رؤى

العدالة الاجتماعية في الوطن العربي ومسألة اللامساواة في الدخل والثروة

من أوراق المؤتمر القومي العربي (الدورة الحادية والثلاثون)

بقلم: ابراهيم شريف السيد

“لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون الغنَى إرثا والفقر إرثا والنفوذ إرثا والذل إرثا، ولكن نريد العدالة الاجتماعية، نريد الكفاية والعدل، ولا سبيل لنا لهذا إلا بإذابة الفوارق بين الطبقات ، لكل فرد حسب عمله”.

من خطاب للرئيس جمال عبدالناصر

يمكن أن نسأل ابتداء كيف يمكن للمعادلة التالية أن تكون مستدامة: 10 % من أغنى البشر يملكون 76 % من مجمل الثروات العالمية، فيما يملك أفقر 50 % فقط 2% من الثروة العالمية؟

مقدمة:

يقدم أستاذ الاقتصاد الدكتور إبراهيم العيسوي التعريف التالي للعدالة الاجتماعية: “العدالة الاجتماعية هي تلك الحالة التي ينتفي فيها الظلم والاستغلال والقهر والحرمان من الثروة أو السلطة أو كليهما، والتي ينعدم فيها الفقر والتهميش والاقصاء الاجتماعي وتنعدم الفروق غير المقبولة اجتماعيا.. التي يتمتع الجميع بحقوق متساوية وحريات متكافئة.. ويتاح للمجتمع فرص متكافئة.. والتي لا يتعرض فيها المجتمع للاستغلال الاقتصادي والتبعية…”.

يضيف العيسوي.. “إن هذا التعريف للعدالة الاجتماعية حالة مثالية يتعذر تحقيقها على أرض الواقع، لكنه تعريف ضروري باعتباره “مسطرة ” نقيس عليها مدى اقترا ب المجتمع أو ابتعاده منها”.

هذه الورقة لن تتناول موضوع العدالة الاجتماعية بأبعاده المختلفة، فهي ستركز على موضوع العدالة التوزيعية التي هي فرع من العدالة الاقتصادية، وستناقش ببعض التفصيل مسألة اللامساواة في الثروة والدخل وأسباب تفاقمها على صعيد العالم والصعيد المحلي.

في كتابه ثروة الأمم يقول آدم سميث: “لا يمكن لأي مجتمع أن يكون منتعشا وسعيدا في ظل وجود عدد كبير من أعضائه في حالة فقر وبؤس. ولابد أن يكون للإنصاف الذي يغذي ويكسو ويسكن الجميع حصة ضمن ما ينتجه هؤلاء من خلال العمل”. وحول دور الأيديولوجيا في تبرير عدم المساواة، يقول عالم الاقتصاد الفرنسي توماس بيكيتي أن اللامساواة أمر غير شرعي، لذلك تستخدم الأيديولوجيا لتبريرها، وأن التاريخ يعلمنا أن المجتمعات البشرية في كل الأزمنة والثقافات كانت تبحث دوما عن طريقة عادلة لتوزيع الثروة تقبل بها الأكثرية. اللامساواة خيار سياسي وليس حتمية تاريخية. التفاوت الهائل للدخل والثروة ناشئ عن خيارات سياسية -أيديولوجية تبنتها نخب سياسية هيمنت على القرار السياسي. بعد الحرب العالمية الثانية قبلت النخب السياسية الأوروبية والأمريكية فكرة أن عليها كبح جماح اللامساواة فأقرت نظاما ضريبيا تصاعديا باهظا على الأغنياء وكانت النتيجة أن أوروبا شهدت أسرع نمو اقتصادي في تاريخها في الوقت الذي انخفضت فيه اللامساواة إلى أدني مستوياتها، عكس ما تروّج له النظرية النيوليبرالية التي تقول أن الضرائب المرتفعة تزيل حوافز الاستثمار وتقتل الابداع وتصيب النمو في مقتل.

العالم يشهد تفاوتا متزايدا في الدخل والثروة بين الأغنياء والفقراء منذ ثمانينات القرن العشرين حينما بدأت الدول في تبني سياسات نيوليبرالية أطلقت العنان للخصخصة وأزالت القيود والضوابط وخفضت الضرائب وسمحت بحرية أكبر لانتقال ر أس المال. وقد خلص تقرير اللامساواة العالمي الذي سنعرضه لاحقا أن اللامساواة هو خيار سياسي وليس حتمية، وأن التفاوت في الدخل والثروة في العالم بين الأغنياء والفقراء كبير للغاية ويعكس طبيعة الخيار السياسي الذي ساد منذ 4 عقود.

