لعل أهم ما يمكن ملاحظته بالنسبة للجاحظ، أبو عثمان عمر بن بحر (159 – 255 هـ) أنه صاحب الإنتاج الأكثر شهرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، وعلى الأخص كتابيه: “الحيوان” و”البخلاء”.. ناهيك عن كتابه “البيان والتبيين”.. وبالرغم من الذيوع والانتشار الذين تمتعت بهما كتاباته؛ إلا أنه –في اعتقادنا– لم ينل حقه من الدراسة والبحث اللازمين، من جانب الباحثين والدارسين العرب والمسلمين.
ويُعد الجاحظ من أغزر كُتّاب العالم إنتاجا؛ فقد كتب حوالي 360 كتابًا في معظم فروع المعرفة في عصره، إلا أن عددًا كبيرًا من تلك الكتب كانت في مذهب الاعتزال وبحث مشكلاته؛ ومن ثم كان التعصب المذهبي هو ما أدى إلى أن يحتفظ الناس بكتب الجاحظ الأدبية، ويتجاهلوا كتبه الدينية، فلم يصل إلينا منها شيء.
مكانة العقل
لكن هذا لا يًقلل من أهمية الجاحظ الذي رفع لواء العقل، وجعله الحكم الأعلى في كل شيء؛ هذا فضلًا عن رفضه الواضح لمن أسماهم بالنقليين، الذين “يلغون عقولهم أمام ما ينقلونه ويحفظونه من نصوص القدماء، سواء من ينقلون عن أرسطو، أو بعض من يعتمدون على المرويات في إسناد الأحاديث النبوية”.
ورغم أن بعض فلاسفة الشرق والغرب قد وقفوا أمام أرسطو موقف التلميذ المُصَدِق لما يقوله الأستاذ، فإن الجاحظ قد وقف أمام أرسطو عقلًا لعقل، يقبل منه ما يقبله عقله، ويرد عليه ما يرفضه عقله، حتى إنه كان يسخر منه أحيانًا. ففي كتاب “الحيوان” يقول عن أرسطو “وقال صاحب المنطق: ويكون بالبلدة التي تسمى باليونانية “طبقون” حَيّة صغيرة شديدة اللدغ، إلا أنها تُعالج بحجر يخرج من بعض قبور قدماء الملوك.. ولم أفهم هذا، ولِمَ كان ذلك؟”.
والواقع، أن كتاب الحيوان، وهو من مؤلفات الحاجظ الأخيرة، يُعتبر أول كتاب جامع وضع في العربية في علم الحيوان؛ لأن من كتبوا قبل الجاحظ في هذا المجال، أمثال الأصمعي وأبي عبيدة وابن الأعرابي والسجستاني وغيرهم، كان تناولهم يقتصر على حيوان واحد، مثل الإبل أو النحل أو الطير، وكان اهتمامهم ينصب على الناحية اللغوية وليس العلمية. لكن الجاحظ اهتم، إلى جانب اللغة والشعر، بالبحث في طبائع الحيوان وأحواله وعاداته.
ولأن الجاحظ كان غزير العلم، مستوعبًا لثقافات عصره، فقد كانت مراجعه في كتبه عمومًا، ومنها كتابه الأشهر “الحيوان” تمتد لتشمل القرآن الكريم والحديث النبوي وأقوال الحكماء والشعراء، وعلوم اليونان وأدب فارس وحكمة الهند، إضافة إلى تجاربه العلمية ومشاهداته وملاحظاته الخاصة. فالجاحظ، لم يكن مجرد قاصٍ لمجموعة من النوادر عن البخلاء، أو مجرد كاتب جمع كل ما كان معروفًا في عصره عن الحيوان؛ لكنه كان صاحب رؤية محددة حول الإنسان وقضية المعرفة والقدرة والطبع أيضًا، وهي الرؤية التي تضمنها كتابه “الحيوان” بشكل خاص.
العقل والمعرفة
يتميز الإنسان عند الجاحظ عن غيره من الكائنات الحيوانية، بكلٍ من قدرته واستطاعته على الفعل والاختيار. ويترتب على القدرة والاستطاعة وجود العقل. إذ كما يقول “إن الفرق بين الإنسان والبهيمة، والإنسان والسبع والحشرة، والذي صيّر الإنسان على استحقاق قول الله عز وجل: “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ” [الجاثية: 13] ليس هو الصورة، وأنه خلق من نطفة وأن أباه خلق من تراب، ولا أنه يمشي على رجليه، ويتناول حوائجه بيديه، لأن هذه الخصال كلها مجموعة من البله والمجانين، والأطفال والمنقوصين. والفرق إنما هو الاستطاعة والتمكن. وفي وجود الاستطاعة وجود العقل والمعرفة. وليس يوجب وجودهما وجود الاستطاعة”.
ومن ثم فإن العقل كما هو واضح في رؤية الجاحظ، تابع من توابع الاستطاعة، والمعرفة نتيجة لها. وعلى ذلك تعد الاستطاعة أساسًا لوجود العقل، الذي يترتب علي وجوده وجود المعرفة.
غير أن الجاحظ يربط المعرفة والعقل بالحاجة الإنسانية وضروراتها؛ فهو يحكي على لسان أحد الحكماء: “وقيل لأحد الحكماء: متى عقلت؟ فقال: ساعة ولدت. فلما رأى إنكارهم لكلامه، قال: أما أنا فقد بكيت حين خفت، وطلبت الأكل حين جعت. هذه مقادير حاجاتي، ومن عرف مقادير حاجاته، إذا مُنِعَها وإذا أُعْطِيها، فلا حاجة به في ذلك الوقت أكثر من ذلك العقل”. وهذا يعني إن حاجات الإنسان (الطفل) الحيوية الطبيعية، هي التي تحدد له معارفه، تلك التي أطلق عليها الجاحظ اسم العقل.
العقل والإرادة
ولا يتوقف الجاحظ عند الإنسان الفرد، لكنه ينتقل إلى الجماعة. وهنا يشير إلى أن “حاجة الناس إلى بعضهم، صفة لازمة في طبائعهم، وخلقة قائمة في جواهرهم، وثابتة لا تزايلهم، ومحيطة بجماعتهم، ومشتملة على أدناهم وأقصاهم”.
وهكذا، فإن كان الطفل لا يحتاج من العقل أو المعرفة إلا بمقدار حاجاته الحيوية، فإن الجماعة البشرية لها بالضرورة احتياجاتها الجديدة، التي تتطلب وسائل جديدة تعين الإنسان على المعرفة وإدراك عالميه الطبيعي والإنساني معًا.
بهذا الربط بين المعرفة والحاجة، كان من الطبيعي أن يعتبر الجاحظ المعرفة ضرورية من ضرورات الوجود البشري؛ بل اعتبر أن مبدأ القدرة الإنسانية هو الأساس في وجود العقل والمعرفة، ومن ثم يذهب إلى أن “المعارف الإنسانية كلها ضرورية طباع، وليس شيء من ذلك من أفعال العباد. وليس للعبد سوى كسب الإرادة، وتحصل أفعاله منه طباعا”.
بيد أن أهم ما يمكن ملاحظته في هذا الشان، أن القول بضرورة المعرفة وربطها بقانون الطبائع عند الجاحظ، يترتب عليه نوع من الجبرية في الإيمان. وهي الجبرية التي تؤدي إلى القول بأن: الكافر ليس بقادر على الإيمان، لأنه مما لا يحتمله طبعه، الذي هو من خلق الله فيه.
لكن الجاحظ يحاول إنكار هذه النتيجة، وذلك عن طريق القول بأن الكافر قد وقعت له المعرفة الضرورية بالله وصفاته، لكنه كفر بعناده وإنكاره وإصراره على هذا العناد والإنكار. هذا ما أشار إليه البغدادي في كتابه “الفرق بين الفِرق” حينما قال “والكفار عنده (أي عند الجاحظ) ما بين معاند وعارف قد استغرقه حبه لمذهبه”.
الجاحظ، إذن يعتبر الإرادة هي الفعل الإنساني الذي تترتب عليه مسئولية الإنسان عن فعله، ومن ثم استحقاقه للثواب والعقاب.
وبذلك كله، تصبح المعرفة بمعناها العام عند الجاحظ – ضرورة للإجماع البشري. وتترقى تبعا لذلك، من التمييز بين الضار والنافع (وهذه في ما يرى المرحلة الدنيا للوجود الإنساني) حتى تصل إلى المعرفة التي تؤدي إلى السعادة؛ تلك التي تتمثل في معرفة عالم الغيب ومعرفة الله سبحانه وتعالى، الذي سخر له كل ما في العالم من جماد وحيوان ونبات، ليستعين به في حياته أولًا.. وليستدل به ثانيًا.
وبذلك أيضًا يترقى الإنسان، حسب ما يرى الجاحظ “من معرفة الحواس إلى معرفة العقول، حتى لا يرضى من العلم والعمل إلا بما أداه إلى الثواب الدائم، ونجاته من العقاب الدائم”.
وفي نظرنا، فإن الجاحظ بهذا الفكر الذي يُعلي من شأن العقل، وهذه الثقافة المتنوعة، وهذا العمر المديد بما يُعطيه للمرء من تجارب وخبرات، فضلًا عن هذا الأسلوب المميز الذي أُشتهر به، استحق مكانه المتميز في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، بما له من تأثير واضح قوي في معظم من جاءوا بعده.
أما ما يؤخذ عليه، فهو بعض مما يؤخذ على المعتزلة عمومًا.
