ثقافة

عمر ابن الفارض.. بحيرة رائقة بين جبال الوجد!

يقف ابن الفارض وحيدا على إحدى ربوات الوصل، لا يدانيه أحد.. صريع وجده الذي أضناه واقض مضجعه حتى هام على وجهه في المقطم يختلي أياما بلا زاد، عله يجد لوحشة قلبه أنسا، ولالتياع روحه راحة، ثم إنه رأى أن ينزل طلبا لبشارة تزيح عن نفسه المهتاجة بعض آلامها، فتقوده قدماه إلى مدرسة السيوفية فيرى شيخا أكله الهِرم يتوضأ فلا يحسن الوضوء، فيقف عمر متحيرا فيما يفعل بشأنه يخشى أن يعظه فيجد في نفسه كبرا مهلكا، ويخاف إن هو تركه أن يكون قد ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فيجمع شتات نفسه ويذهب إلى الشيخ مبينا له أنه ربما ينبغي أن يكون الوضوء هكذا وهكذا -يبين له عمليا- فيخاطبه الشيخ قائلا: ياعمر فتحك ليس بمصر، فتحك بمكة بجبل أبي قبيس، ولو كنت سكت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لما فُتح عليك أبدا، ولو جئت ناصحا تظن في نفسك الخير لسُلِبْتَ همة الإقبال على الله.

وكيف لابن الفارض أن يذهب إلى مكة والوقت ليس موسما والسفر يلزم أن يكون في قافلة، فيعزم عمر السفر، ويلقى في ذلك ما يلقى من عناء ومشقة هوَّنهما ذلك الاشتياق الذي كان يجذب روحه جذبا للأرض المقدسة، ويصل ابن الفارض إلى مكة، ويبقى فيها لخمسة عشر عاما يتعبد في جبالها مختليا، وما كان يُرفع الأذان في الحرم إلا وقد شُوهد ابن الفارض في رجا من أرجاء المسجد.

ويقبل السهروردي في الموسم قبيل مقتله وهو بعد شاب في الثامنة والثلاثين بأمر صلاح الدين الأيوبي متهما بالزندقة التي ألصقها به فقهاء الشام، وعندما يعلم أن ابن الفارض في الحرم يسعى للقائه، لكنه تحدث في نفسه متسائلا: يا ترى هل أنا عند ظن هؤلاء القوم؟ أم هل ذُكِرتُ أنا في حضرة المحبوب هذا اليوم؟ وإذا به يرى ابن الفارض أمامه مباشرة قائلا له: لك البشارة فاخلع ما عليك فقد ذُكِرتَ على ما فيك من عِوج.. فيخلع السهروردي ما عليه وكذلك يفعل من كان معه من الصحب، ويصرخ صرخة شديدة ويبكي بكاء مريرا، لكنه حين انتبه أخذ يطلب ابن الفارض فلم يجده!

ويرى ابن الفارض في المنام شيخه أبا الحسن علي البقال صاحب الفتح الإلهي والعلم اللدني، الذي كان قد لقيه عند المدرسة السيوفية- يطلب منه أن يعود إلى القاهرة من أجل أن يتولى دفنه وتشييعه، وقد رآه يُحْتَضَر، فيغادر ابن الفارض مكة وقد ذهبت روحه مزقا وذاب قلبه لفراق بيت الله الحرام، وتذكر جوار رسول الله فاضطرب فؤاده حد التشظي، إذ كان أول ما فتح الله به عليه بيت في مدح الحبيب يقول:

وعلى تفنن مادحيه بوصفه.. يفنى الزمان وفيه ما لم يوصفِ.

يعود ابن الفارض إلى القاهرة التي ولد بها بعد أن  جاء والده – وكان من أكابر العلماء من حماة بسورية- واستقر بالقاهرة، ويروى أنه رأى رؤيا بشارة ميلاد عمر إذ رأى نفسه وقد شق صدره وخرج منه طائر خفق ثلاث خفقات فملأ الفضاء، وراح يغرد حتى ملأ تغريده  الأجواء، وكان ذلك عند أذان الفجر، وقد أوّلت له الرؤيا بأنه سيرزق ولدا صالحا سيملأ الدنيا بخير الكلام في محبة الله ورسوله.

تحتل الرؤى المنامية ركنا هاما في سيرة ابن الفارض، إذ يروى أيضا أنه عندما انتهى من كتابة قصيدته المشتهرة بالتائية الكبرى أراد أن يسميها “روائح الجِنان ولوائح الجَنان” لكنه رأى النبي في المنام يوصيه أن يكون اسمها “نظم السلوك” ففعل.

ترجع بعض الدراسات الموثقة للمستشرق الإيطالي “جوزيبى سكاتولين” أن عودة ابن الفارض إلى مصر كانت عام 628هـ وبرغم حبه الشديد لمصر التي قال فيها:

وطني مصر وفيها وطرى..  ولنفسي مشتهاها مشتهاها.

إلا أن الحزن على مفارقة مكة كان قد صيره بددا، وقد تزامنت تلك العودة مع بدايات الدولة الأيوبية السنية، عقب زوال الدولة الفاطمية، وكان الأيوبيون حريصين على مواجهة طريقة الفاطميين التي سادت معظم عادات المصريين وممارساتهم اليومية؛ فعمدوا إلى بناء المدارس والمعاهد والمساجد؛ لذلك يعتبر هذا العصر من العصور التي مهدت لانتشار تعاليم الصوفية في مصر؛ إذ كانت الأوضاع مهيأة جدا لذلك.

 ابن الفارض

صار ابن الفارض النجم الأوحد في سماء الشعر الصوفي، فأقبل على مجالسه كل طوائف الشعب من الفقراء والمساكين الذين كان عمر ينفق عليهم مما يتاح له من مال الله، إلى الملك الكامل الذي كان ينزل إليه، يجالسه ويستمع إليه.

ومما يجدر ذكره أن ابن الفارض لم يترك من الآثار سوى ديوان صغير نسبيا يتألف من نحو 1850 بيتا وهو على صغره من روائع الشعر العربي، ويأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد ديوان ابن الرومي في الحب الإلهي، ولعل أظهر ما يمتاز به شعر ابن الفارض من الناحية الفنية هو الإسراف في الصناعة اللفظية أو الإغراق في المحسّنات البديعية، وهذا برأي النقاد طبيعيٌ لأنه كان يعيش في عصر يمتاز بكثرة الجناس والطباق والبديع وهو عصر التصنّع والتكلّف، مع ذلك فقد امتاز شعره برقة اللفظ مع الجزالة والمتانة ودقة المعنى وعمق الفكرة والسلاسة والوضوح وبصدق الحسّ وسلامة الأسلوب وبعد الخيال وجمال الصورة.

وقد جمع ابن الفارض أصل مذهبه الصوفي وحقيقة رؤيته في الحب الإلهي في قوله:

وعن مذهبي في الحب مالي مذهب.. وإن ملتُ يوما عنه فارقت ملّتي

وقد راجت أشعار ابن الفارض في الحب الإلهي في أنحاء الدنيا وترجمت إلى عدة لغات، وتكثر الدراسات حولها في العديد من الجامعات الأوروبية؛ بالرغم من أنه إلى الآن لم ينل حظا من الدراسات الجادة والمدققة لا في الجامعات المصرية ولا العربية.

وبالطبع لم ينج عمر ابن الفارض من سهام الإلحاد والزندقة التي يطلقها الفقهاء ضيقوا الأفق على كل من خالف طريقتهم فقال عنه ابن تيمية إنه من أهل الإلحاد القائلين بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود.

توفي ابن الفارض عُمر بن علي بن مرشد بن علي الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة بالقاهرة عام 632هـ عن عمر ناهز الخامسة والخمسين ودفن بالمقطم ذلك الجبل الذي شهد أيامه الأولى في الاختلاء ومحاولات القرب، وله مسجد وضريح بمنطقة الإباجية في قرافة تعرف باسمه.

رحل ابن الفارض بعد رحلة تأمل وحب عميق في الذات الإلهية أسكرت روحه وأذهلتها عن عالم المحسوسات؛ فطاب له الأنس بذي الجلال، والاطمئنان في حضرة الكمال، والقرب ممن لا يغني عن وصله وصال.. وفي هذه المعاني يقول:

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننا.. سر أرق من النسـيم إذا سرى

وأباح طرفي نظـــــــــرة أمّلتها.. فغدوت معروفا وكنت منكّرا

فدهشت بين جماله وجلالـــــه.. وغدا لسان الحال مني مجهرا.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock