فن

فيلم “الكاهن” وكشف غموض التنظيمات السرية

“صوتك مَعدش مِنك، وقتك مَعدش مِلكك، مفكر إنك تملكه، لكن هو اللى مالكك، عالَم هيوجهك، هيتوهك، هيشوهك، ويمد إيده يخرس أي صوت هينبهك، بإيده يعكس فطرة، يزرع فكرة، يطفى بكره، في إيده زرار مشاعرك، افرح ..ازعل ..حب واكره!! واللي في إيده سرك، يقدر يلوي دراعك!”.

هذه الكلمات لصابر كمال هي بعض كلمات أغنية فيلم “الكاهن” التي قام بتلحينها محمد يحيى، ووزعها موسيقيًّا خالد نبيل، وغنتها نهال نبيل بمشاركة محمود عزب (Mokka)، والتي قام المخرج عثمان أبو لبن بإخراج الكليب الخاص بها.

في نهاية عام 2021، أنتج فيلم “الكاهن” وبدأ عرضه في دور السينما المصرية بالتزامن مع بعض دور العرض في الدول العربية.. وقد حقق الفيلم في أول أسبوع من عرضه حوالي2.5  مليون جنيه؛ لكن الفيلم رُفع من دور العرض المصرية في مارس الماضي، بسبب تراجع إيراداته التي بلغت خلال عشرة أسابيع من عرضه حوالي 4 مليون جنيه فقط.

شارك عدد كبير من النجوم في بطولة الفيلم هم: إياد نصار وحسين فهمي ومحمود حميدة وجمال سليمان وفتحي عبد الوهاب ودُرّة، بالإضافة إلى مشاركة الفنانين: محسن محي الدين وأحمد فؤاد سليم وحنان سليمان.. وأخرج الفيلم عثمان أبو لبن، والتأليف لمحمد ناير، والتوزيع الداخلي لشركة (سينرجي)  Synergyللإنتاج الفني، والفيلم إنتاج مصري سعودي مشترك بين شركة (سينى برو) Cine Pro المصرية، والشركتين السعوديتين شركة (بنش مارك)  Benchmarkوشركة (آد)add. ، والتي سبق لها التعاون في إنتاج فيلم “قصة حب” عام 2019.

ومع أول أيام عيد الفطر المبارك في مايو الماضي عُرض الفيلم على إحدى المنصات حصريا.

في إطار تشويقي مصحوب بموسيقى تصويرية صاخبة تتفق مع إيقاع العصر، ومن خلال أحداث متلاحقة وحوار سريع يجهد المشاهد في متابعته؛ تدور أحداث فيلم “الكاهن” حول الحرب الإلكترونية أو حرب المعلومات العالمية، وكيف تتصارع القوى العظمى الخفية، وتنظيماتها السرية من أجل التحكم في اقتصاد العالم وثرواته، بل وفي الإنسان ومصيره من خلال امتلاك كافة بيانات بلايين البشر التي قدموها طواعية من خلال أجهزتهم الذكية لشركات تسيطر بطريقة سرية وغامضة على حركة العالم وتوجهها كيفما تشاء.

اعتمد الفيلم بالأساس على تكنيك الأفلام الأمريكية؛ فاتخذ المخرج من جريمة قتل محركا رئيسا للأحداث؛ ما أضعف السيناريو، وتسبب في فقدان الفيلم لطابعه المميز، بسبب توجيه الأحداث كلها للكشف عن هوية الجاني.

 “فيروز الشهاوي” التي أدت دورها الفنانة دُرّة هي الضحية، وجسد الفنان محسن محي الدين، باحترافية شخصية الدكتور “مصطفى عبد الجليل” الذي صدر الامر بالتخلص منه فور كشفه السر ومحاولته إطلاع الناس عليه.