وقد لاحظ تقرير أوكسفام –الذي سنستعرضه لاحقا– أن جائحة كوفيد- 19 المحفوفة بالحزن والاضطراب لمعظم البشرية، كانت من أفضل الأوقات في التاريخ بالنسبة لأصحاب المليارات إذ بلغت ثرواتهم مستويات غير مسبوقة حيث ولد خلال الجائحة ملياردير جديد كل 30 ساعة في الوقت نفسه دُفع مليون شخص لبراثن الفقر المدقع كل 33 ساعة.

إن التنامي السريع في ثروات أصحاب المليارات وأزمة تكاليف المعيشة التي يواجهها مليارات البشر هما ظاهرة واحدة، والثراء الفاحش هو نتيجة مباشرة لخيارات السياسة العامة. ولهذا السبب يجب على الحكومات أن تستخدم مجموعة من التدابير لاسترداد الثروة الهائلة من أجل الصالح العام. فقد أدت عقود من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية لتحويل الخدمات العامة إلى ملكية خاصة وشجعت التركيز الهائل لسلطة الشركات وخفض الضرائب على الأغنياء وقوّضت حقوق العمال واستباحت البيئة بما يفوق طاقة كوكبنا، كما يقول تقرير أوكسفام.

إن غياب العدالة في توزيع الثروة سائد ومنتشر في العالم لكنه ليس حتمي، على الأقل في أشكاله المتطرفة حين يملك أغنى 1 % من السكان أكثر مما يملكه أفقر 50 % مجتمعين. وغالبا ما يثير هذا الموضوع الجدل حول طريقة تنظيم المجتمعات، وقد يؤدي في بعض الأحيان إلى اضطرابات وثورا ت اجتماعية. قد أظهرت طريقة بعض الدول في معالجة آثار جائحة كوفيد- 19 دور الدولة الرئيسي، وليس قوى السوق التي كانت تعمل في الاتجاه المعاكس، في تجنيب المجتمعات الكوارث. قد سلطت الجائحة الأضواء مرة أخرى على عدالة توزيع الثروة وأهمية الخيارات والسياسات العامة التي يتبناها المجتمع بهذا الخصوص. لفهم ما يجري في الوطن العربي فيما يتعلق بمسألة اللامساواة في توزيع الدخل والثروة ، من الضروري رؤية المشهد من زاويتين إضافيتين، الأولى تتعلق بطبيعة رأس المال وآليات تراكمه خاصة في زمن العولمة النيوليبرالية، والثاني انعكاسات ذلك على العالم.

أولا: آليات التراكم الرأسمالي

“لا يمكن للتمايزات الاجتماعية أن تقوم إلا على المنفعة العامة”.

من اعلان حقوق الانسان والمواطن، المادة 1، 1789.

في البيان الشيوعي الصادر عام 1848، كان ماركس ورفيق دربه أنجلز قد توصّلا إلى حتمية التراكم اللانهائي لرأس المال، الأمر الذي يعتبره ماركس أمرا عضويا من خصائص الرأسمالية، تركّز مستمر ومتعاظم في الثروة في أيد قليلة، يرافقه تركّز في السلطة السياسية.

يقول البيان الشيوعي: “وتقضي البرجوازية أكثر فأكثر على تبعثر وسائل الانتاج والملكية والسكان. وقد كدست السكان ومركزت وسائل الانتاج وجمعت الملكية في أيدي أفراد قلائل. وكانت النتيجة المحتومة لهذه التغييرات نشوء التمركز السياسي”.

وعلى النقيض من ماركس، رأى الاقتصادي الأمريكي سايمون كوزنتس (Kuznets) أن الرأسمالية تنزع لعدم المساواة في بدايتها، لكن هذه تنخفض في أطوارها المتقدمة إلى أن تستقر عند مستوى مقبول. وقد اقترح كوزنتس أن اللامساواة تتبع منحنى على شكل جرس (حرف U مقلوب). وقد كان “منحنى كوزنتس” سلاحا أيديولوجيا من أسلحة الحرب الباردة لإبقاء الدول المتخلفة في فلك الرأسمالية. لكن منذ الثمانينات أخذ المنحنى شكله الذي توقعه ماركس وأنجلز، شكل حرف U الطبيعي حيث عاود رأس المال حركته الطبيعية في التمركز كما سنرى لاحقا.

وقد وثّق الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي في كتابة “الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين” حركة تركّز رأس المال خلال القرون الثلاثة الماضية وناقش أسبابها معتمدا على مصادر معلومات كثيرة أهمها إحصاءات الضرائب والدخل الوطني والتركات. وقد ساهم عمل بيكيتي وغيره في إعادة الاهتمام بموضوع اللامساواة وتفاوت الدخل والثروة، فقد جاء في وقت تشهد فيه الرأسمالية تحديات جمة وغضبا شعبيا ضد الشركات الكبرى والمصارف وكبار المدراء. موضوع الغنى الفاحش وتوزيع الثروة لم يتحول إلى موضوع ساخن في الولايات المتحدة إلا في السنوات الأخيرة بعد الركود الاقتصادي الكبير نهاية 2008، الذي تسبب فيه جشع أرباب المال في وول ستريت. وفي الانتخابات الرئاسية الأمريكية للعام 2020، طالب مرشحان ديمقراطيان هما بيرني ساندرز وإليزابيث وارن بضرورة فرض ضرائب على الثروة تصل إلى 4% سنويا على ثروة المليارديرية .

ويمكن تلخيص استنتاجات بيكيتي حول تركز رأس المال بالتالي: إن تركّز الثروة متأصل ومن طبيعة رأس المال وهو التناقض المركزي للرأسمالية. إلا أن هناك فترة استثنائية بين 1914، والسبعينيات تخللتها حربان عالميتان خفّضتا النمو الاقتصادي ودمّرتا ثروات رأسمالية ضخمة، صاحبتها تغييرات في السياسات الاقتصادية للدول الرأسمالية أقرت فيها ضرائب تصاعدية وسياسات تقدمية لتوزيع للدخل.

  • القوة الرئيسية التي تقوض الاستقرار هي تفوق معدل العائد على رأس المال الخاص (r) على معدل نمو الدخل والناتج (g) بنسب كبيرة وبشكل مستمر، التي تعبر عنها معادلة ( r > g ). إن اقتصاد السوق إذا ما ترك لنفسه يمكن أن يشكل تهديدا للمجتمعات الديمقراطية وقيم العدالة الاجتماعية التي تأسست عليها.
  • إن رأس المال ما أن يتكون فإنه يتكاثر، وفي غياب الكوابح التي تخفف من سرعة نموه فإن النتيجة الحتمية، تركز وتراكم أكبر لرأس المال ولا مساواة أشد.
  • إن التفاوت بين الثروات لا علاقة له بروح ريادة الأعمال، كما أنه غير ذي نفع للنمو.

منذ الثورة الصناعية كان رأس المال يتركز في يد القلة، هذا ما لاحظه كل من ريكاردو وماركس. استمرت حصة أصحاب رأس المال في الصعود في حين عاشت الطبقة العاملة حالة من الفقر والبؤس إلى أن طلّت في منتصف القرن التاسع عشر ثورات “ربيع الأمم” في أوروبا ومخاطر الصراع الطبقي على النظام الرأسمالي، فبدأت أوضاع العمال في التحسن نسبيا مع الربع الأخير من القرن التاسع عشر. غير أن تراكم رأس المال وتركزه استمر ولم يوقفه إلا اضطرابات الحربين العالميتين والكساد العظيم في الثلاثينيات وبروز “الخطر” الشيوعي، حيث اضطرت أوروبا وأمريكا لتدشين عصر جديد تميّز بتوزيع أفضل للدخل والثروة. لكن هذه الحقبة التي انخفضت فيها اللامساواة انتهت مع نهاية السبعينيات، فغلب الطبع التطبع، وعاد رأس المال لعملية التراكم اللامتناهي وبدأ يسجل نفس مستويات ما قبل حقبة الحربين والكساد العظيم إن معدل الضريبة يعكس بشكل مباشر حجم دولة الرفاه والسياسات التوزيعية للدخل. في 2020 كانت حصيلة الضرائب الأمريكية 25.5 % وهي نسبة تقترب من النسب الموجودة في الدول النامية مثل المكسيك وتشيلي وتركيا أكثر منها الدول المتقدمة في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD التي يبلغ متوسطها 33.5 %. ومن الملاحظ أن الدول الاسكندنافية ودول شمال القارة الأوروبية التي تصل أو تتجاوز الضرائب فيها 40 % تكون دولة الرفاه في أفضل حالاتها.

في العقود الأخيرة من القرن العشرين كانت الضرائب ترتفع في أغلب العالم الصناعي خاصة بعد استحداث ضريبة القيمة المضافة في الستينيات والسبعينيات، باستثناء الولايات المتحدة التي قامت بخفض فعلي للضرائب على أرباح الشركات بينما زادت الضرائب على معاشات الأفراد (لتغطية نفقات التقاعد والتأمين الصحي لكبار السن).

في أوروبا تستخدم الضرائب بفعالية أكبر لإعادة توزيع الثروة وتخفيف اللامساواة، لذلك فان تركّز الثروة في الولايات المتحدة عند شريحة 1% الأعلى دخلا تقترب من ضعف المعدل في الدول الأوروبية . النتيجة هي أن دخل الفئات المتوسطة والفقيرة في الولايات المتحدة لم يتغير خلال العقود التي تفجرت فيها ينابيع الثروة للأغنياء جراء العولمة والتقدم التكنولوجي وارتفاع الانتاجية.

للاطلاع على الورقة البحثية كاملة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock