عندما وصفت الجمعية العامة للأمم المتحدة الصهيونية بأنها “شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري” في قرارها “رقم 3379 ” (الصادر في: 10 نوفمبر 1975)، أصيب الرأي العام الغربي عامة، والأمريكي على وجه الخصوص، بصدمة عنيفة.
وقد لخص برنارد لويس، العالم البارز في شؤون الشرق الأوسط، الموقف بقوله: “ليست الصهيونية حركة عنصرية في الأساس، ولكنها شكل من أشكال القومية أو حركة تحرير وطني بالمصطلح الحديث.. وأهم ما فيها هو الديانة اليهودية بتأكيدها المستمر على صهيون والقدس والأرض المقدسة، وكان للإيمان بالمسيح المنتظر وحركات الإحياء الديني التي ظهرت بين اليهود منذ القرن السابع عشر مساهمة مهمة في نشوء هذه الحركة”.
وعندما “عدلت” الجمعية العامة للأمم المتحدة عن قرارها، وقامت ـ منذ سنوات طويلة ـ بإلغاء القرار المشار إليه، عبر مساعد وزير الخارجية الأمريكي حينئذ، لورنس ايفلبرغر الذي حضر عملية التصويت (على الإلغاء)، عن سعادته وسعادة الحكومة الأمريكية بقوله: “إن إلغاء القرار تميز بطابع إنساني، كما أنه يدفع إلى طي إحدى آخر بقايا الحرب الباردة”.
تحالف استراتيجي
هذه الدراماتيكية التي صاحبت صدور القرار، كما صاحبت إلغاءه، ثم الابتهاج الأمريكي بهذا الإلغاء وبشكل ظهر معه الإلغاء مناسبة أمريكية أكثر من كونها إسرائيلية، وإن كان يؤكد على نقاط اشتراك متينة بين أمريكا وإسرائيل؛ وإن كان يشير في الوقت فسه، إلى أن المراهنة العربية على أن يكون الموقف الأمريكي لصالح العرب هي مغامرة.. فإنه إضافة إلى هذا وذاك، لابد من أن يثير التساؤل حول أهم أسباب التحالف الاستراتيجي “الأمريكي ـ الإسرائيلي” وتداعيات ذلك على المصالح العربية.
المقاربة الأولية لهذا التساؤل، لابد وأن تتم عبر محاولة الغوص تحت سطح العلاقات الظاهرة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، لتقترب من الأساس “الأصولي العقائدي”، أي البعد الديني في هذه العلاقات، وهي القضية التي تحتاج منا إلى وقفة نستعرض من خلالها هذا الاتجاه (الأصولي العقائدي)، المتنامي في السياسة الأمريكية والمجتمع الأمريكي.
والملاحظة الجديرة بالانتباه هنا، أن الالتزام السياسي والاستراتيجي الأمريكي بإسرائيل على قاعدة المصالح المشتركة، قد تحول إلى التزام “عقائدي ـ أصولي” (ديني) خلال العقود الماضية؛ وقد تأتى ذلك من خلال تنامي “التيار المسيحي الأصولي الغربي” الذي تلاقى فرع منه مع “الصهيونية اليهودية”، فكان تزاوج المعتقدات الدينية بضرورة مساعدة اليهود في تحقيق حلم “إسرائيل الكبرى”.
تزاوج عقائدي
أبلغ توضيح لهذا التزاوج، هو ذلك المؤتمر الذي عقد في إسرائيل تحت عنوان “المؤتمر المسيحي الصهيوني الأول” (عام 1988) [عقد أول مؤتمر مسيحي صهيوني دولي في مدينة بال في سويسرا (في الفترة من 27 ـ 29 أغسطس 1985)، وهو نفس المكان الذي عقد فيه أول مؤتمر يهودي صهيوني (في أغسطس 1897)].
وقد بنى هذا المؤتمر (1988) دعوته لتعضيد إسرائيل على فكرتين رئيستين: الأولى، علاقة إسرائيل الخاصة بالله كشعب، والثانية أن عودة اليهود إلى فلسطين وتأسيس الدولة ـ حسب فكرهم ـ يعجل بالمجيء الثاني للمسيح، والذي أحد شروط مجيئه تأسيس “دولة إسرائيل الكبرى” ليحكم من “أورشليم” العالم لمدة ألف عام سعيد.
والواقع، أن عقيدة المجيء الثاني للمسيح هي من العقائد المتميزة في الديانة المسيحية، إذ تعتبر أحد الأركان الأساسية للإيمان، كما أن توقع المجيء الثاني للمسيح من أهم موضوعات الإنجيل، وكل مسيحي العالم يؤمنون بهذه العقيدة، إلا أن الاختلاف يقع في كيفية تفصيلات هذا المجيء.
وقد كان هذا الاختلاف من أهم العوامل التي ساعدت الصهيونية على النفاذ من خلاله لتقنع بعض المسيحيين بأن عودة اليهود إلى فلسطين، وتأسيس دولة إسرائيل، والوصول إلى الهدف الصهيوني في “إسرائيل الكبرى” إنما هو تمهيد للمجيء الثاني للمسيح “حرفيًا” لمدة ألف عام.
ويكفي أن نعرف أن مقولة: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، هي مشروع “بروتستانتي صهيوني” قدم إلى مؤتمر لندن (عام 1840)، وأن أول جماعة ضغط صهيونية قامت في الولايات المتحدة الأمريكية، قد أسسها رجل ديني بروتستانتي هو “بلاكستون” (عام 1887)، لصالح إقامة دولة يهودية في فلسطين.
بل إن ما يزيد الأمر وضوحًا، هو ما يطلق عليه “معركة هرمجدون”، ذلك الخيال الأسطوري الذي استطاع الفكر الصهيوني من خلاله أن يوجد قاسمًا مشتركًا بين “الصهيونية اليهودية” و”الصهيونية المسيحية”… يتبع.