الدقائق تمر سراعا.
خديجة في حيرة من أمرها: هل تسافر اليوم الجمعة للم شملها مع عريسها الذي ينتظرها بلهفة في لندن أم لا؟
وأخذت تتلفت هنا وهناك تراقب المسافرين والمودعين، وهي تقف أمام صالة السفر في مطار القاهرة وأهلها متحلقون حولها.
هذه أول مرة تركب فيها خديجة طائرة.
مازالت لا تستطيع السيطرة على رعشة ألمت بأطرافها منذ أن نزلت من سيارة أخيها أبو بكر أمام باب الصالة الكبير، وسط حشود المودعين. فرائصها ترتعد من السفر .. من السيارات .. من القطارات .. من الطائرات، إنها جميعا نذر للموت.
خلا رأسها من كل شيء إلا كوارث الطيران: تحطم طائرة ركاب في البلد الفلاني .. وسقوط طائرة مدنية في كذا .. ووفاة جميع ركاب طائرة وطاقمها .. واختفاء طائرة بجميع ركابها قبل …
اليوم الجمعة .. في الجمعة .. يقولون .. ساعة نحس .. هل يمكن أن تسقط الطائرة .. تهوي في البحر .. تتحطم .. ويغرق جميع الركاب.
إن كان هذا قدري، فهل أستطيع الهروب منه؟ لا مهرب من قدر مكتوب. عليّ أن أرضى بما كتبه الله لي، وإلا دخلت دائرة الكفر والعياذ بالله. أنا إن شاء الله، وبفضل الله، مؤمنة، ولا أريد ضياع إيماني، لكنني جبانة .. أنا فعلا جبانة .. يتلبسني خوف لا حدود له كلما اضطررت إلى ركوب أي وسيلة من وسائل الموت تلك.
وهل هناك تعارض بين التوكل على الله .. والخوف .. أقصد .. والحذر؟ هذا شعور طبيعي لا يمكن كبته.
صوت الأم لما يزل ترن أصداؤه في رأس خديجة ..
”أنت وأختك يا بنيتي هدية الله إلينا .. يجب علينا أن نحافظ عليكما ونحميكما .. أنتما ولدتما ضعيفتين، لا تتحملان أي عدوى أو أي مرض. ولا أريدكما أن تختلطا بالبنات الأخريات .. لا في المدرسة، ولا بعد المدرسة. انتبها وأنتما في المدرسة .. ابتعدا عن أي بنت تبدو عليها أعراض مرض .. كونا حذرتين وأنتما عائدتان من المدرسة .. لا تقطعا الطريق إلا عندما تكون الإشارة خضراء .. لا أحد يعلم المخبوء .. لو كنت أستطيع أنا، أو أبوك، لما تركناكما تخرجان وحدكما ولصحبناكما في كل مكان. أنتما هبة الله إلينا، أنتما واهنتان .. نحيفتان .. أنتما عصفورتان صغيرتان رجوناكما من الله فاستجاب دعاءنا .. أرجو أن أراكما إن شاء الله عروستين سعيدتين في عشيكما .. يا رب لا تحرمني .. يا كريم“.
كيف أترك أمي التي تخطت عتبات الخامسة السبعين، ولا تستطيع المشي أو الوقوف كثيرا؟ وهي دائما تحتاجني لأدفع لها الكرسي المتحرك الذي لا تستطيع الاستغناء عنه، بعد أن ألمت بها آلام الروماتيزم؟
ها هي بجانبي على الكرسي شبه مقعدة. كم أشفق عليك يا أمي، وقلبي ممزق لأني سأتركك.
وكيف أترك أبي الذي شارف على الثمانين؟ صحيح أنه مازال قادرا على المشي والحركة، بفضل الله، لكنه لا يستطيع رعاية أمي وهو في هذه السن.
هل أتركهما لزوجة أبو بكر، أخي الأكبر، التي لاحظت تأففها من أمي، لكنها تخفي تأففها بكلام معسول أمام أخي؟ هل ستوافق راضية على ترك بيتها، عندما أسافر .. أقصد إن سافرت .. لتعيش هي وولداها وأخي مع أمي وأبي؟ وهل سترعاهما حق الرعاية؟
وإن وقع المحظور .. ماذا سيفعلون من بعدي .. كيف سيتلقى أبي خبر موتي إن هوت الطائرة في البحر، وكيف سيكون رد فعل أمي، وماذا يفعل أخي أبو بكر، الذي زاد تعلقه بي بعد ذاك اليوم اللعين، كان أيضا يوم جمعة .. وبعد .. هبة الله؟
مالت خديجة بنصف جسدها الفارع كي تهمس في أذن أمها بصوت متهدج متحشرج:
خديجة: أمي .. أنا لا أريد .. أن .. أ .. أسا .. فر اليوم.
كانت الأم قد هيأت يديها لتحتضنها قبل دخولها صالة السفر، ففوجئت بما قالته. التفتت يمينا ويسارا منادية:
صفية: يا حاج عثمان .. يا حاج عثمان !
فدنا منها زوجها خطوات:
عثمان: خير يا صفية .. أنا هنا بجانبك؟
صفية: اسمع .. بنتك .. خديجة لا تريد أن تسافر!
عثمان: نعم؟ ماذا قلتِ؟
والتفت الأب إلى خديجة ثم اقترب منها:
عثمان: هل هذا صحيح؟ كيف؟ ولماذا؟
ارتبكت خديجة .. أخذت تتلجلج:
خديجة: بـ .. صراحة لا أستطيع ترك أمي ولا تركك يا أبي. وأنا .. أنا .. لا أريد السفر يوم الجمعة .. يساورني شعور جاثم بأن شيئا سيحدث للطائرة .. أنا .. أنا ..
لم يمهلها والدها بل قاطعها وقد علت قسمات وجهه حمرة وعاودته رعشة يديه:
عثمان: خديجة .. أنت في الخامسة والعشرين .. لست طفلة .. ونحن .. أنا وأمك وأخوك .. لسنا صغارا .. لم يغصبك أحد على الزواج، ولا على العريس، بل رحبت به وقلت إنه شاب متدين وطيب .. ماذا أقول لوالده الذي تربطني به علاقة حميمة منذ ثلاثين سنة؟ أقول له خديجة قررت أن تفسخ العقد .. وألا تسافر .. وشكرا لكم .. و .. تصبحين مطلقة بعد أن عقدنا قرانك؟
وأجهشت خديجة بالبكاء، ولم تعد تمتلك قدرة على لملمة جسدها الذي بدأ ينتفض:
خديجة: يا أبتي أنا لم أرفض ممدوح، كل ما أريده أن أرجئ السفر .. بعض الوقت ..
عثمان: وزوجك الذي ينتظرك في لندن؟ وهو من حجز لك التذكرة في هذا اليوم، وقد أعد كل شيء .. الشقة .. والأثاث ..
خديجة: أنا مخنوقة .. خائفة .. مرعوبة ..
عثمان: ماذا تقولين؟ خائفة؟ ابنتي خديجة التي درست في جامعة الأزهر، التي لا تفوت فرضا من فروضها، المؤمنة إن شاء الله ولا أزكي على الله أحدا .. تفكر بهذه الطريقة؟
خديجة: صورة هبة الله يا أبي لا تفارقني .. تذكرت كل شيء .. اليوم .. الشارع .. السيارة المجنونة .. السائق المتهور السكير .. صوتي وأنا أنادي عليها .. هبة .. هبة .. انتظري ..
ارتمت خديجة بين يدي والدها وانخرطت في بكاء مر ..
وغطت سحابة حزن رؤوس الجميع. لم ينطق عثمان بكلمة .. تحشرج صوته، وراحت الأم تبكي في صمت، وأخذ أبو بكر يمسح دموعه مطأطئ الرأس.
انتهك صوت الشرطي ستار الصمت والحزن:
”المسافرون يتقدمون .. المودعون .. من فضلكم أفسحوا المجال للمسافرين“.
وأخذ عثمان يربّت على ظهر ابنته ويمسح شعرها في رفق:
عثمان: الله يرحمها .. كانت زهرة .. ملاكا في العاشرة .. نحن لا ننساها يا خديجة .. لكن هذا أمر الله، ونحن .. نحن راضون بقضائه ونحمد الله أن سلمك .. أنت لنا .. ولو كانت هبة بيننا الآن لفرحت لك كثيرا .. ولدفعتك إلى الطائرة دفعا .. وكل منا له نصيب محدود في هذه الحياة يا خديجة .. لا يتجاوزه.
ورفعت الأم يديها إلى السماء ”ربنا يحميك ويبارك لنا فيك ويسعدك“.
وقالت خديجة في يأس:
خديجة: سعادتي هنا .. معكم .. أنتم لا تشعرون بما في صدري .. ارحموني .. اسمعوني .. مرة ..
وهنا اقترب عثمان منها وقبل رأسها في حنان:
عثمان: توكلي على الله يا بنيتي .. أنت عروس .. على مشارف حياة جديدة في بلد جديد .. وثقي أن الله سيكتب لك السعادة .. دعاؤنا حصن لك .. قولي يا رب ..
وقال أبوبكر بصوت هادئ وقد شابت وجهه ابتسامة:
أبو بكر: الوقت يمر يا خديجة .. سنفتقدك، فعلا سنفتقدك .. سنفتقد قلقك الدائم علينا جميعا ..
ومسحت خديجة دمعاتها ومالت مستسلمة خاضعة وهي تشعر لأول مرة أنها عاجزة على أمها وقبلت رأسها وانحنت على يد أبيها وقبلتها ثم احتضنت أبو بكر:
خديجة: ربنا يطمني عليكم جميعا .. ويستر .. ويجمعنا مرة أخرى على خير
وشدت خديجة حقيبتها في تلكأ ثم أظهرت جواز سفرها ودخلت صالة المسافرين، وغابت بين الأجساد والحقائب.
٢
مازالت خديجة تذكر ذلك اليوم .. كانتا هي وهبة الله، توأمها التي لا تفارقها، عائدتين من درس تحفيظ القرآن الأسبوعي في جمعية تحفيظ القرآن الكريم، الذي يشجعهما والدهما على حضوره بانتظام.
الطريق لم تبد مألوفة كعادتها، نسمات بهجة وثابة تقفز في الأجواء، والدكاكين في الشارع الضيق تبدو أوسع وأرحب وهي مفتحة الأبواب مرحبة بالقادمين. وعلت وجهي الشقيقتين ابتسامة سعادة، فقد أنهيتا دروس الأسبوع، وحضرتا درس تحفيظ القرآن، وغدا السبت ينتظرهما يوم سعيد. وعليهما أن يستيقظا مبكرتين استعدادا لرحلة إلى حديقة الحيوان وعدهما بها والدهما.
وسألت خديجة شقيقتها في تخابث ماذا تفكر أن تلبس غدا، وهل سيلبسان فستانين مختلفين. لم توافق هبة الله على تلك الفكرة لأن من يحب إنسانا يجب أن يلبس مثله. وتضاحكتا وهما تقفزان سرورا متشابكتي الأيدي في الطريق الذي بدأت تتسلل إليه خيوط عتمة الغروب شيئا فشيئا.
وسلت هبة الله يدها من يد خديجة فجأة وجرت لتعبر الشارع وهي تصيح ”بابا .. بابا“. وانتبهت خديجة فرأت والدها يخرج من دكان على الرصيف المقابل وهو يحمل بعض الأكياس.
في لمحة غطى ستار أسود الأفق .. وتجمد كل شيء أمام عيني خديجة الصغيرتين فلم تعد ترى للحظات إلا سوادا .. لحظات لكنها كانت طويلة .. مرعبة .. مخيفة .. وتسمرت خديجة في مكانها وهي تصرخ:
خديجة: هبة .. هبة .. هـ .. بـ بـ ـه
وانقشع الستار الأسود فجأة مع مرور شاحنة كبيرة كانت تجر مقطورة مغطاة بقماش أسود كئيب، وقد صم آذان المارة أصداء دوّى نفيرها وهي مسرعة وكأنها تسابق الريح.
لكن وحشة الطريق لم تنقشع .. فقد تكاثفت خيوط العتمة .. وتلفتت خديجة يمنة ويسرة باحثة عن هبة .. وعاودت النداء:
خديجة: يا هبة .. يا .. هبة؟
وألقت ببصرها المشتت إلى الجانب المقابل من الشارع .. ونظرت إلى الرصيف فلم تر أي خيط من خيوط فستانها الوردي .. لكنها وجدت أباها يجلس على الأرض وهو يضع كفيه على رأسه، وقد أحاط به ثلاثة أو أربعة رجال يحاولون مساعدته على الوقوف. وصرخت خديجة:
خديجة: بابا .. بابا ما بك؟
ولم تتمكن خديجة من عبور الشارع إلى الرصيف الآخر عندما همت بذلك، فقد غص الطريق بحلقة كبيرة من الناس، وتوقف مرور السيارات، وسمعت أصوات نفير سيارة إسعاف قادمة من بعيد يعلو ويعلو. ولمحت من خلال فرجة صغيرة في حلقة الواقفين ذيل فستان مريم على الأرض وقد لطخه الدم والطين.
أحست خديجة بقلبها يهوي في قاع صدرها، ودقاته تتسارع، وزاغ بصرها، لكنها ظلت تصرخ في صوت يخفت ثم يخفت حتى وقعت على الأرض مغشيا عليها:
خديجة: هبة .. بابا
٣
جرف تيار المسافرين خديجة فسايرته مستسلمة، وهي تحس بمرارة في حلقها، ولا تستطيع السيطرة على انتفاضة جسمها، لكنها تحاول إظهار تماسكها، وهي تلتفت يمينا وشمالا ذاهلة العينين ذابلة الشفتين.
وظلت خديجة صامتة حتى دخلت الطائرة وجلست في مقعدها. كان مقعدها بجوار سيدة كبيرة بدا من هيئتها وملبسها أنها إنجليزية. وحيت السيدة خديجة بعد أن جلست ففاجأتها لغتها العربية السلسة. لكنها لم ترد إلا بكلمات مقتضبة، فشعرت السيدة أنها قد تكون متعبة وتريد أن تخلد إلى الراحة وربما إلى النوم.
ومالت خديجة برأسها إلى النافذة الصغيرة وآثرت أن تغلقها. ثم غفت.
كان اليوم الجمعة، وهو اليوم نفسه الذي ولد فيه التوأمان خديجة وهبة الله.
قبل خمسة وثلاثين عاما تزوج عثمان وصفية، ورزقا في السنة الأولى بالشقيق الأكبر أبو بكر. كانت سعادتهما غامرة. ومازالت كلمات أبيها تتردد في رأسها.
”كنت وقتها أعمل مدرسا للغة العربية والتربية الإسلامية في مدرسة إعدادية في مدينة الفيوم، وكانت صفية تعمل أمينة لمكتبة المجلس البلدي هناك، وهي أكبر مكتبة عامة في المدينة. وكانت أمي رحمها الله تعيش معنا، فبيتنا – كما ترين – كبير ورحب، وقلوب المؤمنين أرحب. وكانت أمي ترعى أبو بكر خلال فترة غيابنا عن البيت. وكنا نطمع في أن يرزقنا الله ببنت، لكن الانتظار طال، وطال وطال.
وبعد عشر سنوات تقريبا اكتشفت صفية أنها حامل، دون أي ترتيب مسبق. ولما تأكدنا من الحمل سررنا به جدا. ولم نطمع في أن نعرف نوع الجنين، فهدايا الله كلها خير. وقبل الولادة بنحو ثلاثة أشهر تعثرت صفية على درج البيت ووقعت ثم أصيبت بنزيف. وتوقعنا وقتها أن تجهض الجنين. هرولنا إلى المستشفى، والخوف يتلبسنا، لكن الرجاء في لطف الله يدفعنا. وعقب الكشف قالت لنا الطبيبة لا بد من إنقاذ التوأمين بعملية قيصرية.
وبقدر سعادتنا بنبأ الحمل بتوأمين كان قدر خوفنا عليهما. وقلت للطبيبة وقتها إن التوأمين ما زالا في شهرهما السادس .. خديجين. أليس هناك خطر عليهما؟ فردت بسرعة: دعونا نحاول .. والأمر كله موكول إلى الله. لكن من واجبي أن أنبهكم إلى أننا لا نعرف إن كانا سيعيشان أم لا، فهما، غير مكتملين بعد، وسوف نضعهما في حضانتين .. والباقي على الله.
وبعد أن تأكدنا من عدم خطورة العملية على صفية قررنا إجراءها. وكانت فرحتنا لا تسعها دنيا عندما عرفنا أن التوأمين بنتان. كنا نطمح أن يرزقنا الله ببنت فأعطانا اثنتين. وقتها قررت أن أسميك خديجة، تيمنا باسم السيدة خديجة رضي الله عنها، وسمينا أختك هبة الله، لأنكما فعلا هبة من الله.
وواظبنا على الدعاء لكما ليل نهار، وظللنا أكثر من ستين يوما نذهب كل يوم .. كل يوم فعليا .. إلى المستشفى لمتابعة حالتكما. واستجاب الله دعاءنا، وكبرتما وملأتما بيتنا بهجة وسعادة. عشر سنوات يا بنيتي الحبيبة كانت كلها فرحا وسرورا، حتى أخذ الله وديعته .. استعاد الملاك الطاهر .. الذي أنعم به علينا .. ونحن راضون بقضائه .. والحمد لله أنك مازلت بيننا يا خديجة ومازالت تنعمين بفضل الله، وجاء اليوم الذي نودعك فيه إلى زوجك. من كان يتصور حدوث ذلك؟
إنها إرادة الله يا خديجة. وما زال دعاؤنا لك ولأخيك يحوطكما، فلمَ الخوف يا بنيتي! إن شاء الله ربنا سيسعدك ويمنحك ذرية صالحة، وساعتئذ ستعرفين مشاعرنا وأحاسيسنا“.
وانتبهت خديجة إلى صوت يناديها:
المضيفة: مدام .. أي مشروب تحبين؟
فاعتدلت في جلستها وطلبت عصير برتقال.
ولاحت منها نظرة إلى السيدة التي تجلس بجوارها:
خديجة: أعتقد أنك لست عربية .. لكن لغتك جيدة جدا؟
ماري: أنا إنجليزية .. لكني أعيش في القاهرة منذ عشر سنوات، وأدرس الإنجليزية في المركز الثقافي البريطاني، وكانت تلك السنوات فرصة لي لأتعلم العربية. وأنتِ، هل تعملين؟
خديجة: أنهيت تعليمي الجامعي لكني لم أعمل لأني أراعي أمي وهي سيدة شبه مقعدة وأبي وهو رجل مسن.
ماري: هل أنت مسافرة إلى لندن؟
خديجة: نعم .. وهذه أول مرة أركب فيها طائرة
ماري: سياحة؟
خديجة: لا .. كيف أترك والدي لأخرج في رحلة؟ للإقامة .. فعريسي يعيش في لندن.
ماري: أنت عروس؟
خديجة: هذا صحيح
ماري: ألف مبروك
خديجة: الله يبارك فيك
ترى كيف العيش في لندن؟ وهل تشبه لندن الأسكندرية، مثلا؟
زارنا ممدوح مرتين.
في المرة الأولى كان في إجازة لمدة أسبوع، وجاء مع والده، الذي كان زميلا لوالدي في مدرسة الفيوم الإعدادية، لكنه كان مدرسا للغة الإنجليزية، وورّث ابنه حب هذه اللغة التي لا أعرف منها سوى أحرف وأصوات وبعض الكلمات. أما هو فدرسها وتبحر في أدبها.
وفي المرة الثانية صحب والديه، وطلب مني أبي أن أصارحه برأيي فيه بعد أن عرض رغبته في الزواج مني. ولم أعترض.
رأيت فيه شابا وقورا .. متدينا .. حييا .. متواضعا جدا. وأتيحت لنا فرصة واحدة للخروج معا في صحبة الأهل، الذين تركونا وجلسوا حول طاولة مجاورة في النادي الأهلي. وارتحت في الحديث معه. كانت كلماته مطمئنة وواعدة بحياة وادعة يخيم عليها الود والرغبة في الاستقرار. وارتاح قلبي له لأن أسرته ليست غريبة عنا، وأباه صديق ودود لأبي.
اتفق أبي مع مأذون المنطقة فحضر إلى بيتنا وعقد قراننا بحضور أسرتينا فقط، لأن ممدوح كان متعجلا، وليس لديه وقت لدعوة عدد أكبر من الأهل والأقارب.
وظل ممدوح يحادثني كل يوم تقريبا .. ليطمئن علي .. وليخبرني بما جد في تأشيرة السفر، وتأسيس الشقة التي اشتراها حديثا بالتقسيط. وكنت فعلا أشعر كأني أعيش معه حياته يوما بيوم. واطمأننت له أكثر، وأحسست أني ملأت عليه حياته، حتى قبل أن أسافر إلى لندن. وهو أيضا شغل جزءا كبيرا من حياتي.
