يعد الطيب صالح واحدا من أشهر الأدباء العرب في القرن العشرين، اشتهر في الرواية والقصص القصيرة، فأطلق عليه النقاد عبقري الرواية العربية.عاش فترة طويلة في بريطانيا وفرنسا وقطر، وعمل صحفيا لدى إذاعة بي بي سي البريطانية، والعديد من المجلات العربية، كما عمل في منظمة اليونسكو.
اشتهر صالح برواية موسم الهجرة إلى الشمال التي تعتبر من أفضل الروايات العربية، كما ترجمت رواياته وقصصه إلى ما يزيد على عشر لغات. امتاز أسلوبه الأدبي البليغ، كما هو النيل الذي ابتكر أساطيره، كان نهرا من الحلم، ونهرا من الوجد ونهرا من المعنى، يفرد ذاكرته في الوجود، فتنهض الحكايات والأساطير وكأنها انتبهت لأول مرة لوجودها، وكأنما النيل سرده الذي يفجر طاقات السرد في الذات المبدعة، وخياله الذي يوسع الخيال، وكما هو السودان بطيبه وطيبته.. بأصالته العتيقة كنخله العتيق، بصوفيته وبساطته.. بأساطيره بخرافاته.. بأحلامه وأسراره.
كان الطيب صالح يحمل طيبته في حقيبة سفره كحارس من فتنة العالم، يكتب وجع الذات في مرآة الآخر، كما يكتب وجع الآخر في مرآة الذات، لم تأخذه الكتابة من الحياة، بل كان يهيئ لها وقتها وطقسها يستعين بصوت فيروز، كما يستدرج المعنى الى كلماته، وكأنه يدخل في طقس من الوجد والشجن. وبرغم ذلك؛ فالكتابة كما يقول لا تمثل هاجسا يقلق له وجوده، بقدر ما هي ضرورة لاكتشاف ذلك الوجود الذي يفرد في روحه أحيانا تيهه وحيرته الغامضة التي لا تفسرها الكلمات. وكما يقول يبدو لي أحيانا إن البشرية تائهة، وأنا تائه معها لذلك لا أطالب الناس أن تفهمني كما أريد.
الإبداع الأدبي:
كتب الطيب صالح العديد من الروايات التي ترجمت إلى لغات عديدة ومن أهم تلك الروايات وأكثرها شهرة موسم الهجرة إلى الشمال، وضو البيت، مريود، عرس الزين، دومة ود حامد. وقد تحولت روايته عرس الزين إلى فيلم سينمائي في ليبيا من اخراج المخرج الكويتي خالد صديق في أواخر السبعينات، حيث فاز الفيلم في مهرجان كان السينمائي. وبسبب إبداعه الروائي أطلق عليه النقاد متنبئ الرواية العربية. وعن إبداعه الأدبي يقول الناقد د.خالد غازي إن الطيب صالح جمع بين أدب الحرف وأدب النفس، وكان متكاملا في إبداعه، سرده يحمل عذوبة النيل تنبع غرائبيته وفرادته من بساطته المشحونة بدلالات عميقة. إنه يكتب ليقول شيئا مختلفا، يكتشف فيه القارئ متعة مختلفة كما يكتشف عالما جديدا. وكما هو التخفف من ديمومة الكتابة ووسواسها، كان التخفف من ثقل العبارة وكانت عبارته رشيقة شافة ودالة، تحتك بمعناها كما تحتك نسمة بماء النيل، فيشهق بأساطيره وعذوبته. وكما يقول د.علي الراعي إن الطيب صالح ليس كاتبا جديدا وحسب بل هو كذلك بعد جديد. ويقول عنه د.محي الدين صبحي الطيب صالح يرتد بموهبته إلى المجتمع السوداني يستمد من بيئته النماذج الإنسانية والحوادث الاجتماعية ليعرض لنا أزمات الأفراد والمجتمعات وتقلب ضمائرهم وإيمانهم بعقائدهم الموروثة وتفسيرهم للتطور الطارئ على بيئتهم، وموقفهم من الأحداث التي تمسهم ومساهمتهم بها دون أن يغفل الإشارة إلى السؤال الغامض الذي يدور في نفوسهم عن معنى الحياة وغايتها.
موسم الهجرة الى الشمال ايقونة الرواية العربية
حين أبدع الطيب صالح رواية موسم الهجرة إلى الشمال لم يدر في خلده أنها ستكون يوما ما علامة على وجوده، كما هي علامة على الخطاب الروائي العربي، وكما هي القصائد والعلامات في الشعر العربي القديم المعاصر، وفي الشعر العالمي الذي توازي بحضورها وشهرتها كاتبها، وكما هي في الأعمال الإبداعية في مختلف المجالات التي أصبحت وسما مصاحبا لمبدعها، كذلك هي رواية موسم الهجرة إلى الشمال إنها تعيد إلى ذاكرة القارئ، وما إن تذكر تلك الرواية البصمة يذكر الحوار بين الشرق والغرب، وكما يقول رجاء النقاش أول من كتب عن هذه الرواية، وأول من اكتشف عبقرية مبدعها: أصبحت رواية موسم الهجرة إلى الشمال جزءا من الانتماء الإبداعي في السودان ومن لم يقرأ هذه الرواية من الأجيال اللاحقة تكون ثقافته منقوصة، بل انتماؤه منقوصا. وهنا ينشأ سؤال جوهري لماذا بالذات تلك الرواية؟ وما المعطيات التي جعلت من تلك الرواية الأيقونة المختلفة في ذاكرة الإبداع الإنساني؟ وجعلت من الطيب صالح متنبئ الرواية العربية فانشغل النقاد بها عن سواها من إنتاج الطيب صالح، فلم يترك موضع إبرة على حد تعبير أحد النقاد من جسده الروائي لم تغرز فيه دراسة نقدية أو بحث. هل يعود ذلك إلى الموضوع الشائك الذي عالجته تلك الرواية وهو العلاقة بين الشرق والغرب؟ أم يعود إلى أسلوبها الفني الفائق؟ أم إلى حمولتها ومضمونها الرمزي؟ أم إلى شخصياتها الإشكالية وخاصة بطلها مصطفي السعيد؟ أم الى أسئلتها؟ حاول النقاد إن يفككوا هذه الأسئلة ليكتشفوا سر العبقرية في هذه الرواية، فرأي جورج طراد إن هناك عوامل متعددة فنية وحضارية وسياسية أعطت هذه الرواية شهرتها وتميزها ليوجز القول بأنها كانت رواية قضية. أما محي الدين صبحي فيرى إن فيها قدرا كبيرا من الأسئلة عن كنه الإنسان وماهيته، في التاريخ وفي مجتمعه. ويرى أن إنتاج الطيب صالح نموذج بالغ الأهمية لفترة الاختمار التي أعقبت قرنا من التفاعل بين الموهبة العربية والثقافة العربية. أما جلال العشري فيرى أن ثمة سرا في لغة الطيب صالح التي كانت تفجر في اللغة طاقتها وممكناتها حيث يلقي بكلماته على الورق فإذا هي كالألوان على اللوحة تترابط فيما بينها وتتماسك، بحيث تنمو الرواية بين يديه نموا من الداخل ككل الأعضاء الحية، بحيث في النهاية تخلق وحدة عضوية كاملة فيها، وهذا هو معنى الخلق الفني. ولاشك في أن رواية موسم الهجرة إلى الشمال استحقت ونالت تلك الشهرة في الرواية العربية لأنها تنهض من كل جملة فيها، ومن كل شخصية فيها ومن كل فكرة فيها، وكما يقول رجاء النقاش: كل شيء في هذه الرواية الكبيرة له معناه.. الحب الجنس والجريمة، حيث كان كل ذلك يفرد ويميز كنه الرؤية العميقة التي جددت وعيا مختلفا لعلاقة الشرق بالغرب عبر حمولة فنية وفكرية وثقافية ورمزية كشفتها شخصية مصطفي سعيد. ومن هنا وبناء على ما سبق استحقت رواية موسم الهجرة إلى الشمال أن تكون أيقونة الرواية العربية بما تضمنته من كل تلك المعاني والتجارب التي أشار إليها النقاد.
صفوة القول:
لقد كان الطيب صالح أديبا مبدعا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، جسد الواقع والبيئة التي عاش فيها في شخصيات قصصه ورواياته، عبر عن هموم مجتمعه وقضاياه. وعبر عن ذلك بأسلوب أدبي بليغ وعبارات تنم عن ذكاء وفهم للغة. وبذلك استحق لقب عبقري الرواية العربية بل لقب متنبئ الرواية العربية. وكل قصصه ورواياته تستحق الدراسة وإلقاء الضوء عليها وليس فقط رواية موسم الهجرة إلى الشمال إذا أردنا إن نقيم مجمل إبداعات الطيب صالح.