عام

فوضى سريلانكا.. هل سببها الغضب الأمريكي أم التدهور الاقتصادي؟

هروب “راجاباكسا” رئيس جمهورية سريلانكا، ذات الأغلبية البوذية والواقعة في شمال المحيط الهندي جنوب شبه القارة الهندية – كان أمرًا متوقعًا، خاصة بعد تلك الثورة الشعبية التي اجتاحت الجزيرة؛ حتى وصلت إلى داخل القصر الرئاسي، والتي نقلت وسائل الإعلام صورًا تفصيلية لها على الملأ، بعد تفاقم الفقر وتدهور الوضع الاقتصادي.

لقد اُتهم الحاكم السريلانكي بسوء إدارة اقتصاد البلاد إلى درجة نفاذ النقد الأجنبي، ومن ثم تخلف سريلانكا عن سداد ديونها الخارجية البالغة 51 مليار دولار.. وقد يكون ذلك هو السبب المنطقي لاشتعال الاحتجاجات والمظاهرات ضده منذ عدة أشهر؛ ولكن يبدو أن عزمه على إنقاذ اقتصاد البلاد عن طريق الدب الروسي، وليس عن طريق سيدة العالم المتغطرسة – كان هو الفتيل الذي أجج لهيب المظاهرات دون توقف؛ حتى عمت نيران الفوضى كل مكان في البلاد، رغم السعي لإيجاد حلول ناجزة. فهل حقا كان توقيت سقوط النظام الحاكم في سريلانكا وهروب رئيسها واستقالته مرتبطًا بإذن من الولايات المتحدة الأمريكية، فإذا بتلك الاحتجاجات تسفر أخيرًا عن نتيجة بعد طول معاناة من تردي الأوضاع وتدهور الأحوال؟

إن روسيا هي التي دعمت جمهورية سريلانكا خلال جائحة كورونا العالمية، وتلك العلاقة القوية بين البلدين التي تقوم على مساعدة الدب الروسي لسريلانكا كلما دعت الحاجة لذلك هي التي نتج عنها استقبال الرئيس السريلانكي للسفير الروسي في نهاية شهر يونيو الماضي لمناقشة قضايا توريد الوقود، كما إنه بالفعل قد غادر وزيران من سريلانكا إلى روسيا في إطار زيارة دبلوماسية من أجل مناقشة الأمور المتعلقة بإمكانية شراء النفط الروسي. هذا بالإضافة إلى رغبتهما المشتركة في زيادة التعاون الاقتصادي خلال الفترة المقبلة في مجالات السياحة والطيران والتجارة والأسمدة والوقود والفحم والغاز، كل ذلك كان من شأنه أن يثير غضب القوة العظمى في العالم، الحانقة على روسيا، ومن ثم ربما كانت هناك ضرورة ملحة لوقف ذلك التعاون بين روسيا وسريلانكا والذي من شأنه أن يدعم روسيا ويطيل من أمد تحديها لفرعون ذلك العصر الذي يريد الاستئثار بثروات العالم أجمع وحده، كي يكون هو الحاكم والآمر والناهي دون أية معارضة له أو أدنى محاولة للخروج من عباءته.

وكأن ورقة الضغط الأمريكي على كافة الدول المكبلة بالديون الخارجية أصبحت مفضوحة وتأبى التستر، وكأن كل من يساند روسيا إما أن يعلن إفلاسه في القريب العاجل أو أن يكون تغيير النظام هو الحل الذي يفرضه المحتجون على تدهور الأوضاع بالبلاد! فهل حقًّا كان من الممكن لحاكم سريلانكا أن يواجه مصيرًا آخر إذا رفض مساندة روسيا له في الوقت الراهن من أجل إنقاذ اقتصاد بلاده؟

إن ما يعانيه شعب سريلانكا لا يختلف كثيرًا عما تعاني منه شعوب كثيرة في عالم أصبح يعاني من تفشي الطبقية المجحفة بسبب سيادة النظام الرأسمالي المتسلط والذي تدعمه سياسة مستبدة أحادية القطب، فسياسة تجويع الشعوب لم تظهر على السطح بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، أو بسبب جائحة كورونا، بل هي مخطط تديره الولايات المتحدة الأمريكية من خلال صندوق النقد الدولي بهدف ضمان تبعية كل محتاج لها دون أن تكون لحاجته نهاية فلا يكون هناك شبع للجائعين، ولا سداد لديون المدينين، ولا استقلال لأية دولة لا تعتمد على نفسها في توفير قوت وغذاء شعبها. وما حدث في سريلانكا هو نذير لما يمكن أن يحدث في دول كثيرة غيرها تعاني من نفس مشاكلها السياسية وأزماتها الاقتصادية خاصة إذا حاولت الخروج من قفص المساعدات الأمريكية والبحث عن مصدر بديل لإنقاذ اقتصادها الوطني.

فالاستبداد الذي يسود منذ زمن طويل أغلبية النظم الحاكمة في كثير من دول العالم، ورفاهية الطبقة الحاكمة ومن يساندها من رجال أعمال، والتحلل التدريجي للطبقة الوسطى إلى حد ينذر باختفائها، والاستئثار بالحكم والسلطة في إطار من الديمقراطية المزيفة، وتعمد حرمان عامة الشعب من التعليم الجيد، والتضييق على حرية الرأي، وإلهاء الجماهير تارة بتبعات الفساد على مستوى المنظومتين الأخلاقية والمجتمعية، وتارة أخرى بمشقة تدبير لقمة العيش، وتارة ثالثة بالانكباب اللاهث وراء ماديات الحياة التافهة والزائلة والتي ليس لها نهاية؛ كي يتغافلوا عن استرداد حرياتهم وكرامتهم الإنسانية، كل ذلك أدى إلى تراكم الكبت الشعبي الذي لا يحتاج سوى لفتيل صغير كي يشعله في شكل جرائم بشعة على المستوى الفردي أو في شكل اضطرابات وفتن على المستوى الجماعي والشعبي، ومن ثم تكون الفوضى الداخلية بسبب التدهور الاقتصادي وتناقص واردات الغذاء والوقود والأدوية مُبرَّرة ومنطقية؛ وبالتالي يكون قمعها بكل بطش وقوة أمرًا مقبولًا، أو يكون التخلص من النظام الحاكم القديم هو الحل الأمثل من أجل مزيد من الهيمنة الخارجية التي لابد وأن يتوافق معها النظام الحاكم الجديد فلا تكون سوى أشد تحكمًا في الدول التابعة لها دون قيد أو شرط.

إن ما حدث في سريلانكا –التي كانت تُعرَف سابقًا باسم جزيرة “سيلان” البريطانية والتي كان يطلق عليها العرب قديمًا اسم “سرنديب”– سيكون على المدى القريب أمرًا مألوفًا في كثير من دول العالم التي يُحكم السيطرة عليها وعلى سياساتها كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بل ربما هو إنذار لكل نظام يحاول الخروج من جعبة الطاغوت الأمريكي، ولنا أن نتأمل ما حدث مع رئيس وزراء باكستان “عمران خان” في شهر أبريل الماضي، فما كان يتمتع به من شعبية كبيرة جعل التخلص منه لابد وأن يتم عن طريق البرلمان الباكستاني، وذلك عقب توقيعه اتفاقيات الغاز مع روسيا، وعقب إعلانه الحياد بشأن الحرب الروسية الأوكرانية وعدم استجابته للسفراء الأوروبيين الذين طالبوه بالتنديد بموقف روسيا ورفض حربها في أوكرانيا. وهكذا فإن التخلص من كل معارض للمخطط الأمريكي لالتهام العالم بعد تفتيته وتهميشه وإلغاء كل قوة له أصبح هو المصير الذي لا يمكن الفرار منه.

وإذا كان من الممكن للرؤساء أن يقفزوا من مركب الحكم كي ينجوا بأنفسهم من الموت المحقق، فإن الشعوب لابد أن تحافظ على حياتها مهما كان الثمن. والشعوب لا تحيا من أجل لقمة العيش وحسب، بل تكون لها حياة حقيقية عندما تتمتع بحريتها، وعندما تكون لها سيادة حقيقية في أوطانها، وعندما يكون قرارها حُرًّا وليس مفروضًا عليها. ويكفي فقط أن نتذكر موقف “عمران خان” من الحرب الأمريكية على تنظيم القاعدة في أفغانستان خلال ولاية الرئيس السابق “دونالد ترامب” كي ندرك كيف أصبحنا جميعًا في قبضة قوة علت في الأرض علوًّا سيظل يتعاظم كل يوم في ظل عدم مواجهته من أجل التخلص منه ومن إفساده في الأرض.

وإذا كان ذلك هو حال دولة مثل سريلانكا عانت لعقود طويلة من ويلات الحرب الأهلية التي من الممكن أن تتأجج من جديد في أي وقت، فكيف هو حال منطقتنا العربية بعدما أصبح تأمين الطاغوت الأمريكي للمحتل الإسرائيلي هو أمر معلن بتبجح شديد دون أن يؤرق ذلك أي مضجع للعرب المسالمين والمطبعين بخنوع واستسلام تام؟ فبعد حرب عام 1973م التي وصفها أخيرًا رئيس دولة الاحتلال بالحرب الرهيبة، بات السلام مع إسرائيل هو عنوان المنطقة من شمال أفريقيا وحتى الخليج وذلك بالرغم من وجود ذلك الكيان المحتل في قلبها، بل أصبحت إيران هي العدو المتربص بأمن العرب جميعًا وليس بأمن الكيان الصهيوني فقط. فهل سيكون للشعب الفلسطيني أو لأي صوت رافض للتبعية الصهيو-أمريكية أية قدرة على الصمود منفردين في ظل تعاظم الهيمنة الصهيو-أمريكية على الشرق القديم كل يوم؟

إن الدول التي تعاني من الأزمات الاقتصادية الطاحنة والمتفاقمة ستخشى من الاحتجاجات الشعبية الداخلية التي قد تتسبب في الاضطرابات والفوضى مثلما حدث في سريلانكا، ولكن أية معارضة للطاغوت الصهيو-أمريكي ستقود إلى سقوط أنظمة استبدادية قديمة لتحل محلها أنظمة أخرى أشد بطشًا وأكثر طغيانًا، وهكذا ستظل المنطقة المكبلة بالديون الخارجية وفوائدها الباهظة في قبضة الطاغوت العالمي الذي يوجهها كيفما يشاء، مثلما ستظل الشعوب الخائفة من الجوع والعطش والقمع والبطش قابعة في قبضة الأنظمة التي سيكون ثمن معارضتها هو الفوضى العارمة.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock