ما الذي يجمع ابن خلدون بالمقريزي؟ كلاهما عاش محنة الطاعون, وكلاهما أزهري, ابن خلدون تونسي تمصّر وتأزهر ضمن ظاهرة التوانسة المصريين العظام. والمقريزي مصري أصلي بالميلاد, معا عاشا حوالي ربع قرن من الزمان في حارة برجوان, ابن خلدون مثل كل لاجئ لجنة مصر ومستجير بها طمع في منصب بالسلطة ونجح وتولي القضاء, المقريزي تعلم بالأزهر الشريف وبرع في الفقه والحديث وعلوم الدِّين خاصَّةً، ويُسَجَّلُ له براعته في الأدب وإجادة النَّثر, وعمل في الوعظ وقراءة الحديث، تولِّي العديد من المناصب والمسئوليَّات كولاية الحسبة (وزير التموين والمالية) والخطابة والإمامة في عهد الناصر قلاون, ثم زهد الدنيا وتفرغ للتاريخ والتأريخ ربع قرن من الزمان، أبدع خلالها مائتي مؤلف, ابن خلدون تفرغ خمس سنوات فقط بعد عزله من القضاء أعاد فيها كتابة ستة كتب هي كل ما كتب, ابن خلدون دخل المعتقل عامين , المقريزي دخل في عزلة علم كعادة المؤسسين الأزهريين الكبار, فلماذا نجح المقريزي تلميذ ابن خلدون وأسس مدرسة التأريخ المصرية؟ فيما ظل الأستاذ ابن خلدون في مربع مقدمة علم الأجتماع؟
السخاوي يفسر الاجتماع والتأريخ بين العملاقين
عاش المقريزي مثل أستاذه ابن خلدون عصر المماليك وبرع في عبور المحنة تلو الأخري وكتب 200 مؤلف، ما بين رسالة وكتاب، منها السلوك لمعرفة دول الملوك، اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء، تجريد التوحيد المفيد، الذي ناقش فيه عقيدة توحيد الألوهية، وأبطل فيه شركيات العبادة، كصرف الدعاء والرجاء والتوسل لغير الله سبحانه وتعالى؟
أما كتابه “إغاثة الأمة في كشف الغمة” الذي تطرق فيه لتاريخ المجاعات في مصر وأسبابها فهو تحفة فريدة ليس لها نظير, كما ألّف كتاب “الأمير الزاهد” و”تاريخ الأقباط بالقول الإبريزي للعلامة المقريزي”، وكتاب “تاريخ اليهود وأثرهم في مصر” و”ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية في التاريخ الكبير المقفى في تراجم أهل مصر والواردين إليها”، وكتاب “درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة” وغيرها, وعلي قدر ما كان بين التلميذ المقريزي والأستاذ ابن خلدون من محبة فإن هناك من يقول بأن تأدب المقريزي مع ابن خلدون منع قول بعض الحقائق؟
والسؤال المهم هل كان ابن خلدون يقصد إلى تأسيس علم الإجتماع؟ أم أنه مؤرخ ضل الطريق بقلة التمحيص والبحث بسبب معارك السلاطين وولاية القضاء؟ وفؤاده الذي كسر بعد بوفاة أبويه، والعديد من شيوخه جرّاء إصابتهم بالطاعون1348م؟
من المهم أن نشير إلى جانب مهم في حياة ابن خلدون في المحروسة التي قضى فيها ثلاثة وعشرين عاما.. كانت بين مراحل حياته الأقل حوادث وإنتاجا, فقد عاش كثيرا وراجع نفسه خصوصاً عندما “تأزهر” وظل بالجامع عامين ينهل من المعارف حتي غير كتاب المقدمة.
قال عنه السخاوي الذي عاصره وحاوره كثيرا “اشتغل كثيرًا وطاف على الشيوخ ولقي الكبار، وجالس الأئمة فأخذ عنهم.. ونظر في عدة فنون، وشارك في الفضائل، وخط بخطه الكثير، وانتهى وانتقى وقال الشعر والنثر وأفاد, وبلغت مجلداته نحو المائة، وقد قرأت بخطه أن تصانيفه زادت على مائتي مجلد كبار، وأن شيوخه بلغت ستمائة نفس من علماء مصر وأزهرها الوضاح”.
ولنتأمل شهادة السخاوي عن المقريزي إذ يقول “جمع ما تفرق من أخبار أرض مصر وأحوال سكانها، فهو تناول جغرافية وتاريخ المدن والآثار المصرية بوصف دقيق، وأخبار القاهرة وطرق المعيشة بأرجائها الواسعة، وتخلل الكتاب معلومات عن النظم السياسية والإدارية في مصر، مع تراجم موجزة لبعض الأعلام, كما أن للمقريزي روايات عديدة تخرج من الوصف إلى النقد والتحليل والوصول إلى النتائج والتصحيح، ووجه في خططه النقد للسلوكيات والسياسات الخاطئة للعباد، ونتائجها وسلبياتها على البلاد، كما ناقش الأخطاء التى وقع فيها أهل مصر في تحديد قبلة العديد من المساجد محللا أسباب هذه الأخطاء بطريقة فلكية جغرافية ويسوق من خلالها الأدلة والبراهين، ويقول في ذلك “هذا الأمر يدركه الحس ويشهد لصحته العيان”.
عاش المقريزي في فترة حافلة بالأحداث، ودأب خلال كتابته للخطط على جعلها سجلا للأحداث وليس مجرد سرد لها، ما جعله يتحدث عن المحن والكوارث والشدائد التي مرت بمصر، ومنها وباء الطاعون أو ما سماه المقريزي الموت الأسود في مصر، الذي أطاح بأرواح الآلاف من أهل مصر ومنهم ابنته صاحبة الـستة أعوام.
وبوضوح أكثر يقول العالم السخاوي عن ابن خلدون: “وكانت له معرفة قليلة بالفقه والحديث والنحو، واطلاع على أقوال السلف، وإلمام بمذاهب أهل الكتاب حتى كان يتردد إليه أفاضلهم للاستفادة منه، مع حسن الخلق وكرم العهد وكثرة التواضع، وعلو الهمة لمن يقصد.. كل ذلك مع تبجيل الأكابر له، إما مداراة له خوفًا من قلمه، أو لحسن مذاكرته؛ فقد تولي القضاء وكانت له كلمة مسموعه ومشفوعة عند أهل الحكم، وجاء إنصاف ابن خلدون من الشيخ محمد الخضر حسين في كتابة تاريخ ابن خلدون, كمؤسس لعلم الاجتماع البشري،
عمد المقريزي للتخصص الدقيق في تصنيف الحوادث في خططه بدراسة مدينة القاهرة وضواحيها، بكل ما فيها من شوارع وحارات ودروب وأزقة ومنشآت دينية وتعليمية وتجارية، وقد تخللت الكتاب معلومات مهمة عن النظم السياسية والإدارية في مصر، مع تراجم موجزة لبعض الأعلام؟ وتفرغ المقريزي للتأريخ حتي صار عمدة المؤرخين المعتبر بشهادةعلماء التأريخ, فلماذا لم يفعل ذلك ابن خلدون وهو كان أولي بكتابة شئون الإجتماع في بلد كمصر ومدينة كالقاهرة؟
وتأتي الأجابة بلسان د.طه حسين بالحرف إذ كتب يقول: “عمله امتزج بالدسائس وطاعون المصاعب السياسية, وابن خلدون لم يكن متمكنا من تاريخ المشرق كما كان متمكنا من تاريخ العرب والبربر، وكان عليه أن يكتفي به، لكنه بعد رحلته إلى مصر واحتكاكه بالمشرق اضطر أن يغير عنوان مؤلفه إلى “كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” أما إذا اعتبره البعض في ذلك الزمن خاصة في مصر وسوريا ذا أسلوب نموذجي، فتفسيره عند طه حسين: “أن الآداب العربية كانت في عصره في منتهى الانحطاط عندما نسخ مؤلفه، أن لقب عالم اجتماع لابن خلدون يعد مبالغة، فموضوعاته أضيق من أن تكون موضوعات اجتماعية”.
قال المقريزي في وصف تاريخ ابن خلدون: مقدمته لم يعمل مثالها، وإنه لعزيز أن ينال مجتهد مثالها، إذ هي زبدة المعارف والعلوم، ونتيجة العقول السليمة والفهوم، توقف على كنه الاشياء، وتعرف واعتمد في تاريخه على ما هو مكتوب عند من قبله، ولم يظهر فيه إشاراته عن التاريخ وتدوينه الذي ذكره في مقدمته لتاريخه، إذ التنظير للتاريخ عنده كان أقوى بكثير من كتابة التاريخ نفسه.
فأما عن الحوادث التي عاشها ابن خلدون بالمغرب والحياة السياسية العاصفة التي جاز خلالها معتركا شاسعا من المغامرات والدسائس الخطرة، وعانى كثيرا من الخطوب والمحن، كما نعم مرارا بمراتب النفوذ والسلطان، والتي هي في الواقع صفحة قوية شائقة في تاريخ المغرب في أواسط القرن الثامن – هذه الحياة المضطرمة العاصفة، استبدل المؤرخ بها في مصر حياة أكثر هدوءا ودعة, وأما عن الإنتاج.. فقد رأينا أن المؤرخ ابن خلدون حقق أعظم أعمال حياته، ومقدمته الرائعة قبل مقدمه إلى مصر, ولا نعرف أنه وضع أثناء مقامه بمصر مؤلفاً جديداً, غير أن الذي لا ريب فيه هو أن وجوده بمصر على مقربة من المكاتيب والمراجع الشاسعة قد أتاح له فرصة التنقيح والتهذيب في التاريخ والمقدمة، خصوصا فيما تعلق فيهما بمصر والشرق، كذا استمر المؤرخ في كتابة ترجمة حياته أثناء إقامته بمصر، واستمر فيها إلى قبيل وفاته، وضمنها فصولا جديدة عن خواص دول المماليك المصرية، ونشأة التتار ولا ريب في أن ابن خلدون كان يعنى في دروسه ومجالسه ببث مذاهبه وآرائه الاجتماعية وشرحها.
هل تطاول ابن خلدون علي المصريين
لماذ فشل ابن خلدون ولم يؤسس مدرسة للتأريخ؟ يجيب المؤرخ الكبير عبدالله عنان الذي فحص الوثائق عن تلك الحقبة ودقَّة استعمالها وتوظيفها واستخراج النتائج العلميَّة السليمة من المراجع التي جاءت (باللغات الإنجليزيَّة- الفرنسيَّة- الألمانيَّة- الإسبانيَّة) وكان يجيدها فقال في كتابه “مؤرخو مصر الإسلامية ومصادر التاريخ المصري” أن ابن خلدون لم يستطع على ما يظهر أن ينشئ له بمصر مدرسة حقيقية، يطبعها بآرائه ومناهجه، وقد كان حريا أن ينشئ مثل هذه المدرسة في بلد انقطع فيه للبحث والدرس أعواما طويلة.
نعم إن التفكير المصري المعاصر ليس خلوا من تأثير ابن خلدون، ولكن هذا التأثير الذي كان حريا أن يزدهر بمصر, وأن ينبث في مدرستها التاريخية التي كانت يومئذ في أوج قوتها، كان ضئيلا محدود المدى, ونستطيع أن نرجع ذلك إلى الروح الذي استقبل به المؤرخ من المجتمع المصري المفكر، وهو روح نفور وخصومة، فقد جاء ابن خلدون إلى مصر يسبقه حكمه على المصريين في مقدمته بأنهم قوم “يغلب الفرح عليهم والخفة والغفلة عن العواقب” ويورد ابن خلدون هذه الملاحظة في معرض كلامه عن أثر الهواء في أخلاق البشر، ويعتبرها نتيجة لوقوع مصر في المنطقة الحارة, على أنه مهما اتخذت هذه الملاحظة سمة البحث العلمي فإنها لا يمكن أن تقابل ممن قيلت في حقهم بغير الاستياء والحفيظة, ولكن طبيعيا أن يحدث هذا الغرض السيئ أثره في شعور المجتمع المصري المفكر نحو المؤرخ. وكان هذا المجتمع نفسه يجيش عندئذ بكثير من عوامل الخصومة والمنافسة، وزعامته يطبعها لون من الجفاء والقطيعة, وكان اضطرام المنافسة بين أعلام التفكير والأدب يومئذ سواء في ميدان التفوق والنبوغ أو في تحصيل ما تسيغه الزعامة الأدبية, وكان المجتمع القاهري الأدبي ينقسم عندئذ إلى شيع وطوائف تنحاز كل شيعة أو طائفة إلى زعيم أو جناح معين من الزعماء فتؤيد جهوده الأدبية وتناجز خصومه في ميدان الجدل.
لم يكن من السهل على أجنبي مثل ابن خلدون جاء ينتظم في سلك هذا المجتمع منافسا في طلب الجاه والرزق؛ أن ينعم بصفاء الأفق، أو يلقى خالص المودة والصداقة، هذا إلى ما كان يغلب على خلاله من حدة وصرامة وكبرياء تزيد من حوله الجفاء والقطيعة, كان طبيعيا أن تلقى آراء ابن خلدون ودروسه في هذا الأفق الكدر من الإعراض والانتقاص أكثر ما تلقى من الإقبال والتقدير، وأن تكون محدودة الذيوع والأثر, ومع ذلك فقد درس على ابن خلدون جمهرة من أعلام التفكير والأدب المصريين وانتفعوا بعلمه، وظهر أثره جليا في بعض ثمرات التفكير المصري المعاصر, وممن درس عليه وانتفع بعلمه الحافظ ابن حجر العسقلاني المحدث والمؤرخ الكبير فهو يقول لنا في كتابه “رفع الإصرعن قضاة مصر” إنه “اجتمع بابن خلدون مرارا وسمع من فوائده ومن تصانيفه خصوصا في التاريخ” وإنه “كان لسانا فصيحا حسن الترسل وإنه كان جيد النقد للشعر وإن لم يكن بارعا فيه, بيد أن ابن حجر يحمل على ابن خلدون بشدة، وينقل في ترجمته كثيرا مما قيل في ذمه وتجريحه, فهو يقول لنا في تاريخه أن ابن خلدون مؤرخ بارع “ولكنه لم يكن مطلعا على الأخبار على جليتها ولا سيما أخبار المشرق” ويعارض المقريزي في مدح المقدمة ويرى أنها لا تمتاز بغير “البلاغة والتلاعب بالكلام على الطريقة الجاحظية” وأن محاسنها قليلة “غير أن البلاغة تزين بزخرفها حتى يرى حسنا ما ليس بحسن” وأما ابن خلدون كقاض فإن ابن حجر يقول لنا: “أنه باشر القضاء بعسف وبطريقة لم تألفها مصر, وانه لما ولي المنصب تنكر للناس وفتك في كثير من أعيان الموقعين والشهود، وأنه عزل لأول مرة بسبب ارتكابه التدليس في ورقة ثم ينقل في هذا الموطن كثيراً مما قيل في ذم المؤرخ وتجريحه, من ذلك إن أهل المغرب لما بلغهم ولايته للقضاء تعجبوا ونسبوا المصريين إلى قلة المعرفة بحيث قال ابن عرفة: “كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب فلما وليها هذا عددناها بالضد من ذلك” ومن ذلك قول الركراكي أحد الكتاب الذين عملوا مع ابن خلدون “أنه عرى عن العلوم الشرعية” بل ينقل ابن حجر أيضا بعض المطاعن الشخصية والأخلاقية التي قيلت في حق المؤرخ من ذلك ما نقله عن العينتابي وهو أنه كان يتهم بأمور قبيحة وما نقله عن كتاب القضاة للبشبيشي، وهو أن ابن خلدون كان في أعوامه الأخيرة يشغف بسماع المطربات ومعاشرة الأحداث وأنه تزوج امرأة لها أخ أمرد ينسب للتخليط وأنه كان يكثر من الازدراء بالناس وأنه حسن العشرة إذا كان معزولا فقط فإذا ولى المنصب غلب عليه الجفاء والنزق فلا يعامل بل ينبغي أن لا يرى” وهذه أقوال تنم عن خصومة مضطرمة ومبالغة في الانتقاص تنحدر إلى معترك السباب والقذف, وقد كان البشبيشي بلا ريب من ألد خصوم المؤرخ وأشدهم وطأة عليه, وقد دوَّن حملاته على المؤرخ في كتاب ألفه في تاريخ القضاة, ويؤكد عنان أن مؤلفات المقريزي تتسم بالموضوعية والدقة والتقصي عن الحقائق والبحث عن الأسباب وتعليلها، إضافة إلى أسلوب الكتابة المتسم بالسرد والعرض، والابتعاد عن الإساءة للآخرين والتقيد بالأخلاق.
حصل المقريزي على مناصب كبيرة في الدولة المصرية منها، الحسبة والخطابة والإمامة، بالإضافة إلى إلقاء الدروس الدينية في جامع عمرو بن العاص، ليستفيد من احتكاكه بمختلف الطبقات في هذه الوظائف، بالإضافة إلى علمه بالتاريخ والأدب والفكر، فضلًا عن تلمذته على يد ابن خلدون، للتاريخ الاجتماعي، وعلاقة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالتاريخ، ليكون هو بعد ذلك التلميذ الذي تفوق على معلمه وقدم تطبيقا لهذه النظرية في دراسات مختلفة.
ولم يكن ابن خلدون يغزم أن يؤرخ تاريخا عاما، بل تخصص بتاريخ المغرب ابتداء، وقد صرح بذلك في مقدمته لتاريخه فقال: “وأنا ذاكر في كتابي هذا ما أمكنني منه في هذا القطر المغربي إما تصريحا وإما مندرجا في أخباره وتلويحا؛ لاختصاص قصدي في التأليف بالمغرب وأحوال أجياله وأممه وذكر ممالكه ودوله دون ما سواه من الأخبار، لعدم اطلاعي على أحوال الشرق وأممه، وأن الأخبار المتناقلة لا توفي كنه ما أريده منه.
هل كان ابن خلدون يكره العرب؟
وفي نهاية عمره كتب ابن خلدون ضمن مراجعة كتاب المقدمة: ذاكرت يومًا صاحبنا أبا عبد الله بن الخطيب وزير الملوك بالأندلس من بني الأحمر، وكان الصدرَ المقدَّمَ في الشعر والكتابة فقلت له: أجد استصعابًا عليَّ في نظم الشعر متى رمته؛ مع بصري به، وحفظي للجيد من الكلام من القرآن والحديث، وفنون من كلام العرب، وإن كان محفوظي قليلًا، وإنما أُتيت –والله أعلم – من قِبَلِ ما حصل في حفظي من الأشعار العلمية والقوانين التأليفية. وعَدَّدَ جملةً من محفوظاته، ثم قال: فامتلأ حفظي من ذلك، وخدش وجه الملَكة التي استعددت لها بالمحفوظ الجيد من القرآن والحديث وكلام العرب، فعاق القريحة عن بلوغها”.
وقال سلامة موسي في كتاب المقالات الممنوعة ظني أن كراهة ابن خلدون للعرب وعدوانه على ثقافتهم في المعنى العصري لهذه الكلمة، وقد كنت أنا أول من استعمل كلمة «الثقافة» بمعناها العصري، وكان ابن خلدون هو الموحي إليَّ به.
ومن العجيب في ابن خلدون أنه يذكر «العصبية» كثيرًا، ولكنه لا يذكر الأسرة، وهو يكاد يكون في غيبوبة تامة عن مكانة المرأة في المجتمع، ولا عبرة بأن يقال: إنه نشأ في وسط اجتماعي يعوق بصيرته، فإن ابن رشد قد سبقه بسنوات إلى هذا الموضوع، وتحدث عن ضرورة ارتقاء المرأة، وأنها يجب أن تخالط المجتمع وتؤدي وظائف الدولة.
والخطأ البارز في ابن خلدون هو تَنَقُّصُه حضارة العرب، فإنه هنا أعمى كامل العمى لا يرى بصيصًا من نور، وأنا لا أعزو هذا العمى إلى أنه بربري يكره العرب، فإن هذا القول ليس تفسيرًا، وما أظن أنه كان يخدع نفسه فيرى فضائل العرب نقائص، ويكتب هذا في «مقدمة» أخلص فيها التفكير وأراد أن يصل فيها إلى استنتاجات منطقية. هذا مع أني أحتفظ له بخيانات شخصية وثقافية، فإنه مثلًا خان معظم الأمراء والملوك الذين خدمهم، ثم إنه سرق كل ما كتبه إخوان الصفاء وعزاه إلى نفسه.
ولكن حملة ابن خلدون ترجع إلى جهله لا أكثر، فإنه رأى الأعراب، ولم ير العرب.
يقول ابن خلدون في «المقدمة» عن العرب: «إنهم بطبيعة التوحش الذي فيهم أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر ويفرون إلى منتجعهم بالفقر».
ويقول أيضًا في فصل عنوانه: «إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب»: «والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم جبلة وخلقًا، وكان عندهم ملذوذًا لما فيه من الخروج عن ريقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافية للعمران ومناقضة له».
عاش المقريزي طويلا بعد وفاة ابن خلدون الذي توفي يوم 19 مارس 1406م (73 سنة) في حين توفي المقريزي بالقاهرة في سن الـ80 من عمره، بحارة برجوان ، سنة 1442م، ودفن فى مقابر الصوفية أمام باب النصر، بالقرب من مقبرة ابن خلدون.