل هذا العدد من المرات، يشير إلى مدى دوران اللفظة في التنزيل الحكيم خصوصًا، وفي اللغة عمومًا؛ إذ، لنا أن نلاحظ أن التأويل كان مفهومًا عند العرب قبل الإسلام. كما أن ورود اللفظة ثماني مرات في سورة واحدة، سورة يوسف، يعود إلى أن بناء السورة قائم على أساس رؤيا يوسف عليه السلام في بدايتها؛ وهي الرؤيا التي يتحقق تأويلها في نهايتها. هذا بالإضافة إلى كل من حلم الملك وحلمي السجينين التي أوّلها يوسف.
من هنا، وفي إطار محاولتنا مقاربة مصطلح التأويل لأجل التعرف على الدلالة التي يشير إليها، وبالتالي تحديد ملامحه كمفهوم في القرآن الكريم؛ لنا أن نقارب عددًا من النقاط تختص كل منها بمستوى دلالي محدد، ينبني على اصطلاح معين، تكون لفظة التأويل إحدى مفرداته.
ولعل أهم هذه النقاط، ارتباط التأويل بكل من الرؤى والأحلام والأحاديث، وهو ما ينتج عنه مستويات دلالية مختلفة، تبعًا للاصطلاح الذي ترتبط فيه لفظة تأويل بأي منهما؛ وهو ما يتضح في سورة يوسف. وهنا لا بد من التأكيد على خطأ ما يراه البعض استبدالًا لكلمة أحلام بكلمة أحاديث أو بكلمة”رؤيا من آية إلى آية في هذه السورة.. الدليل على ذلك، هو اختلاف السياقات التي وردت فيها الاصطلاحات الثلاثة.
تأويل الأحلام
فاصطلاح تأويل الأحلام لم يأت إلا مرة واحدة، في هذه السورة، بل وفي الكتاب كله.. وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ ٭ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ ٭ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَاِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِي ٭ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا…” [يوسف: 43 – 46]. وكما يبدو، فإن اصطلاح تأويل الأحلام جاء على لسان حاشية الملك وجاء بدلالة “الهاء” في “أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ” على لسان: “الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا”. ومن ثم، لنا أن نلاحظ “الاختلاف” بين تأويل الرؤيا والحلم، وذلك قياسًا إلى المتحدث؛ إذ عندما يكون “أنا” فهي رؤيا، وعندما يكون “آخر” فهو حلم، ويكون “تأويل الأحلام” هو تأويل الآخر لرؤية الأنا.. ولعل هذا ما يتأكد، إذا لاحظنا قوله سبحانه: “وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ” [يوسف: 36].
تأويل الرؤيا
أما اصطلاح تأويل الرؤيا، فقد ورد مرة واحدة في السورة، وفي الكتاب كله أيضًا، وذلك على لسان يوسف عليه السلام، في قوله تعالى: “وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا…” [يوسف: 100] وها هنا لا يبدو فقط اختلاف دلالة هذا الاصطلاح، عن ذاك الذي سبقه، قياسًا إلى المتحدث، ولكن أيضًا يبدو ما تشير إليه الآية من معنيين مهمين: معنى التأويل ومعنى الحق.
ففي المعنى الأول: “هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ”، أي بعد أن رأى يوسف في المنام ما رآه، وبعد أن تتالت الأحداث حتى وصل أهله إلى مصر وهو وزير، عندها تحوّل المنام من مجرد رؤيا في وعي يوسف، إلى حقيقة موضوعية مادية خارج وعيه؛ هذا التحول “الجعل” هو تحقق التأويل. وفي المعنى الثاني: “قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا” أي غيَّر صيرورتها، من حال الرؤيا إلى حال الحقيقة الملموسة، لذلك وردت كلمة “حقًا”.
تأويل الأحاديث
أما اصطلاح تأويل الأحاديث، فقد ورد ثلاث مرات، وفي سياق مختلف عن سابقيه، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: “وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ…” [يوسف: 6] وفي قوله سبحانه:”وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” [يوسف: 21]، وفي قوله تعالى: “رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض أَنْتَ وَلِيِّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ” [يوسف: 101].
في هذا السياق، سياق الآيات، يبدو بوضوح أن تأويل الأحاديث هي مسألة خاصة بيوسف، وأنها مرتبطة بـ”تعلم” يوسف إياها عن ربه “فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض”؛ إذ، نلاحظ ارتباط اصطلاح تأويل الأحاديث، في الآيات الثلاث، بـ”َيُعَلِّمُكَ، َلِنُعَلِّمَهُ،َ عَلَّمْتَنِي”. بيد أن يوسف لم “يتعلم” تأويل الأحاديث كلها، ولكن بعضها، وهو ما يشير إليه تكرار حرف “مِنْ” للتبعيض.
هذا، وإن كان يشير إلى اختلاف الاصطلاحات الثلاثة، من حيث السياق الذي ورد فيه كل منها؛ إذ إن كتاب الله العزيز، أكبر وأكثر عمقًا من أن يتم فيه مجرد استبدال كلمة بأخرى؛ إلا أنه في الوقت نفسه، يؤكد أن تأويل الأحاديث يشمل تأويل الرؤيا، وتأويل الأحلام (حلم الملك) الذي يقوم يوسف بتأويله [كما في الآيات 47-49]، وحلمي السجينين [كما في الآية 41].
ويشمل إضافة إلى هذا وذاك، الإخبار عن حدوث أمر قبل وقوعه فعلًا، وهو ما يتبدى على لسان يوسف، في قوله سبحانه وتعالى: “قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي” [يوسف: 37]. ولأن الإخبار عن الأشياء قبل حدوثها، هي مسألة خاصة بيوسف، وأنها بالتالي من تأويل الأحاديث، لذلك اتبع يوسف تأكيده لزملائه في السجن على قدراته التأويلية، التي لا تقتصر على مجرد تأويل الأحلام، بـ “ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي”.
تأويل الأفعال
وإذا كان تأويل الأحاديث يتمحور حول معنى الإخبار عن الأشياء قبل حدوثها، وكان هذا الإخبار ناتجًا عن العلم الذي أوتيه يوسف؛ فإن ثمة تأويلًا آخر، هو تأويل الافعال، يتمحور حول معنى الكشف على الدلالة الخفية للأفعال، وهو الكشف الناتج عن العلم الذي أوتيه العبد الصالح، كما تخبرنا بذلك سورة “الكهف”. ففي قصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، نبأه الأخير بما تؤول إليه الأفعال التي قام بها، ولم يستطع موسى الصبر عليها؛ لذا قال: “سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” [الكهف: 78]. وبعد الانتهاء من التأويل، بالكشف عن دلالة الأفعال، قال: “ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا” [الكهف: 82].
وهكذا، تتبدى دائرة الدلالة لمصطلح تأويل في القرآن الكريم، فهي تشير إلى الكشف عن الأسباب الحقيقية للشيء أو الظاهرة، وتبيان ما تصل إليه حركتها من هدف أو غاية. ومن ثم، يتأكد ما ذكرناه من قبل، من أن التأويل: “حركة ذهنية في إدراك الأشياء والظواهر والوعي بها”… يتبع.