وهأنذا اليوم في الطريق إليه.
انتبهت خديجة إلى صوت قائد الطائرة يتحدث، لكنها لم تفهم من الحديث شيئا. سألت السيدة الإنجليزية، التي كانت منهمكة في قراءة كتاب بين يديها:
خديجة: متأسفة .. ماذا قال الرجل؟
التفتت إليها السيدة، وهي تتأكد من إحكام ربط حزام مقعدها، وأشارت إلى حزامها:
ماري: تأكدي من ربط الحزام لأن الطائرة تمر في منخفض جوي ..
ارتبكت خديجة ولم تعرف ماذا تفعل .. واضطربت يداها، وعلا وجهها شحوب ملحوظ .. وأخذت تردد:
خديجة: يا رب .. يا رب .. ربنا يستر
ولاحظت السيدة ما ألم بها فهدأت من روعها وأمسكت بيدها:
ماري: اطمئني يا بنتي .. لا تنزعجي .. هذا عادي جدا في الرحلات الجوية .. خمس دقائق ونخرج من المنخفض الجوي .. اطمئني.
خديجة: يا رب .. ربنا يسمع منك إن شاء الله.
ونصحتها السيدة بالاعتدال في جلستها، وسحب نفس عميق ثلاث مرات حتى تهدأ.
وأغمضت خديجة عينيها مستسلمة وأراحت رأسها على الكرسي ثم سحبت نفسا عميقا مرة ومرة. وأحست بالخدر في عيونها.
٤
”على السادة والسيدات الركاب البقاء في مقاعدهم حتى تتوقف محركات الطائرة تماما“
فتحت خديجة عينيها في ذهول، وتلفتت يمنة ويسرة فراعتها الحركة المفاجئة التي سرت بين الركاب. والتفتت إلى السيدة الإنجليزية مستنجدة:
خديجة: خير .. ماذا حدث؟
ماري: الطائرة وصلت لندن .. حمدا لله على السلامة.
خديجة: الله يسلمك .. الحمد لله .. الحمد لله .. انكتب لي عمر جديد.
ولم تفهم السيدة ما ترمي إليه خديجة التي بادرتها بالسؤال:
خديجة: أنا اسمي خديجة .. لكني لم أتعرف على اسمك!
ماري: أنا ماري .. ماري فرج الله.
خديجة: هل أنت متزوجة من مصري؟
ماري: نعم زوجي يعمل في الجامعة الأمريكية، ازوجنا من ثماني سنوات.
خديجة: أرجوك يا مدام ماري أن تظلي معي حتى نخرج فأنا لا أعرف شيئا هنا.
ماري: اطمئني يا ابنتي سأظل معك حتى أسلمك إلى العريس، وآخذ توقيعه.
وضحكت ماري وسمعت لأول مرة ضحكة خجولة من خديجة، التي أشرقت ملامح وجهها الأبيض بتباشير ارتياح وسرور.
وظلت خديجة تتمتم ”الحمد لله حمدا كثيرا يوافي نعمه“، وهي تتطلع من النافذة الصغيرة التي فتحتها فبرزت منها معالم مطار هيثرو، ورأت الطائرات منتثرة في كل مكان، وكثير منها مزدان بالعلم البريطاني على جوانبه.
وبدأ الركاب في النزول وتقدمت ماري خديجة حتى نزلتا من الطائرة.
بدت صالة الوصول طويلة وكأنها بلا نهاية .. وظلت خديجة تلاحق ماري كظلها تسير أينما سارت وتتوقف حينما تقف.
والتفتت ماري إلى خديجة وهي تبتسم:
ماري: هل تودين بعد أن أنهينا إجراءات التأشيرة وقبل أن نخرج إلى قاعة المستقبلين أن تنظري إلى زينتك ومكياچك قبل مقابلة العريس؟
خديجة: لا .. لا داعي
ماري: نصيحتي أن تفعلي، وهذا هو الحمام أمامك وسأنتظرك هنا.
وأحست خديجة كأن أمها هي من تخاطبها، فانصاعت لرأيها.
دقات قلبها تتسارع ..
في آخر مكالمة طمأنها ممدوح أن عشها الجديد .. الشقة التي ستضمهما، ستكون جاهزة لاستقبالها. فقد أنهى العمال إعادة طلاء الحيطان والأبواب، ولم يتبق سوى تركيب أجهزة المطبخ، وهذه لا يستغرق وضعها عند تسلمها إلا بضع ساعات.
خرجت خديجة من الحمام ورائحة عطرها تفوح وتتطاير من حولها، وإن كانت بعض أفكارها لما تزل عالقة برأسها.
ترى كيف ستكون الشقة .. والعمارة الكبيرة التي تقع فيها .. التي استفاض ممدوح في وصفها ومدحها والثناء على المنطقة التي توجد فيها؟
لكن الأهم كيف سيكون ممدوح .. زوجا .. وكيف ستكون حياتنا معا؟ وماذا أفعل عندما يتركني وحدي في الشقة كل يوم ليذهب إلى عمله؟ وكيف أتصرف إن احتجت شيئا .. إن حدث شيء .. إن وقع أمر طارئ، أو مصيبة لا قدر الله خلال تغيبه؟ وهل سيظل ممدوح يحبني ويحترمني؟ ماذا سيخبئ لنا الزمن؟
وأقبلت ماري على خديجة لما رأتها خارجة من الحمام:
ماري: ما شاء الله! الآن حان لقاء الأحبة.
كانت ماري متعجلة الخطى، بالرغم من كبر سنها .. ممشوفة القوام فارعة الطول .. نحيلة. ولعل نحافتها هي التي ساعدتها على خفة سرعتها.
وحاولت خديجة جهدها اللاحق بماري بيد أن ثقل الحقيبة التي تجرها، وطول فستانها الذي أربك مشيتها، وملاحقة غطاء رأسها الذي بدأ ينسل عن شعرها كل دقيقة، جعلها تتباطأ بعض الشيء.
”هذه أول مرة أقابل فيها ممدوح وحدي .. وقد جئت إليه برجلي .. وسأسلم له نفسي .. إنه زوجي .. زوجي على الورق .. وهو شاب طيب .. كما يبدو .. من أسرة صالحة مثل أسرتنا، هناك شبه بينه وبين أخي أبو بكر .. لكنه عاش في الغرب فترة من الزمن .. ترى .. هل سنحت له فرصة التعرف على إنجليزيـ .. ــة .. أو إنجليزيات .. طبعا هذا طبيعي إنه يعيش بينهم .. وبينهن .. لكن عمله مترجما في المحاكم والمستشفيات البريطانية يفرض عليه التعامل معظم الوقت مع العرب .. مع العربيات .. وهؤلاء .. ربنا يستر منهن! .. فهو وسيم .. ووقور .. وربما غشيم .. أنهى دراسته في كلية الآداب، ثم سافر إلى انجلترا .. لدراسة دبلومة في الترجمة هناك .. أقصد .. هنا .. وعاد إلى انجلترا مرة أخرى بعد حصوله على عمل.
أدارت ماري رأسها وهي تتقدمها:
ماري: أسرعي يا ابنتي .. لا بد أن العريس على نار
ابتسمت خديجة ولاحت أمامها بوابة ذات مصراعين ينفتحان وينغلقان بطريقة آلية كلما مر أمامها أحد.
أحكمت حجابها وتهيأت للقاء. وعندما اقتربت ماري من البوابة انفتح مصراعاها ولمحت خديجة ممدوح وكان يجيل بصره متفحصا القادمين. واقتربت منها ماري وهمست في أذنها:
ماري: أين هو العريس؟
تقدمت خديجة قليلا وأشارت إليه على استحياء وهي تلوح له بيدها بسرعة خاطفة، ووجهها يطفح حمرة. وانسل ممدوح من بين المستقبلين وتوجه إليها وفي عينيه نظرة استغراب حينما رأى سيدة إنجليزية تصحبها ولا تفارقها.
التفتت خديجة إلى ماري:
خديجة: ممدوح .. وهذه مدام ماري تعرفت عليها في الطائرة وساعدتني للوصول إليك.
ومد ممدوح يده محييا:
ممدوح: فرصة سعيدة مدام ماري وشكرا لك. اسمحي لنا بدعوتك على فنجان من القهوة إن كان لديك وقت.
ماري: ألف مبروك .. وأنا قبلت الدعوة لكن التنفيذ بعد شهر العسل
ممدوح: إذن هذا عنواني ورقم هاتفي
وناولها من جيبه إحدى بطاقات التعريف به.
توجهت ماري إلى محطة قطار الأنفاق في المطار وهي تلوح لخديجة
بيدها مودعة.
ومد ممدوح يده ليأخذ الحقيبة:
ممدوح: نورت لندن يا عروسة .. تسمحي لي بالحقيبة؟
خديجة: هل سنركب قطار الأنفاق؟
ممدوح: لا .. في الخارج سيارة أجرة تنتظرنا .. تفضلي
٥
فتح ممدوح باب السيارة لخديجة ثم ركب بعدها في هدوء. انتحت خديجة الجانب الأيسر من كرسي السيارة الخلفي ملتصقة بالباب وتركت بينها وبين ممدوح مسافة لم يحاول هو تجاوزها، وركن هو جسده إلى جانب السيارة الأيمن.
مازال الحياء يحكم تصرفاتها .. عليّ أن أذيب الكثير من الجليد .. فهذه أول مرة تسافر فيها خديجة وحدها .. ونحن لم نتعارف لفترة طويلة .. لكني أحمد الله أن رزقني إياها .. فهي بنت أسرة محترمة .. متدينة .. وذات أخلاق حميدة.
شتان بينها وبين بنات هذا الجنس الأبيض .. اللاتي تغص بهن الحانات والمقاهي والشوارع، ولا يبالين إن عرضن من أجسادهن أكثر مما سترن .. برودهن يبارع الدمى الجيرية الملساء التي تزدان بها نوافذ محال الملابس.
التفت إليها ممدوح:
ممدوح: كيف حال والديك وأبو بكر؟
خديجة: الحمد لله .. بخير .. يعز علي والله فراقهم.
ممدوح: هذه سنة الحياة .. على كل منا يوما ما أن يستقل بحياته ويبني عشه.
خديجة: إلى أين نحن ذاهبون؟
ممدوح: إلى الفندق.
خديجة: الفندق؟
ممدوح: للأسف .. بعض أدوات المطبخ .. الغسالة والثلاجة .. تأخر تسلمها وستركّب اليوم .. وغدا بإذن الله نذهب إلى الشقة.
خديجة: إن شاء الله.
ممدوح: لماذا تجلسين هكذا .. بعيدا عني؟
خديجة: لا تؤاخذني .. هذه أول مرة في حياتي أركب فيها سيارة مع رجل غريب.
ضحك ممدوح واقترب منها ومد يده وأمسك بيدها:
ممدوح: أنا زوجك يا خديجة .. أنا لست رجلا غريبا .. أنا ..
فقاطعته هامسة:
خديجة: ممدوح .. السائق قد ينتبه لحديثك!
ممدوح: إنه إنجليزي .. لا يفهم العربية .. وهو إن عرف أننا متزوجان لضحك على تصرفنا .. وربما ظن أننا متشاجران.
وابتسمت خديجة وحاولت تخليص كفها من يد ممدوح لكنه تمسك بها في رفق. واستسلمت .. في بطء بدأت رعشة خفيفة تسري من يدها إلى جسدها .. أحست بخدر يداعب رأسها فأغمضت عينيها لبرهة.
ارتسمت أمامها صورة أمها وأبيها وأبو بكر .. وانتبهت فجأة على هاجس أقلقها فأفلتت يدها من يد ممدوح.
لماذا لم يتصل أبو بكر ليطمئن على وصولي، لماذا لم يتصل أبي، وهو يعرف رقم هاتف ممدوح المحمول؟ هل أصابهم شر .. هل حدث شيء .. لا قدر الله؟ هل وصلوا البيت من المطار بسلام؟ هل تعب أبي فجأة .. أو وقعت أمي .. هل اصطدمت سيارة أبو بكر خلال رحلة العودة؟
وأدارت وجهها إلى ممدوح:
خديجة: أنا قلقة على أهلي .. يا ممدوح .. ليس من عادتهم ألا يطمئنوا عليّ ..
أخرج ممدوح هاتفه المحمول وضرب رقما يبدو أنه يحفظه عن ظهر قلب.
ممدوح: السلام عليكم .. أنا ممدوح .. نحن بخير والحمد لله. أحببت أن أطمئنكم أن خديجة وصلت بالسلامة وكنت في استقبالها ونحن الآن في السيارة في طريقنا إلى الفندق. .. دقيقة واحدة .. من فضلك .. عمي عثمان يا خديجة.
تناولت خديجة الهاتف في لهفة وشوق:
خديجة: أبي حبيبي .. لك وحشة .. وكيف حال أمي؟ هل أنتم جميعا بخير؟ هذا من فضل الله. أنا آسفة لما سببته لكم في المطار .. أهلا ماما .. أهلا حبيبتي .. أنا بخير، الحمد لله .. والله أحس أني غبت عنكم سنين .. سلامي لأبو بكر .. عندما يعود إن شاء الله. مع السلامة.
توقفت السيارة أمام مبنى ضخم تتوسطه بوابة كبيرة مزدانة بقضبان من الذهب، ويقف أمامها حارسان يلبس كل منهما بذلة أنيقة وربطة عنق حمراء. وبعد وقوف السيارة سارع السائق إلى إنزال الحقيبة. ووقفت خديجة مشدوهة عدة ثوان فالتفت إليها ممدوح منبها:
ممدوح: خديجة .. ماذا تنتظرين؟
خديجة: العامل ليأخذ الحقيبة
فتبسم ممدوح وشد الحقيبة متقدما إلى بهو الفندق:
ممدوح: كل واحد يساعد نفسه هنا ..
كانت الغرفة في الطابق العاشر وكانت تطل على نهر الـ”تيمس“ الذي يقطع لندن من الشرق إلى الغرب.
سألت خديجة ممدوح بعد أن دخلت الغرفة:
خديجة: في أي دور نحن يا ممدوح؟
ممدوح: في الدور العاشر ..
كانت خديجة تتقدم ببطء نحو باب الشرفة، لكنها توقفت بعد سمعت كلام ممدوح، ووقفت بعيدا عن الباب. وقالت في تردد:
خديجة: هل يمكن أن نغير الغرفة؟
ممدوح: لماذا؟ المنظر من هنا رائع .. تعالي ..
وسارع ممدوح إلى الباب ليفتحه فأمسكت بيده:
خديجة: أرجوك .. لا تفتحه .. أنا أخاف من الأماكن المرتفعة. وبصراحة أخاف عليك أيضا .. الشيطان شاطر
وحاول الإمساك بيدها لكنها فرت مرتعبة.
خديجة: إن كنت تعزني غيّر الغرفة من فضلك .. أرجوك.
ممدوح: لماذا يا خديجة؟ هذه الغرفة سعرها في الليلة أكثر من الغرف في الأدوار المنخفضة. وبصراحة نحن في موسم سياحي وتغيير الغرف صعب الآن. تعالى .. اجلسي هنا .. نحن الآن بعيدون عن أي خطر، إن كنت ترين في هذه الشرفة الرائعة خطرا. احكي لي .. بماذا تشعرين .. ما الذي يفزعك.
خديجة: بصراحة الأماكن المرتفعة وشرفاتها تذكرني بجارة لنا
ممدوح: ما حكايتها تلك الجارة؟
خديجة: كانت تسكن في الدور الثامن وتركت ابنتها تلعب بينما كانت هي تسامر صديقة جاءت لزيارتها في الغرفة بعيدا عن الشرفة .. وفجأة سقطت البنت من الشرفة .. ووقعت على الأرض .. ميتة .. كانت في الخامسة من عمرها.
ممدوح: خلينا نفكر بالعقل يا خديجة .. هل معنى هذا أن كل من وقف في غرفة في دور مرتفع سيسقط منها ويموت؟ كم إنسانا سقط من شرفة في دور عال؟
خديجة: أنا لا أحب الجدل ياممدوح .. وعليك أن تحمد الله أني وافقت على السفر اليوم والمجيء اليوم. فكرت فعلا في تأجيل السفر لولا تدخل والدي.
ممدوح: تأجيل السفر؟ ماذا تقولين يا خديجة؟ لماذا؟
خديجة: أنا لا أحب سفر يوم الجمعة .. أتشاءم .. يقولون إن فيه ساعة نحس.
ممدوح: لا حول ولا قوة إلا بالله .. نحس في الجمعة! .. هذا كلام لا أساس دينا ولا علميا ولا منطقيا له، وكيف قال لنا الله ”فاذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله“. هل يعني هذا أن الله يدفعنا إلى النحس؟ استغفر الله.
خديجة: بصراحة .. لا أعرف .. هذا ما سمعته .. وأنا إنسانة حذرة، ومن خاف سلم من الأذى والضرر.
ممدوح: أنا لا أريد أن أطيل النقاش الآن .. لكن دعيني أقول لك .. ما يدور في رأسك يا خديجة بصراحة أوهام .. لا وجود لها في الواقع .. موجودة في رأسك أنت فقط .. وإن ظللت تفكرين بهذه الطريقة فسوف تزداد أوهامك وتكبر وقد تضرك. سأعطيك عندما نستقر كتابا رائعا لتقرئيه. عنوانه ”السر“.
خديجة: ما هذا ”السر“؟ عم يتحدث؟
ممدوح: خلاصته تقول ”نحن من نجلب لأنفسنا الشر أو الخير .. لدينا قوة قاهرة يسميها الكتاب قوة الجذب .. إن فكرنا في مصيبة فقد تحل بنا .. وستظل عقولنا ملآى بالأفكار السيئة التي تجلب لنا كل سوء ولن يتغير حالنا حتى نغير تفكيرنا .. وإن فكرنا في الثروة مثلا فسوف تأتينا .. وسوف نجلبها لأنفسنا وسنظل نفكر في الأفكار الجالبة لها ..“ ثم لماذا نبعد عن ثقافتنا .. مازلت أذكر ما علمني إياه أبي وكم غفلت عنه ”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم“. .. علينا الآن أن نرتاح قليلا لننزل إلى المطعم لتناول العشاء.
وظلت خديجة جالسة في مكانها دقائق تفكر فيما قاله ممدوح .. ثم قامت إلى الحمام وعندما عادت سألت ممدوح عن القبلة، فأشار إلى السقف فوجدت علامة تشير إلى مكانها وأخرجت من حقيبتها سجادة للصلاة. وانتبه ممدوح واقترب من خديجة قليلا ثم همس:
ممدوح: بعد الانتهاء من الصلاة اتركي السجادة حتى أصلي العشاء أنا أيضا بعد إتمام الوضوء.
لم يكن المطعم مزدحما .. اختار ممدوح طاولة في الركن الأيمن بالقرب من شرفة المطعم الكبيرة، التي لاحت منها أضواء متشابكة الألوان والأشكال.
ونظر إلى خديجة:
ممدوح: كم كنت أنتظر هذا اليوم يا خديجة .. عشت فترة وحيدا .. حياة باردة لا دفء فيها .. عمل وعمل وأكل وشرب ومقابلات لكن بلا طعم. اليوم أشعر لأول مرة أن لحياتي هدفا.
كانت خديجة مطأطأة الرأس، وهي تسمع كلمات ممدوح، وأصابعها تلامس ڤازة صغيرة على الطاولة بها وردتان حمراوان صعودا وهبوطا في حركة لا إرادية وهي شاردة.
خديجة: في أي منطقة في لندن نحن الآن؟
ممدوح: نحن تقريبا في غرب لندن .. العاصمة فعلا جميلة في المساء
خديجة: هل الناس هنا طيبون؟
ممدوح: هم ودودون ومهذبون جدا في تعاملهم .. إن شاء الله ستعرفينهم عن قرب عندما تتعلمين اللغة .. وحينما تعملين.
خديجة: أنا فعلا متلهفة لتعلم اللغة الإنجليزية .. حتى آمن شرهم .. لكن ماذا أعمل هنا .. ما الوظيفة التي تناسب متخرجة في قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر؟
ممدوح: ما زال الحديث عن هذا مبكرا .. لكني سأسعى إلى تدبير وظيفة لك .. بعد أن تتقني اللغة، في المركز الإسلامي .. في الإدارة .. وأنا والحمد لله أعرف عددا من المسؤولين هناك.
خديجة: ما شاء الله عليك .. يبدو أن لك صلات كثيرة
ممدوح: الحمد لله، أنا أحب عملي .. وأحب الناس .. لكن الليلة أحس أنك أنت أصبحت مركز هذا الحب كله وبؤرته ..
احمر وجهها .. وأدرات رأسها. ومد ممدوح يديه وأمسك بيديها:
ممدوح: لا خجل بين الزوجين يا خديجة .. وأنت ماذا تحبين .. هل لديك هوايات .. طموح .. مشروعات للمستقبل؟
خديجة: متعلقة كثيرا بأهلي .. وأقلق كثيرا عليهم .. وأحب القراءة .. قراءة الروايات .. ومغرمة بالطبخ .. ومشروعي للمستقبل هو نجاح علاقتنا .. والمثال الذي أمامي هو زواج أبي وأمي .. وربنا يبارك لي فيك
ممدوح: والأولاد؟
خديجة: أحب أولاد أبو بكر جدا .. هم غرامي بعد أبي وأمي .. ربنا يرزقنا إن شاء الله، هؤلاء هبات من الله، كما تقول أمي.
اقترب منهما النادل وحياهما وتولى ممدوح أمر الطلبات.
أحس ممدوح بسريان الدفء بينه وبين خديجة. بدأت أساريرها تبتهج، وأخذت تقترب منه وهما يسيران جنبا إلى جنب. وتأبطأت ذراعه وهما عائدان إلى الغرفة. استغل ذلك الدفء .. وما إن اقترب مصراعا المصعد من بعضهما عندما أغلقه حتى ضمها إلى حضنه وكانت رحلتهما من الدور الثاني إلى الدور العاشر فرصة ذهبية. ولامس ممدوح بيد رقيقة خديها ثم مال بوجهه إلى وجهها فاختلطت أنفاسهما الدافئة المتسارعة وطبع قبلة على وجنتها.
كان ممدوح مدركا لما تواجهه خديجة: فهي أول مرة تسافر وحدها، إلى بلد غير عربي، لتبدأ حياة جديدة مع رجل لا تعرف عنه الكثير، ولم تعاشره من قبل، ولم تلتق به سوى لقاءات معدودة في صحبة الأهل. ولذلك عزم على أن يدع علاقاتهما تنمو بطريقة طبيعية سلسة تربتها ألفة يراعيها، وسقياها دفء وحب في كلامه وفي سلوكه.
بعد أن لبس بچامته اتكأ على سريره متفحصا هاتفه المحمول. وكانت خديجة تجلس على طرف السرير الآخر غارقة في التفكير.
الحمد لله .. بعض الخوف كان يسكن ضلوعي .. الخوف من تغير ممدوح عندما ينفرد بي في الغربة .. لكن خوفي منه تحول الآن عندما رأيته إلى خوف عليه.. فهو كما بدا لي من تصرفاته يحبني ويسعى إلى الاستقرار في حياته معي. وبدأ حبي له ينمو في قلبي وأخذت فروعه تنبت في صدري. يا رب .. بارك لي فيه .. فهو سندي هنا .. كم أود الآن أن أحتضنه وأتدثر بجسمه .. وأن يلفني بذراعيه .. علي أن أطرد هذا الخوف القاتل الذي يصور لي الدنيا كأنها ذئاب جوعى تريد نهشي ونهش من أحب: أبي .. وأمي .. وأخي .. وزوجي .. وماذا فعلت لها .. لم أفعل شيئا .. أو .. ماذا فعلت أنا في نفسي، كما يقول ممدوح؟
على أن أتغير .. أن أساند ممدوح وأعينه .. لا أن أضيف إلى عنائه عبئا جديدا .. هل ما قاله ممدوح صحيح؟ هل أنا التي تجلب الخوف والقلق والحذر لنفسي؟ .. كم أعطاني الله دروسا بيد أني لم أعتبر .. ولدت طفلة خديجة وسلمني الله .. وكتب لي عمرا جديدا .. وركبت الطائرة .. ولم تسقط في البحر .. كما كنت متوهمة .. ماذا أنتظر؟
التفتت بنظرة حانية إلى ممدوح .. ثم مالت نحوه ومنحته قبلة خاطفة:
خديجة: تصبح على خير
ممدوح: وأنت من أهل الخير حبيبتي
وبادلها قبلة بقبلة، وأطفأ الأضواء.
ومرت ساعات من الليل ..
في نومها رأت أمها تناديها .. فسارعت إلى غرفتها في بيتهم الكبير والخوف يقتلها .. فقالت الأم لها ابتعدي عن النيران يا خديجة .. ابتعدي .. أمسكي يد ممدوح .. قولي له يبتعد .. النيران .. النيران. وردت خديجة في فزع: أين هي النيران يا أمي؟ فقالت الأم وهي تشيح بوجهها: هناك .. بجوار الحديقة .. لكن ربنا سلم .. ربنا سلم.
وهبت خديجة مذعورة من نومها، وهي تتمتم: أمي .. أمي
اقترب منها ممدوح ومسح على رأسها:
ممدوح: خديجة .. خديجة هل أنت بخير؟ اللهم اجعله خيرا
خديجة: أمي .. خائفة عليها .. رأيتها تحذرني .. من النيران
ممدوح: إن شاء الله خير، أضغاث أحلام، لا تقلقي يا حبيبتي.
ومرت دقائق .. واعتدل ممدوح في نومه:
ممدوح: تصبحي على خير يا خديجة .. علينا أن نأخذ قسطا من النوم لأن أمامنا يوم حافل.
خديجة: تصبح على خير .. ربنا يستر.
٦
على مائدة الإفطار في مطعم الفندق جلسا جنبا إلى جنب شبه متلاصقين تداعب البهجة وجهيهما. والتفتت خديجة إلى ممدوح:
خديجة: هل سأرى اليوم شقتنا الجديدة بإذن الله؟
ممدوح: إن شاء الله .. وعدني المهندس الذي يشرف على تجديدها بذلك .. وأكد لي أن كل شيء .. قال فعلا .. كل شيء سيكون في مكانه يوم الجمعة، ونحن اليوم السبت .. انتظري قليلا ..
وتفحص هاتفه المحمول ثم ابتسم:
ممدوح: الحمد لله .. هذه رسالة منه أرسلها لي في وقت متأخر بالأمس بعد العاشرة مساء يبلغني فيها أن كل شيء تمام
خديجة: الحمد لله .. ومبروك .. ربنا يجعلها قدم سعد علينا
ممدوح: يا رب يا خديجة .. يعلم الله كم كلفتني، وكم أرهقتني. على فكرة .. لدي شقة أخرى صغيرة مكونة من غرفة نوم وصالون كنت أسكن فيها في بدايات عملي هنا. وهذه الشقة التي جددتها مازلت أدفع أقساطها، لكني لم أرد لك أن تدخلي شقة قديمة، فأنت تبدأين حياة جديدة، ويجب أن يكون كل شيء جديدا .. وفعلا كل ما في الشقة جديد .. الحيطان .. والطلاء .. والأبواب .. والأثاث .. والأدوات .. عادت عروسا كما كانت أول مرة .. لأحلى عروس عندي ستزينها.
خديجة: ربنا يعوضك خيرا عن كل قرش صرفته فيها إن شاء الله.
ممدوح: الشقة في عمارة مبنية قبل فترة غير بعيدة، بها ٢٤ طابقا، وهي في وسط لندن في حي راق نوعا ما. وهي واحدة من أربع عمارات أخوات بنيت في الوقت نفسه. والحمد لله أن عددا كبيرا من الجيران من العرب، فلن تحسي بأي غربة إذا أجبرتني الظروف وتركتك وحدك في الفترة الأولى.
خديجة: هذا سيخفف عني ألم الغربة.
ممدوح: الآن هيا بنا نحزم حقيبتنا ونتوكل على الله. إلى عش خديجة وممدوح الجديد.
خديجة: هيا بنا.
وركب ممدوح وخديجة السيارة التي كانت تنتظرهما أمام باب الفندق. وقال ممدوح للسائق باللغة الإنجليزية:
ممدوح: برج جرينفيل من فضلك
السائق: برج حي كنزينجتون؟
ممدوح: نعم.
أخرج ممدوح مجموعة مفاتيح وأعطى اثنين منها لخديجة:
ممدوح: احتفظي بهذين المفتاحين معك فربما تحتاجين إليهما. هذا المفتاح الأبيض هو مفتاح باب البرج الرئيسي. أما هذا الأصفر فهو مفتاح الشقة .. الشقة رقم ١٧ في الدور الرابع.
خديجة: شكرا حبيبي
وراح ممدوح يحكي لخديجة قصة شراء الأثاث وكيف ساعده الحظ كثيرا، وكيف كانت أمور تجهيز الشقة فعلا ميسرة.
أحس ممدوح أن السيارة لا تسير في الشوارع المعتادة، بل اتخذ السائق مسارا شعر معه كأنه يريد تطويل الطريق .. فتغاضى عن ذلك احتراما لخديجة التي كانت تتابع الطرق والمحال متلهفة إلى ساعة الوصول.
وبدأت السيارة تدخل الحي فدهش ممدوح من زيادة غير معتادة لمرتاديه .. جماعات قادمة .. وجماعات ذاهبة، وفي أيدي بعضم مجموعات من الورود، وكأنهم كانوا يحجون إلى مزار، ثم توقفت السيارة عند حديقة كبيرة. فتعجب ممدوح:
ممدوح: لماذا توقفت، هل الطريق مغلق؟
السائق: حضرتك من الحي؟
ممدوح: نعم
السائق: لم تعرف بما حدث أمس؟
ممدوح: ماذا حدث؟ أثرت قلقي.
السائق: عموما .. تفضل حضرتك وشاهد بنفسك لأني لا أستطيع الوقوف طويلا .. الوقوف هنا أصبح ممنوعا.
ممدوح: شكرا لك تفضل الحساب. تعالي يا خديجة.
نزلا من السيارة .. المكان معبأ بدخان كثيف .. أسوار المباني تغطيها ضمات ورود كثيرة، ومع كل ضمة بطاقة .. على الحيطان صور لبعض الناس تحيط بكل صورة كتابات وتوقيعات وعلى بعضها أشرطة سوداء.
ورفع ممدوح رأسه فرأى الأبراج الثلاثة الأخرى. ومد بصره بعد أن سار قليلا تجاه برج جرينفيل، فلم يره.
رأى برجا متفحما، مازالت أعمدة صغيرة من الدخان تخرج من نوافذه من كل جانب. وتجمد ممدوح في مكانه. وتحول وجهه إلى خارطة يغطي معالمها الذهول.
ولم يستطع الوقوف فارتمى على الأرض:
ممدوح: يا الله .. يا الله .. لا حول ولا قوة إلا بالله
وقفت خديجة حائرة لا تدري من الأمر شيئا:
خديجة: ماذا حدث يا ممدوح
ممدوح: البرج .. العمارة .. البيت .. الشقة .. التكاليف .. كله احترق .. تفحم.
خديجة: ربما سلم بعض الأدوار .. تعال نسأل حتى نطمئن.
ومدت يدها إليه وأخذته وسار قليلا حتى وقفا عند بائع جرائد:
ممدوح: ماذا حدث يا سيدي؟
بائع الجرائد: بالأمس اشتعلت النيران في البرج والتهمته ..
ممدوح: في أي ساعة ..
بائع الجرائد: في الساعة الثانية عشرة وخمس وخمسين دقيقة
ممدوح: هل قتل أحد؟
بائع الجرائد: سبعة وسبعون من السكان .. كان كثير منهم نائمين
ممدوح: وما السبب .. هل تعرف؟
بائع الجرائد: الشرطة قالت إن ماس كهربائي في إحدى الشقق هو الذي تسبب في إضرام النيران في البناية.
ممدوح: في أي دور تلك الشقة؟
بائع الجرائد: لا أدري حقيقة .. يمكنك أن تسأل الشرطي الذي يقف هناك أمام البرج من بعيد.
مازال ممدوح يردد: ”لا حول ولا قوة إلا بالله“، ودقات قلبه تسابقه إلى مكان الشرطي.
”هل هناك أمل في أن تكون شقتنا قد نجت من الألسنة النيران؟“
اقترب من الشرطي وحياه:
ممدوح: عذرا .. أنا أحد سكان البرج، لكني كنت أبيت في مكان آخر أمس، هل يمكن أن تساعدني؟
الشرطي: طبعا .. هل تذكر رقم شقتك؟
ممدوح: ١٧
الشرطي: في الدور الرابع؟
ممدوح: صحيح
الشرطي: هل كان في الشقة شغل، وتجديد؟
ممدوح: صحيح، كل شيء جددته
الشرطي: ومتى ركبت أجهزة المطبخ الكهربائية
ممدوح: أظن أن المهندس ركبها أمس في وقت متأخر، ولهذا اضطررت أنا وزوجتي إلى المبيت في الخارج.
الشرطي: عوضك الله خيرا يا أستاذ؟
ممدوح: ماذا تقصد؟
الشرطي: البرج بشققه جميعا احترق ودمر، بسبب ماس كهربائي في شقة .. ١٧ بحسب التحريات الأولى.
ممدوح: وامصيبتاه .. عوضي على الله .. عوضي على الله
اقتربت خديجة منه واحتضنته .. وهو مازال يهذي ”كيف“، و“لماذا“، و”من“ المتسبب؟
شدته خديجة مبتعدة به قليلا، وراحت تقبله.
خديجة: ممدوح .. حبيبي .. علينا أن نحمد الله أن الشقة لم ينته تجهيزها يوم الجمعة .. وإلا كنا من بين المنكوبين. علينا أن نحمد الله أنا بتنا في الفندق. هذا من لطف كبير من الله بك وبي
ممدوح: عوضي على الله .. فيما أنفقت.
خديجة: الحمد لله أنك بخير يا حبيبي .. أنا الآن أدركت أننا – أنت وأنا – كتب لنا عمر جديد.
وهنا جاءه الشرطي وهمس في أذنه منبها إلى أن القسم سيرسل إليه إشعارا لاستجوابه استكمالا للمحضر.
