ثقافة

قوة العقل في تزكية النفس عند “ابن الجوزي”

العاقل هو اليقظ البصير، والحصيف الفهيم، والذكي الفطن، واللبيب الحاذق، والحكيم الرزين، والرشيد المهتد، والكيِّس النبيه، والنجيب الحليم. وإذا كان كلٌّ من التيقظ ونفاذ البصيرة، والحصافة والفطنة، والفهم والذكاء، والحكمة والرزانة، والرشد والنباهة، والحِلم والصبر والتروي، ورحابة الصدر وسداد الرأي من خصال العقلاء ومن علامات التعقل، فإن غير العقلاء يتصفون بالحُمق والجهل، والخُرق والغباء، والفَدَامة وضعف الفهم، والرعونة  والسذاجة، والضلال والطيش، والغفلة والتهور، والجنون والبلادة. فكل لاهٍ وغاوٍ وغافلٍ هو عن التعقل بعيد ومن الضلال قريب، فإذا به منصرف عن الحق ومنقاد لهواه، وخاضع لشهواته وذليل لرغباته، وسهلٌ إغراؤه ومن ثم إغواؤه ليس بعسير.

ولقد أولى الإسلام اهتمامًا بالغًا بالعقل البشري فجذر كلمة (ع ق ل) ورد في القرآن الكريم 49 مرة، أما جذر كلمة (ف ك ر) فقد ورد 18 مرة. وعلى مدار التاريخ الإسلامي كان هناك اهتمام واضح  من علماء المسلمين بعملية التفكير وضرورة استخدام العقل ليس فقط لتبصر الحقائق وفهم المهمة المكلَّف بها الإنسان على الأرض، ولكن أيضًا للتيقن من غيبية البعث وما يترتب عليه من حساب وثواب وعقاب.

فعلى سبيل المثال في القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي أثرى الإمام والفقيه والمُحدِّث والمؤرخ العربي العراقي “جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد” الشهير بابن الجوزي [510-597ه/1116-1201م] المكتبة العربية والإسلامية بعدد لا بأس به من المصنفات الخاصة بأحوال العقلاء وآفات الحمقى والمغفلين والتي لا تخلو من الزهد والوعظ ومنها: صيد الخاطر، وأخبار الأذكياء، وأخبار الحمقى والمغفلين، وذم الهوى، وبحر الدموع، و تنبيه النائم الغمر  على مواسم العمر، و الطب الروحاني.

ولاشك أن العقل هو أهم ما يميز الإنسان عن كثيرٍ من المخلوقات، وفي رحلة الحياة القصيرة إذا لم يستطع الإنسان العاقل أن يستدل بعقله وحصافة تفكيره على الطريقة المثلى التي يحيا بها في الدنيا كي يكون من الفائزين فيها فسيتخبط مُضيعًا عمره في اللهو واللعب، وإذا ما غفل الإنسان عن مهمته التي عليه القيام بها فربما تتسم حياته بالعبثية أو يغلب عليها الشقاء. وهكذا استطاع العالم والفقيه والواعظ الزاهد “ابن الجوزي” أن يكون العقل في حياته هو مناط الحياة الجيدة التي حاول أن يحياها مُكرِّسًا وقته لطلب العلم، وساعده على ذلك رغبته في الزهد وقدرته على الترفع عن ملذات الدنيا ومتاعها الزائل؛ ومن ثم فقد نجح في استخدام عقله كي يرشده لما هو مهم في الحياة ويعود عليه بالنفع ليس فقط في حياته بل أيضًا عند بعثه بعد موته. وهكذا طبَّق “ابن الجوزي” في حياته ما كان يعظ به الناس فمن أقواله: “إذا قنعت بميسور القوت، بقيت في الناس حُرًّا غير ممقوت”. فالحرية التي هي أسمى ما يمكن أن يسعى إليه الإنسان لن تتحقق إلا بقدرته على الاستغناء وعزمه على الاكتفاء؛ ومن ثم كف النفس عن الطمع الذي يكلف الإنسان قضاء جُلَّ عمره في الجري وراء متع متغيرة ألوانها ومتبدلة أشكالها. أي إن أولى خطوات الحرية هي تحرر الإنسان من أسر شهوات نفسه؛ ومن ثم قدرته على التحكم في أهوائه ورغباته.