…وهكذا، وعلى مدار أحداث الفيلم يفقد الأبطال حياتهم الواحد تلو الآخر.. ولا يبقى في النهاية سوى الصحفية  “فيروز” التي تنجو بأعجوبة من الموت عدة مرات، على نحو افتقر كثيرا للمنطقية، على يد “عَلِي” فتحي عبد الوهاب؛.. لتظهر في النهاية الفيلم بصحبة زوجها “حسن” إياد نصار بعد القضاء على الكاهن الذي توقع المشاهد أن يكون هو حسين فهمي أو “صلاح” (أحد المشاركين في التنظيم السري والذي خطط لرئاسته)، فإذا هو “أكمل شمس” (صاحب المؤسسة الإعلامية الضخمة) أداه جمال سليمان! ليتمكن بعد ذلك “عَلِي” من العيش بسلام مع ابنه الوحيد (دون أن يعرف المشاهد سبب افتراقهما). بعد أن يتسبب الصراع على قيادة التنظيم في تصفية رجاله، بينما يتمكن “حسن” من إنهاء حياة “أكمل” لتنتهي أسطورة التنظيم السري أو لتولد من جديد! فنظرية المؤامرة لن تتوقف سيناريوهاتها، وكينونة اللهو الخفي Man of the Cloth الذي يسيطر على كل شيء حوله متسترًا خلف أقنعة كثيرة كي تظل هويته مجهولة ويظل هو غامضٌ طوال الوقت، هي في الواقع أقصوصة خيالية مثيرة وممتعة ومحفزة للبحث والتفكير؛ ولكنها في نفس الوقت قد تكون مكبِّلة للحركة ومسيطرة على العقول لدرجة تفرض عليها الانقياد والاستسلام، ومن ثم اليأس من التغيير، فتُسلَب الإرادة الإنسانية ويتحول الكائن البشري إلى دمية يُعبث بمصيرها ومصير الإنسانية جمعاء.

تلك هي وظيفة الكاهن، أن يتحكم في كل شيء؛ دون أن يظهر في المقدمة أو تُسلَّط عليه الأضواء، ولأنه يدَّعي معرفة الأسرار وقراءة الغيب؛ فلابد أن يكون له سلطان وتكون له قدسية، قد لا يستحقها ولكنه يسعى إليها ويدافع عنها؛ كي يحافظ على مكانته وعلى سلطانه.. لذلك فإن لكل عصر كهنته وسحرته الذين لا يلتفون إلا حول الطغاة المتكبرين والمجرمين المفسدين في الأرض، والذين لا يبغون إلا علوًّا فيها عن طريق استعباد البشرية وتجويعها وعدم إقامة العدل. ولكن الأرض لا يمكن أن تكون بيد الطغاة طوال الوقت فيكون الأمر بيدهم دون حساب أو مراجعة أو إله قادر على قصمهم إذا أراد، أو تسليط جنده للقضاء عليهم في أي وقت، وهذا ما أشار إليه الدكتور “مصطفى عبد الجليل” في نهاية الفيلم بذكره لآية من آيات القرآن الكريم وهي: “فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ وَءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَعَلَّمَهُۥ مِمَّا يَشَآءُۗ وَلَوۡلَا دَفۡعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعۡضَهُم بِبَعۡضٖ لَّفَسَدَتِ ٱلۡأَرۡضُ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡعَٰلَمِينَ” (251) سورة البقرة.

فسُنة الحياة على الأرض هي أن تعلو أمم وتهبط أخرى، وأن تنتصر أقوام وتنهزم أخرى، وأن ترتقي شعوب وتُبنى حضارات؛ بينما تنحدر شعوب أخرى وتأفل شموس حضاراتها، وكأنها لم تسطع يومًا!.

لكننا نشهد اليوم في عالمنا المعلوماتي والرقمي الذكي؛ بث حالة من الرعب والخوف والقلق والحزن واليأس بين جموع البشر، في كل مكان في العالم من خلال الآلة الإعلامية الإخبارية التي تصنع الخبر وتكون هي مصدره والقادرة على تسليط الضوء عليه، من خلال وجهة نظر معينة، أو تجاهله بعد ذلك دون مبررات واضحة؛ وذلك كي تخضع الجموع بفعل تسلط الأفكار والمشاعر السلبية، المقصود بثها في تعاقب وتوالي وإلحاح واستمرارية دون انقطاع؛ فيفقد الإنسان إرادته بالتدريج ولا يصبح فاعلًا، ومن ثم يسهل التحكم فيه والسيطرة على حركته.

 إن المسألة قد تتعلق في ظاهرها بغموض التنظيمات السرية وتاريخها القديم الذي ربط فيلم “الكاهن” نشأتها وأصولها بالمصريين القدماء منذ 4000 سنة، فاستخدم رموزًا من الحضارة المصرية القديمة مثل: عين حورس، والهرم، والشمس؛ ولكنها في جوهرها تلقي الضوء على  استمرارية وجود مثل هذا النوع من التأثير على البشر، والذي قد تتغير أشكاله وسبله ووسائله، ولكنه سيظل موجودًا طوال الوقت مثلما يوجد الكذب والنفاق والزيف والخداع بين الناس منذ بدء الخليقة، وأية سلوكيات تعبر عن تلك الأخلاق؛ هي بالقطع سلوكيات تآمرية تحدث في الخفاء وتمارس في الظلام بعيدًا عن النور.

لذلك فإن الأولى من البحث عن خيوط أية مؤامرة وتتبع كهنتها السريين لكشف هويتهم الغامضة– هو أن يملك كل إنسان زمام نفسه؛ فيكون له سلطان عليها ولا يتحول إلى دمية يستطيع غيره تحريكها وتوجيهها كيفما يشاء، وأن نسعى جميعًا إلى اليقين بأن الشر سواء كان علنيًّا أو مُدبَّرًا في الخفاء فلن يقف في مواجهته سوى الخير، ونحن من نختار؛ إما أن نكون حراسًا على حياة عامرة بالخير  والحق والجمال، أو أن نتخلى عن تلك الحياة مستسلمين لكل من يهدم أجمل وأرقى ما فيها.

فحتى لو امتلكت مؤسسة ما كل البيانات الخاصة ببلايين البشر، فهي في النهاية لن تتحكم سوى فيما تملكه من بيانات، بينما الخطورة الحقيقية تكمن في أن يكون هناك سلطان على عقول هؤلاء البشر من خارجهم؛ ومن ثم يتم توجيه تحركاتهم دون أية إرادة منهم. لذلك فإن السر الحقيقي يكمن في قدرة الإنسان على التحرر من سلطان العالم الرقمي الذكي والتخلص من أسر كهنوته الخفي. فإذا ما استعاد الإنسان قدرته على التحكم في استخدامه لتطبيقات الهواتف الذكية التي أدمنّاها لدرجة جعلتنا لا نتصور حياتنا بدونها –على الرغم من كونها ليست سبلًا للتواصل الاجتماعي، بقدر ما أصبحت وسيلة للتجسس على الآخرين والإلهاء عن معاني كثيرة في الحياة، عندئذٍ سيزول الرعب من أية مخططات خفية تقوم بها تنظيمات سرية. فنحن من استبحنا تقديم تفاصيل حياتنا للملأ على طبق من فضة وبمحض إرادتنا دون أن نعرف من الذي ستكون بيده، وكيف سيستغلها، ثم نتفاجأ بعد ذلك كل يوم بجرائم إلكترونية جديدة قد نكون نحن ضحيتها القادمة!

لذلك فنحن من نسمح لكهنة ذلك العصر وبكامل إرادتنا– أن يكون لهم سلطان علينا فيتوغلون في حياتنا ومن ثم نخضع لسيطرتهم على أفكارنا ومشاعرنا، ونحن أيضًا من نملك القدرة على التحرر من سيطرتهم علينا إذا أردنا ذلك. فلا يمكن أن يتآمر أحد علينا ما دام سرنا بيدنا وتحت سيطرتنا، وسرنا يكمن في قوة إرادتنا. عندئذٍ لن يكون لبشرٍ مثلنا سلطان علينا سواء في السر أو في العلن، ولن يفرض علينا أحد العالم الذي يريده لنا، والذي كلما نجح في تصويره كعالم غامض وسريّ كلما ازداد خوفنا من مواجهته وكشف ستره والقضاء على قوته.

وإذا كان الكاهن يمكنه السيطرة على الإنسان بسبب قدرته على التكهن بالغيب ومعرفة أسراره وخفاياه، فإن الإنسان القادر على صنع حاضره بنفسه، والذي يشغل نفسه بإصلاح نفسه، والذي يحافظ بإرادته الحرة على سلامة قلبه ويقظة ضميره وحرية عقله لن يفرط في سلطانه على نفسه، ولن تخيفه تقلبات الغيب وحوادثه المجهولة، أو يعبأ بأسراره الغامضة أكثر من اللازم، أو يصبح شغله الشاغل هو فك رموزه وطلاسمه دون جدوى.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock