المكان: قرية بالقرب من سربرينتسا، في البوسنة والهرسك.
الزمان: 14 يوليو 1995.
الحدث: أسر جنود الصرب من لواء زفورنيك، مجموعة من الرجال المدنيين الذين فروا بعد سقوط سربرينتسا أو الذين انفصلوا عن النساء والأطفال في بوتوكاري بالقرب منها. نقلهم الصرب إلى مدرسة في قرية أوراهوفاك بالقرب من زفورنيك؛ حيث تحول المكان إلى ساحة إعدام جماعي لمسلمي البوسنة (البوشناق). كانوا يقتلونهم على مجموعات. ثم يذهبون ويشرعون في الغناء والاستراحة قبل أن يعودوا ومعهم مجموعة أخرى ليبدءوا في إطلاق النار عليهم. وهكذا قتلوا نحو ألف مسلم في ساعات واستحالت الأرض مقبرة جماعية.
فالأرض فيها وجه مذبحة والجو أمطار من الشهب
لم يبق غصن غير منتهب لم يبق وجه غير مستلب
استخدم أعضاء من سرية الهندسة التابعة للواء زفورنيك، معدات ثقيلة لدفن الضحايا في مقابر جماعية في موقع الإعدام. لاحقا، أزالوا الجثث من القبور الأولية وإعادة دفنها في مقابر ثانوية على بعد عشرة كيلومترات تقريبا. استدل على ذلك بواسطة تحليل الطب الشرعي لعينات التربة، مع الأدلة والصور الجوية المقارنة قبل وبعد المجزرة.
كان من بينهم صبي يبلغ من العمر سبع سنوات، أنقذه سائق سيارة إسعاف كان يعمل في جيش صرب البوسنة. واحدة من الشهادات الأكثر إثارة للصدمة سجلت في محكمة لاهاي، هي بالتأكيد تلك التي تتحدث عن إطلاق النار على الصبي فخر الدين مؤمينوفيتش وحول نجاته. إنها لا تزال تثير المشاعر العميقة.
الطفل: فخر الدين مؤمنوفيتش
المنقذ: “الشاهد المحمي هو سائق إسعاف في لواء زفورنيك في جيش صرب البوسنة، وشاهد عيان على إطلاق النار على الأسرى البوشناق في بلدة أوراهوفاك.
دعونا نعيش هذه الدقائق مع شهادة السائق والطفل.
لنبدأ بشهادة سائق الإسعاف الصربي؛ إذ تعادل -في ميزان العدالة- شهادة العشرات من البوشناق. فالحق ما شهدت به الأعداء. وكونها شهادة فريدة ومؤثرة، فستبقى في ذاكرة الكثيرين.
يقول الشاهد المنقذ:
“ثم حدث شيء فظيع لا يمكن تصوره لا أستطيع أن أنساه لليوم ولن أنساه للأبد. أظل أفكر فيما يمكن أن يفعله إنسان بآخر. بغض النظر عن كم الرعب الذي شعرت به في العديد من الأفلام والأفلام الوثائقية وما إلى ذلك، بغض النظر عن عدد كتب الرعب التي قرأتها، وعن الكتب التي تجعلك تبكي على مصير شخص آخر. دعني أخبرك، هذا لا يقارن بما رأيته هناك؛ إذ أصبت بمرض السكري من هول ما رأيت.
من تلك الكومة من الجثث المتراكمة والدخان … التي لم تعد تبدو كأجساد بشرية. كانت مجرد قطع لحم، فجأة ظهر إنسان. أقول إنسانًا، لكن في الواقع كان صبيًا في الخامسة إلى السادسة من العمر. إنه مشهد لا يصدق. لا يصدق. يخرج إنسان ويسير باتجاه الطريق، الطريق الذي يقف فيه الجنود، يطلقون النار بالبنادق الآلية، الذين كانوا ينهون ما كانوا ينهونه للحال (القتل). هذا الطفل يتجه مباشرة إليهم. وهو يتألم.
جميع الجنود ورجال الشرطة الذين وقفوا على هذا الطريق، الأشخاص الذين تعلموا القتل جيدا، جميعهم أنزلوا أسلحتهم فجأة وابتعدوا. كان الصبي مغطى بأجزاء من أحشاء القتلى الآخرين. صاح الطفل: “بابا، بابا، بابا”. المسلمون (البوشناق) ينادون الأب بابا.. وقف ضابط أمام الجنود، أعتقد أنه عقيد، مخاطبا الجنود بقسوة: “ماذا تنتظرون، اقتلوه!” فرد عليه الجنود الذين كانوا سعداء بالقتل منذ لحظات: سيدي لديك مسدس، فلماذا لا تقتله أنت؟ كان الجميع عاجزا عن الكلام فيما بعد. ثم خاطب الضابط جنوده: “اصطحبوا ذلك الطفل إلى الشاحنة ثم احضروه فيما بعد مع مجموعة أخرى، لنتخلص منه”. أمرهم الضابط بنقل الصبي إلى مركز اعتقال قريب، وإعادته لاحقًا إلى مكان الإعدام وقتله في جولة جديدة من قتل البوشناق.
يستكمل الشاهد:
كان الطفل مصدوما، وظل يردد: “بابا، بابا، أين أنت؟” أخذ الجنود الطفل ووضعوه في الشاحنة وهو ينزف. ثم قفزت وقلت للجنود: ‘اسمعوا، سأصحبه إلى شاحنتي، وسأعزف الموسيقى لإلهائه عما حدث. سأقوم بتشغيل الراديو. صعدت إلى الشاحنة وأشعلت الضوء، وأدرت الراديو، ووجدت محطة الإذاعة المحلية. فقلت له: تعال، تعال إلي. انظر، لدي ضوء، وموسيقى. فجأة أمسك بيدي. لا أريد أن يشعر أحدكم بما شعرت به. كنت معروفا بأنني رجل قوي وصعب المراس. لكنني لا أريد أن يتعرض أي شخص لما شعرت به وهو يقبض على يدي. لقد صدمت بقوة قبضته”.
“عندما أحضرته إلى قسم الجراحة، أمسك بيدي، وقال لي: بابا، لا تدعهم يأخذوني بعيدًا، من فضلك”. وحتى يومنا هذا، يتردد صدى كلماته في أذني.. وبينما يفحصه الطبيب وينظفه من بقايا الأحشاء البشرية واللحم، شممت رائحة كريهة. لم أفهم كيف لم أشم تلك الرائحة النتنة عندما كنت أنقله بالشاحنة إلى المستشفى. لقد صدمت للغاية من الحدث برمته”.
“أعلم أنني خاطرت بحياتي لأخلص هذا الطفل. لكن هل يمكن أن يكون الأمر أسوأ من هذا؟ لقد رأيت ذروته؛ فالذي قتل للتو كل هذا العدد من البشر فسيكون بالتأكيد مستعدا أن يقتلك”.
أخذ الشاهد الصبي إلى المستشفى في زفورنيك، ونقلوه إلى قسم الجراحة لإصابته بطلق ناري في يده وساقه. استغرق علاجه ثمانية أشهر تقريبا.
أعود إلى الطفل، حيث قال مؤمنوفيتش خلال شهادته في المحكمة ثم في بيان لوسائل الإعلام لاحقا: “في يوليو/ تموز 1995، كنا نعيش في قريتنا أوركوفيتشي شرقي البوسنة. تفرقنا عن بقية أسرتنا في أحداث سربرينتسا. كنت وأبي في المنزل، حين سألني أن أعطي له مصباحا آخر محل المصباح الذي لا يعمل. ذهبت إلى النافذة لأرى شيئًا وسمعنا أحد الرجال يصرخ أن التشتنيك (جنود الصرب) يقتربون من المنزل. أخبرني والدي أن أتوارى تحت السرير، لكن جنود الصرب عثروا علينا وأخذونا إلى الخارج. عصبوا أعيننا بأوشحة بيضاء لكيلا نرى وجهتنا لكنها تعني أن الموت سيأتينا فجأة. ركبنا الشاحنة، أتذكر القماش المشمع الأخضر. سرعان ما سقط وشاحي فطلبت من والدي ربطه لي لكنهم لم يسمحوا لي بل شدوه بقوة. شعرت بالرعب حين قادونا لمسافات، ثم توقفوا فجأة في الغابة. أخرجونا من الشاحنة وأمرونا بالاستلقاء. واستلقينا جميعًا على بطوننا في صف واحد. بدأوا في إطلاق النار علينا”.
يقول فخر الدين: في لحظات سمعت طلقات الرصاص وسمعت أصوات القتلى يتألمون وشعرت بكومة من الجثث تسقط فوقي وسقطت. كنت ملطخًا بالدماء والأشلاء. كنت أنزف وأتلوى من الألم. لكنني لم أمت. صرخت “بابا بابا أين أنت؟ ونظرت ورائي ورأيت والدي ينازع الموت. صرخت “بابا، لا تدعهم يأخذونني”. سألتهم عما إذا كان يمكنه الحضور معي فقيل لي لا. كان هذا آخر ما رأيت منه قبل أن ينقلوني إلى عربة المسعف وأغادر المكان.
لم يتذكر فخر الدين من اسم منقذه إلا أن اسميه الأول والأخير صربي. وبالكاد يتذكر فترة الشهور الثماني التي قضاها في المستشفى. بحث عمه “رامو مؤمنوفيتش” عنه لعدة أشهر، وفي النهاية وجده أحد نشطاء الصليب الأحمر الدولي. ثم نُقل إلى مستشفى في توزلا. قال عمه إنهم حاولوا إخفاء حقيقة إصابة الصبي في المجزرة فأقروا في خطاب خروجه من المستشفى، أنه عثر عليه في الغابة مثلما قال السائق الذي أنقذه.
في الفيديو، يمكنني رؤية الصبي في مقعد سيارة الجيب، منتظرًا بفارغ الصبر رؤية أخته وعمته وعمه. في نظرته، ترى ذكرى والده الذي لم ينج من إطلاق النار. ينظر إلى عمته وكأنه يتذكر بها والدته التي رحلت في زمن الحرب في سربرينتسا بعد أن أنجبت ابنتها. كان هذا هو اللقاء الأول بين ذراعي أحبائه منذ شهور.
أحيانا، يعاني الطيبون رغم ما يقدمونه من لفتات إنسانية عظيمة:
الدنيا تقتل الطيّبين جداً، اللطيفين جدا والشجعان جداً بلا تمييز. تقتلهم بإنصاف.
إرنست همنجواي – وداعا للسلاح
يعلم فخرالدين أيضًا أن الرجل الذي أنقذه عانى جراء فعلته، رغم أنه كان أيضًا شاهدًا محميًا في محكمة لاهاي.
قال مؤمنوفيتش: “بسبب ما فعله معي وما أدلى به في شهادته ضد الصرب في لاهاي، فقد تنكرت له عائلته طوال حياته. ولم يحضر جنازته سوى القليل منهم”. الآن وقد رحل عن دنيانا، أود أن أقابل زوجته وولديه. إنهم يعيشون في فنلندا، بعدما عاشوا لفترة في روسيا. إذا التقيت بهم، فسأشكرهم وأخبرهم أن والدهم كان رجلاً عظيمًا وشجاعًا وإنسانًا. لقد أنقذ حياتي، ورجل أنقذ حياة واحدة، فكأنما أنقذ الناس جميعا. إذا أرادوا، فسأحتضنهم وأقبلهم، لأنهم إذا قبلوني، فسيكونون أصدقائي وعائلتي”.
يقول عمه رامو مؤمنوفيتش: “أود أن ألتقي بهم. يتيح لك ذلك أن ترى أنه يوجد الخير في كل مكان في هذا البلد”. ويضيف: “الصرب قتلوا والد فخر الدين في هذا البلد، لكنه أيضًا المكان الذي أنقذ فيه أحد الصرب فخر الدين”.
(وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) المائدة -32.
شهادة الضحية والجلاد:
في وقت لاحق، أدلى فخر الدين مؤمنوفيتش، بصفته شاهدًا محميًا في المحكمة في لاهاي، بشهادته ضد المجرمين.
وبعد عقدين من التخفي، قرر أن يعلن أنه ذلك الصبي الذي نجا من إطلاق النار. “سأكشف عن اسمي وذاتي علنا. أريد أن يعرف الجميع ما حدث لنا وأن يعرفوا من أنا. ليس هناك حاجة للاختباء مثلما فعل الشاهد(السائق)”.
شهادة فخر الدين عمل مؤثر وبطولي. أن تقف في محكمة لاهاي، وأن تنظر في أعين القتلة، بل وأن تعود إلى موقع الإعدام. أراد القدر أن يعيش فخر الدين؛ ليكون شاهدا على المجزرة.
فيديو شهادة المحكمة:
الصمت يلف ساحة المحكمة. المجرمون السبعة في قفص الاتهام. والرؤوس محنية من هول ما تسمع أم من خزي جرم ما اقترفت. حتى القاضي يجلس صامتا ويلوح بعصبية. كاد أن يبكي. يعلق: ذاك بدع من الشر، لم نسمع به من قبل، ولم يكن متأصلًا في البشر.
من المحزن أن نستمع لقصة الناجي من المذبحة. فمن هو الناجي؟ الطفل أم المسعف؟
في الواقع، كلاهما ناج من هذه المجزرة. أما الطفل الذي كاد أن يكون ضمن الضحايا لكنه نجا. ويكفيه الألم النفسي والضياع الذي خلفته الحرب بل ذكرى الساعة الأخيرة من المجزرة بينما مات أبوه فيها.
“وجدته نازيًا غير نادم ادعى أنه لم يتعمد أن يضر أبدًا بأي أحد شخصيًا وقام فقط بواجباته كضابط”.
-تعليق الابن عن أبيه الطبيب العسكري النازي جوزيف منجليه.
أما القاتل فهو الجندي الصربي/سائق الإسعاف. إنه ناج أيضا. لهذا أعجب منه حين قتل وشارك مباركا لما يفعله زملاؤه. وأعجب أكثر حين توقف عن القتل بل أقف أمامه كثيرا. أمام هذه النفس البشرية التي تقتل نفوسا بالمئات والألاف من المدنيين العزل و(شباب ومراهقين و شيوخا بل ونساء). ما الذي كان يدور في نفسه الشريرة لتقدم على هذه المجزرة طوعا؟ أي شهوة حيوانية هذه؟ حتى الحيوانات لا تفعل هذه المقتلة، فتكتفي بفريستها التي تشبع جوعها فقط. كيف يعود لأسرته وأطفاله وبأي يد حانية يمسهم، وقد قتلت للتو أبرياء مثلهم؟ وكيف يستقبلونه وينظرون في عينيه؟ أيستقبلونه استقبال المنتصر في حرب شريفة أم استقبال قاتل وضيع فتك بمدنيين عزل؟ فتخلص منهم حقدا أو شهوة أو بلا سبب! لا أعلم. لا أحد يعلم ما يدور في النفوس في هذه اللحظات. لكنه الحقد منشأ كل الشرور والآثام.
وما الذي أوقفهم حين شاهدوا خروج الطفل من كومة الجثث؟ إنه القدر. رسالة من الله ليتوقفوا ولو مؤقتا ثم يشهد بما اقترف زملاؤه في المجزرة. فجأة عدل عن هذا الرأي الذي أمر به القائد، ثم هرب الطفل الجريح إلى مشفى. لاحقا، ربما أراد أن يتطهر من هذه الآثام بشهادة حق في محكمة الأرض قبل محكمة السماء. ودفع ثمنها من إنكار قومه لفعلته (الشنيعة) إذ كيف ينقذ طفلا من القتل؟ بل وكيف يشهد بالحق؟
توقفت عند طلب الشاب من أهل الجندي الصربي أن يكونوا أهله. نعم، فكلاهما (القاتل والمقتول) ناج. نجا الطفل من الموت بلا إثم. ونجا الجندي من إثم القتل. نعم لقد قتل هذا الجندي وغيره ربما مائة نفس أو يزيد، لكنه وحده توقف وكفر عن فعله بالشهادة. اعترف بذنبه صادقا. الاعتراف الصادق بالذنب هو الخطوة الأولى للعدل. أما الكبر والإصرار فلا يفرز لنا إلا مزيدا من القتل قد يمتد لعقود وقرون. هذا الجندي أوقف هذا الشلال من الحقد والإصرار والإنكار. ترك لأسرته تاريخا مشرفا رغم إنكارهم لفعلته حتى بعد مماته.
إنني أعجب من عدالة السماء وقد اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب. إذ كيف ستتنازع على هذا الصربي. يقول إبليس لقد شارك في القتل بلا رحمة لأيام وقبلها لسنوات. شارك مباركا أو قاتلا أو مساعدا في المجزرة. لم يعصني ساعة إلا هذه الساعة التي خرج فيها الطفل من وسط كومة الجثث ملطخا بالدماء والاشلاء. فتقول الملائكة: لكنه عاد وتاب بكلمة. كلمة حق أضفت شيئا من العدل على وجه هذه الأرض.
الشعور بالذنب:
يقول فخر الدين: قد نجوت بهذه الطريقة، لكن طوال حياتي لم أستطع مسامحة نفسي على وفاة والدي. كان قادرًا على الهروب مع عمي. لكنه قرر أن يظل معي لنختبئ معا. كثيرا ما زارني المعالجون النفسيون. أصبحت حالتي أفضل قليلا.
حياة صعبة:
بعد أن تلقيت العلاج في المستشفى لشهور، تمكن الصليب الأحمر من تتبع عمي واعتنى بي هو وزوجته وأطفاله الثلاثة. كنت أعيش معه في معظم طفولتي، وبينما كنت في دار للأيتام لفترة من الوقت، كنت أزوره في عطلات نهاية الأسبوع، وأساعده في المزرعة. عاش فخر الدين ظروف معيشية صعبة، حيث تقاسم المنزل مع ثمانية أشخاص آخرين. كل من يعيش معه يعتبره عائلة. بعد عقدين من العناء، ساعدته حملة تبرعات لينتقل إلى منزله مع أخته في شتاء عام 2019. فخر الدين يخطط لبدء عمل تجاري ثم يتزوج. يقول الآن أستطيع أن ابدأ في الحياة من جديد.
البحث عن الأمان النفسي:
“لدي ذكريات سعيدة من هذا الوقت من حياتي حين كان لدي أصدقاء وكان عمي يعتني بي ويغمرني بالدفء. المعيشة مع عائلة عمي تشعرني بالأمان، وأنا بحاجة إلى الأمان لأتعافى. فما حدث في ذلك اليوم قبل سبعة وعشرين عاما لا يزال يطاردني. غالبًا ما أستيقظ في الليل أرتجف ولا أستطيع العودة إلى النوم. لا يمكنني أن أجبر نفسي على التفكير في إطلاق النار كثيرًا وإلا سأصاب بالجنون. إنه عبء كبير لأتحمله.
أذهب أحيانًا إلى النصب التذكاري في سربرينتسا لزيارة قبر والدي، لكنني دائمًا أتجنب ذلك الوقت في يوليو كل عام. أعرف أن الكثير يفضل هذا الوقت لتذكر أحبائهم وزيارة قبورهم. لكني يعيد لي مسمعي صرخات الرجال الذين قُتلوا بينما نقلت بعيدًا.
عدت مرتين إلى نفس المكان الذي قُتل فيه والدي. كل ما أريده من الحياة الآن أن أجد سترته. فأرتديها طوال الوقت وأشعر بالقرب منه. لكنهم لم يجدوا إلا بقايا جثته، هيكل عظمي، بعد عشر سنوات.
يقولون إن الأيام خير مداوٍ. ومع ذلك، لا زلت لا أشعر بالأمان. لا أحب أن أبقى وحيدا في المنزل المطل على الطريق. أشاهد النوافذ ليلا، وأنا خائف من ظهور شخص ما. مثلما أحضر النظر عبر النافذة جنود الصرب إلى منزلنا قبل سبعة وعشرين عامًا.
لقاء مستحيل بين الناجي والمنقذ:
قبل عشر سنوات في 2007، قدمت أدلة حول تجربتي كشاهد في محكمة العدل الدولية في لاهاي. بشكل لا يصدق، شاهد آخر كان “طبيبي” – كان بإمكانه قتلي، لكنه أنقذ حياتي. سألته إذا كان بإمكاني مقابلته. في الليلة التي سبقت لقائه، لم أستطع النوم، لم يكن مسوحا لنا بذكر أسماء. فقط لقاء دون محكمة أو تصوير. وبدأ كلانا في البكاء. كان الوضع كله مروعًا.
سلطت مذبحة سربرينتسا الضوء على أسوأ ما في الإنسانية. اعتقدت ذات مرة أن جميع الصرب البوسنيين قساة القلوب، لكن هذا الرجل أثبت عكس ذلك. أظهر أن كل شخص لديه القدرة على أن يتعامل بشرف.
خاتمة:
فلتكن قصة فخر الدين تحذيرًا لكل من يحلمون الآن بإشعال حروب ومعاناة جديدة في أي مكان. في الحرب يموت الجميع بغض النظر عن الدين والعرق ولون البشرة.
المراجع:
1- ترجمتي الخاصة لشهادات المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة. ICTY
2- ترجمة من مواقع ولقاءات بوسنية.
تعريفات:
الشاهد: “الشخص الذي يُعاصر ارتكاب الجريمة ويعاينها بأي حاسة من حواسه سواء أكانت بالسمع أو البصر أو باللمس”.
الشاهد المحمي رقم 101: رمز للصربي الذي أنقذ الطفل. أعلن بنفسه عن هويته لاحقا.
ICTY المحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا: “تعمل المحكمة على توفير الحماية للشهود والمجني عليهم وتشمل إجراءات هذه الحماية على سبيل المثال لا الحصر نظر الدعاوى في جلسات سرية وحماية هوية المجني عليهم”
جيش جمهورية صربسكا: جيش صرب البوسنة.
التشتنيك: ميليشيات الصرب.
البوشناق: مسلمو البوسنة.
أوركوفيتش. Urkovici
قرية أوراهوفاك Orahovac village بالقرب من زفورنيك Zvornik
Zvornik Brigade, لواء زفورنيك في جيش جمهورية صرب البوسنة
احصائيات:
وفقًا لبحث أجراه معهد الجرائم ضد الإنسانية والقانون الدولي بجامعة سراييفو، قُتل 826 طفلاً في سربرينتسا بين عامي 1992 و1995م. بينما في يوليو / تموز 1995 وحده، قُتل 694 طفلاً.
من تقرير الدائرة الابتدائية عن المجزرة:
“إن حجم وطبيعة عملية القتل، مع العدد الهائل من عمليات القتل، والطريقة المنهجية والمنظمة التي نفذت بها، واستهداف الضحايا ومطاردتهم بلا هوادة، والنية الواضحة-الظاهرة من الأدلة-للقضاء على كل رجل مسلم بوسني تم القبض عليه أو تسليمه يثبت بما لا يدع مجالا للشك أن هذه كانت إبادة جماعية”.
“في سياق الحرب في يوغوسلافيا السابقة، وفي سياق التاريخ البشري، فإن هذه الأحداث لها أهميتها في نطاقها ووحشيتها”.