ذم الهوى

وعلى هذا الأساس وبالرغم من تأثر “ابن الجوزي” بتقسيم “أفلاطون” للقوى التي تتحكم في النفس البشرية إلى قوة عاقلة (ناطقة)، وأخرى غضبية، وثالثة شهوانية، إلَّا إنه ربط هذه القوى بطبيعة النفس البشرية وفقًا للتصور الإسلامي. فموضع القوة العاقلة هو الرأس وفضيلتها هي التفكير والحكمة ورذيلتها هي الجهل والحمق، وقوة العقل هذه هي الفضيلة الأسمى بين الفضائل الأخرى لذلك يجب أن تخضع لها القوى الأخرى ولا تطغى عليها. أما القوة الغضبية ففضيلتها الشجاعة ورذيلتها الجُبن وموضعها هو الصدر (القلب)، بينما القوة الثالثة الشهوانية فموضعها البطن (الكبد) وفضيلتها العفة. وهكذا فإن العقل بالنسبة للبدن يشبه الراكب بالنسبة للفرس في كونه يعلوه كي يمتطيه ويوجهه كيفما يشاء؛ ومن ثم فإن الإنسان بالحقيقة هو من كانت نفسه الناطقة أقوى الأنفس مثلما يرى “أفلاطون”.

وبالتالي فمن الواضح أن ذلك التضاد الذي يمكن أن تقدمه كل قوة من فضيلة أو رذيلة كفيل بأن يضع الإنسان في موضع اختيار دائم بين كل متضاديْن، وهنا لابد على أي إنسان عاقل أن يميز بين كل ما يحمل الخير والنفع له وبين كل ما يبطن في داخله شر يؤذيه أو ضرر يصيبه؛ ذلك أن أغلبية ما هو مُزيَّن أمام الأنظار بجميل الأشكال الظاهرة ليس بالضرورة أن يكون فيه الخير والنفع للإنسان. وما دامت القوة العقلية في النفس البشرية قابلة للنضوج والنمو وقدراتها ليست ثابتة ومستقرة، فإن الإنسان سيلازمه التقلب والتبدل والتحول وعدم الثبات، وهذا ما يعطي للحياة ذاتها مذاق التجدد ويضفي عليها صبغة اكتشاف المجهول وما يمكن أن يصاحبه من مغامرة فلا مجال إذن للروتين أو مكان للملل والرتابة في حياة كل عاقل. ويكفي الإنسان العاقل أن تكون مهمته في الحياة تتركز حول تزكية نفسه والارتقاء بها عن الدنايا والرذائل فلا ينجو بها من الوقوع في الآثام والخطايا فقط، بل يحفظها أيضًا من كل إغواء يدفع بها إلى الإفساد في الأرض أو الإضرار بالخلق.

وإذا كان تعريف الهوى عند “ابن الجوزي” هو ميل الطبع لما يلائمه فإن مناط العقل هو التمييز بين المباح وبين ما هو محظور ومُحرَّم ليس فقط بغرض تجنب الفواحش والمنكرات والانصراف عن الرذائل؛ ولكن أيضًا بهدف عدم الإسراف في المباحات، وتلك هي رأس الحكمة. فالعقل عندما يميز بين النافع والضار فإنه يبصر عواقب الأمور فإما أن يمنع نفسه من لذة يميل إليها هواه لأنها ستسبب له الأذى، أو أن يشبع غرائزه في مقابل ما ستسببه له من أذى وألم، وإما أن يكتفي بإشباع ما يقيم بدنه من شهوات حسية دون إفراط فيها تجنبًا لأضرار الإفراط، أو أن يفرط في إشباعها غير مكترث بأية عاقبة. وذلك يعني التوسط والاعتدال دون تقتير أو إسراف، وهذا هو ما يمليه التفكير العقلي الرشيد و ما يمنح الإنسان كلًّا من اللذة والمنفعة.

صيد الخاطر

وما دامت اللذة وفقًا لرأي “ابن الجوزي” ليست غاية في ذاتها، فإنه قطعًا هناك لذات وجدانية وروحية وعقلية تسمو عن المتع البدنية الحسية التي تفقد لذتها كلما كثر الانغماس فيها. وهذا المذاق المختلف لتلك اللذات الروحية والذي ليس له نهاية لن يصل إليه إلًّا الإنسان العاقل والذي أعمل عقله كي يقود به بدنه وكي يرتقي به لما هو أسمى وأعظم. وبالتالي فإن الاستقامة لن تتيسر دون تحصيل للعلم النافع أو دون الانشغال بطلب المعرفة. وسيساعد على الاستقامة الزهد عن الماديات الملموسة وغض الطرف عنها طلبًا للروحانيات المحسوسة وذلك من خلال تطهير النفس وتزكيتها بالتخلص من أمراض القلوب وأدرانها كالعُجب، والكِبر، والغضب، والحسد، والكره، والكذب، والرياء، والبخل، والشره، والتبذير، وحب الرئاسة، والتشاؤم … الخ.

فالعقل نور في القلب يستطيع أن يميز به الإنسان بين الحق والباطل، والخير والشر، والنافع والضار، وذلك بعد اكتساب المعرفة و تحصيل العلم، فيقر أو ينكر بعد أن يعي ويفهم، ويترتب على ذلك إما أن يؤمن ويعمل صالحًا أو أن يكفر فيكون عمله ليس نابعًا من إيمانه. لذلك كان العقل ركيزة أساسية لقيام الحضارة الإسلامية التي رفع رايتها علماء المسلمين وأئمتهم ممَّن ألهموا العالم أجمع كيف يمكن للدين أن يسمو بالنفس التي يقودها العقل المفكر الحكيم. ولقد كان “ابن الجوزي” أحد هؤلاء العلماء إذ كان يقول:” إن أعظم النعم على الإنسان العقل، لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل، فمثال الشرع الشمس ومثال العقل العين، فإذا فُتحت العين وكانت سليمة رأت الشمس”.

وإذا كان “ابن الجوزي” قد عاصر بعض فترات ضعف الخلافة العباسية إذ تعدد الخلفاء، وزالت هيبة الدولة بسبب التناحر على الحُكم، كما ظهرت الفرق الباطنية التي كانت تهدد السلطة وعامة الناس بما ترتكبه من جرائم قتل وسفك للدماء ترهب بها كل من يقاومها، هذا بالإضافة إلى وقوع المقدسات الإسلامية في أيدي الصليبيين، فإنه من الطبيعي أن تسود الفوضى وتعم الاضطرابات التي شجعت على السلب والنهب. ونظرًا لازدياد ترف الطبقة الحاكمة في مقابل فرض المزيد من الجبايات على بقية طبقات المجتمع، بالإضافة إلى ظهور الأوبئة والمجاعات وتردي أحوال العباد الذين ضُيْقَ عليهم بكبت كل فكر مستنير وطمس المعرفة ورفض كل رأي مبني على العلم، ناهيك عن الفتن التي كان يشعلها اليهود بين حينٍ وآخر، فقد كان من الطبيعي أن يتجه المتصوفة إلى العزلة بعيدًا عن مفاسد ذلك المجتمع وفتنه. ولكن الإمام “ابن الجوزي” –الفقيه الحنبلي الذي ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والذي اشتهر بالزهد والورع وبالخطابة ومجالس الوعظ في بغداد– انتقد الكثير من أحوال المتصوفة في كتابه “تلبيس إبليس” موضحًا أن أصل تلبيس إبليس على كثير منهم هو أنه صدهم عن العلم، فلما أطفأ مصباح العلم عندهم تخبطوا في الظلمات.

لقد لُقِّب “عبد الرحمن بن الجوزي” بحافظ العراق وواعظ الآفاق، إذ ذكر كلٌّ من “ابن كثير” و”الذهبي” عن مصنفاته أنها بلغت نحو ثلاثمائة مصنف شملت الكثير من العلوم والفنون منها: التفسير والحديث والتاريخ واللغة والفقه والمواعظ. ولم تصل إلينا أية كتابات لابن الجوزي تؤرخ للحروب الصليبية؛ إلَّا إننا ما زلنا نملك الكثير من مصنفاته حول كيفية بناء الإنسان العاقل ومن ثم إعداد الأمة الإسلامية لمواجهة الخطوب والنوازل والفتن.

أما وفاة “ابن الجوزي”، الذي اشتهر بهذا الاسم نسبة إلى بيع الجوز، أو نسبة إلى شجرة جوز ليس لها مثيل كانت توجد بداره، أو نسبة إلى محلة بمدينة البصرة كانت تدعى محلة الجوزي، فقد كانت في شهر رمضان عام 597هـ/ 1201م في مدينة بغداد التي شهدت ولادته. ودفن بجوار شيخه الإمام الفقيه “أحمد بن حنبل” [164-241هـ/780-855م] أحد الأئمة الأربعة عند أهل السنة والجماعة وصاحب المذهب الحنبلي. وفي عهد السلطان العثماني التاسع عشر “إبراهيم الأول” عام 1646، نُقل ضريح “ابن الجوزي” إلى موقعه الحالي في سوق السنك في أرض تابعة للوقف داخل مرأب لتأجير ووقوف السيارات، وأقيم حوله سياج من حديد لمنع العبث به. وهو يحتاج الآن إلى عناية كمعلم من معالم العراق خاصة بعد أن كانت هناك محاولة لإزالته عام 2014، لاستثمار مساحة الأرض الفضاء التي تضمه.

المراجع:

– د. آمنة محمد نصير، أبو الفرج ابن الجوزي (510-597هـ) آراؤه الكلامية والأخلاقية، ط1، دار الشروق، القاهرة، 1987م.

– د. ليلي عبد الرشيد عطار، آراء ابن الجوزي التربوية دراسةً وتحليلًا وتقويمًا ومقارنةً، ط1، منشورات أمانة للنشر، ميرلاند، الولايت المتحدة الأمريكية، 1998م.

– د. نيفين عبد الجواد، نزهة الغافلين في روضة العاقلين، ط1، أقلام عربية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020م.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock