ثقافة

“اضحك لما تموت”.. ضربات الزمن الغادرة عندما تصيب القلب

“إلى الذين استشهدوا منذ زمن بعيد ولم يدفنوا حتى اليوم” بهذه الكلمات اختار الراحل الكبير لينين الرملي أن يهدي مسرحيته “اضحك لما تموت” والتي شاء القدر أن تكون أخر أعماله قبل أن يرحل عن عالمنا.

الهيئة العامة لقصور الثقافة، أصدرت منذ أيام قلائل طبعة جديدة من المسرحية، والتي كان للرملي حكاية خاصة معها يرويها باستفاضة في المقدمة “خطرت لي فكرة هذه المسرحية في أغسطس 2010، وانتهيت منها في 31 أغسطس 2014، وإن كنت أعود لها من حين لآخرلأحذف بعض سطورها أو أغيّر في بعضها كما هي العادةـ وهي المسرحية رقم واحد وخمسين من أعمالي”.

توصف المسرحية بأنها من ذلك النوع الذي يطلق عليه مسمى السهل الممتنع، فالرملي وفقا لوصف الناشر اعتاد أن يغزل من خيوط الجدية سخرية حادة وتناقضا مريرا يبعث على الضحك، وبنهايات تصلح لنصوص درامية جادة وعابسة تنتهي معظم كتاباته المسرحية حيث ينطلق دوما  من موقف يصلح لانطلاق نص جاد ومتجهم.

المسرحية التي تدور في قالب ساخر.. وتدور أحداثها في شقة تطل على ميدان التحرير في عام استثنائي هو عام 2011، ترصد في ثناياها جزءا كبيرا من تشوهات الواقع والأحلام الضائعة والإحباطات التي تعصف بالبشر خلال حياتهم اليومية.. داخل تلك الشقة يعيش يحيى أستاذ التاريخ وحيدا، وفي عزلة كاملة، وكأنه ينتمي إلى الماضي الذي يدرسه لطلابه في أروقة الجامعة، لم يعد لديه ونيس أو جاليس بعد أن رحلت زوجته عن الدنيا وهجره ابنه، وفجأة يقتحم عزلته صديق قديم لم يره منذ سنوات طويلة، يطرق طاهر بابه بعد أن ضاقت به الأرض بما رحبت، بعد أن تركته ابنته الوحيدة وسافرت إلى الخارج قبل أن تطرده زوجته من الشقة ويجد نفسه فجأة في الشارع مشردا بلا مأوى.

اضحك لما تموت

كلنا في الهم أصدقاء، مهزمون أمام الحاضر بلا مستقبل، ومع هذا الواقع المرير؛ تبدو عبثية أن يتشبث المرء بحلم.. يتمنى كل منهما أن يأتي إليه الموت بغتة ليخلصه من هموم كالجبال، وليل يراه طويلا بلا نهار يلوح في الأفق.

لا يجدان أمامها من سبيل؛ سوى أن يعب يحيي من الخمر ما استطاع؛ أملا في نسيان بات بالنسبة له رابع المستحيلات.. أما طاهر فتسيطر عليه فكرة الانتحار؛ بعد أن أصبح مجردا من كل شىء في لحظة غادرة، لم يتوقع أن يتجرع مرارتها يوما ما، لكن شيئا ما يقلب موازين تفكيرهما فجأة.. فميدان التحرير الهادئ يتحول إلى ساحة واسعة للمظاهرات، وتحاول المسرحية من خلال تسلسل الأحداث أن ترصد صراع يجري على أشدّه بين جيلين: أحدهما يريد التغيير ونزل من أجل ذلك إلى الشوارع، دون أن يدرك عاقبة ذلك، والآخر يبقى حتى الرمق الأخير من حياته مرتبطا بالماضي؛ فيظل حريصا على أن يتكوّم خلف الجدران وهو يتابع ما يجري على بُعد خطواتٍ منه من كرٍ وفرٍ ومعاركَ وتحولاتٍ.

إنها ضحكات ممزوجة بالمرارة.. تلك هى الحالة المتناقضة التي يضعنا فيها الكاتب المسرحي الكبير لينين الرملي، ونحن نطالع سطور مسرحيته، التي يشتبك فيها مع الواقع بطريقته الخاصة، ويعزف فيها على الكثير من الأوتار الحساسة؛ خاصة فيما يتصل بالصراع المتجدد بين الأجيال، حيث تتسع الهوة بين الشباب والكبار ساعة بعد أخرى.

فيما بين السطور.. تتجسد مرارة أجيال دفعت الثمن باهظا، خلال عهد السادات حيث كان ما وصف بـ” انفتاح السداح مداح”.

يحيى أستاذ التاريخ تتكشف لنا عوالمه الخاصة شيئا فشيئا؛ فنعرف السبب الذي كفر من أجله بالسياسية عندما تظهر تفاصيل اعتقال والده الوفدي في الستينات.

الصديقان داخل الشقة، يظهر لنا بوضوح عزوفهما الكامل عن الانخراط في الحياة أو التعاطي، بأي صورة من الصور، مع ما يجري على بعد خطوات منهما، من قِبَل الشباب في الميدان، فكل منهما مسكون من الداخل بإحباطات شتى.

كل منهما تلقي طعنة غادرة من ابن او ابنة أو زوجة، وتُرِكَ وحيدا يواجه مصيره البائس، ويبحث عن الموت باعتباره المخلص، كلاهما فقد الرغبة في التغيير، وأصبح يقف مستسلما لما يجري حوله ولا يحرك ساكنا، وكلاهما ليس لديه ولو ذرة تفاؤل واحدة بالمستقبل الذي يخشى أن يحمل إليه صنوفا جديدة من الهموم والأوجاع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock