رؤى

زهرة المدائن (20): القدس.. وأسطورة معركة “هرمجدون”

من النافل القول إن عقيدة المجيء الثاني للمسيح هي من العقائد المهمة في الديانة المسيحية؛ إذ، تعتبر إحدى الأركان الأساسية للإيمان، كما أن توقع المجيء الثاني للمسيح من أهم موضوعات الإنجيل، وكل مسيحي العالم يؤمنون بهذه العقيدة، إلا أن الاختلاف يقع في كيفية تفصيلات هذا المجيء.

وقد كان هذا الاختلاف من أهم العوامل التي ساعدت الصهيونية على النفاذ من خلاله، لتقنع بعض المسيحيين بأن عودة اليهود إلى فلسطين، وتأسيس دولة إسرائيل، والوصول إلى الهدف الصهيوني في “إسرائيل الكبرى”، إنما هو تمهيد للمجيء الثاني للمسيح “حرفيًا” لمدة ألف عام.

معركة “هرمجدون”

ويكفي أن نعرف أن مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، هي مشروع “بروتستانتي صهيوني” قُدِم إلى مؤتمر لندن عام 1840، وأن أول جماعة ضغط صهيونية قامت في الولايات المتحدة الأمريكية، كان قد أسسها رجل ديني بروتستانتي هو “بلاكستون” عام 1887، لصالح إقامة دولة يهودية في فلسطين. بل إن ما يزيد الأمر وضوحًا، هو ما يطلق عليه “معركة هرمجدون” ذلك الخيال الأسطوري الذي استطاع الفكر الصهيوني من خلاله أن يوجد قاسمًا مشتركًا بين “الصهيونية اليهودية” و”الصهيونية المسيحية”.

وهذه المعركة، هي معركة يعتقد المسيحيون “المتهودون” أنها ستقع في سهل مجدون بين القدس وعكا، وأن التنبؤ بها ورد في أسفار حزقيال ويوحنا ويوشع، وهي تقول: إن قوات الكفار من “المسلمين” و”الملحدين” سوف تُدَمَرْ فيها، إلى أن يظهرَ المسيح فوق أرض المعركة، ويرفعَ المؤمنين به ويخلصَهم من الدمار، وبالتالي يحكم العالم لمدة ألف عام تقوم بعدها القيامة.

النكبة
النكبة وقيام دولة إسرائيل

وتؤمن “المسيحية الأصولية الغربية” بأن هذه المعركة تسبقها ثلاث علامات: الأولى قيام إسرائيل، وهذا حدث عام 1948، فاعتبروا ذلك أعظم حدث في التاريخ، ومصداقا للنبوءة الدينية. والثانية احتلال القدس، حيث إنها تمثل المقر المفترض لحكم المسيح العائد للعالم، ولذلك تواصلت ضغوط الحركة الأصولية الأمريكية للاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل (وقد استجاب الكونجرس لذلك بالفعل، منذ أبريل 1990) والثالثة إعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى، وقد وضعت خريطة الهيكل الجديد فيما تتواصل الحفريات تحت المسجد بحجة البحث عن آثار يهودية مطمورة.

التحالف الأصولي

في هذا السياق “الخيالي ـ الأسطوري” استطاع الفكر الصهيوني أن ينشئ التحالف بين إسرائيل “الدولة اليهودية” وبين الحركة المسيحية “الأصولية الغربية”.

ولأن الخلافات بين اليهودية والمسيحية “البروتستانتية الأصولية” هامشية، أو يمكن تهميشها، ولأن رؤية كل منهما لإسرائيل وللأرض الموعودة لليهود في فلسطين تتسم بكونها “رؤية أسطورية غيبية” فقد عملت الحركة الصهيونية، وإسرائيل، على تمتين النزعات الصهيونية، ضمن الحركة البروتستانتية الأصولية الأمريكية؛ بل أصبح اهتمام الصهيونية وإسرائيل بالقوة الصاعدة والمتنامية للمسيحية الأصولية أكثر من مجرد اهتمام لاهوتي أو أكاديمي، ليتعداه إلى حالة من التكالب لكسب الأصدقاء والحلفاء في الولايات المتحدة الأمريكية.

ولعل انتصار إسرائيل في “حرب يونيو 1967” واحتلالها مدينة القدس، كان لهما أكبر الأثر في تقوية الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية. فكان أن خرج هذا الجناح إلى حقل العمل السياسي، ليشكل ـ ولأول مرة في تاريخ المسيحية الغربية ـ قوة سياسية دولية ذات نفوذ واسع، تمثل أصولية “صهيونية مسيحية”؛ وهي القوة السياسية الأولى، في تاريخ عقيدة الملك الألفي، التي يتاح لها أن تفرض نفوذها على قطاع كبير من النظام السياسي الأمريكي.

طرد السوريون من الجولان بعد النكسة
النكسة

وقد كان ذلك مقدمة أساسية لما سيحدث في الولايات المتحدة الأمريكية، بدءًا من النصف الثاني لسبعينيات القرن الماضي منذ عام 1976، وهو العام الذي يمكن اعتباره بداية نهوض الحركة المسيحية الأصولية كعامل سياسي رئيس، وكعلامة فاصلة في تزايد قوة هذه الحركة من حيث  العدد والإمكانية والتأثير.

عوامل مساعدة

ويرجع ذلك إلى عاملين: الأول، تزايد توجه الرأي العام الأمريكي أو معظمه نحو الكنيسة، وما تطرحه من قيم وتقاليد، وذلك في مواجهة فيتنام وهزائم سياسية تمثلت في فضيحة “ووتر جيت” والتي أسقطت الرئيس نيكسون عام 1974، وبدا المجتمع وكأنه يبحث عن قيادة تخلصه من هزائمه العسكرية وفضائحه السياسية.

والثاني، وصول أحد أبناء الحركة البروتستانتية الأصولية إلى كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، وهو “جيمي كارتر”.. ولا شك أن المعتقدات التوراتية التي آمن بها كارتر كانت من بين العوامل المهمة التي شكلت سياسته الخارجية تجاه الصراع بين “العرب.. وإسرائيل”؛ وساهمت أيضا في توفير المناخ لنهوض الحركة “الصهيونية المسيحية المعاصرة”.

إذ، يكفي أن نذكر هنا ما جاء في بيان كارتر الانتخابي، من أن: “تأسيس إسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية”. هذا، فضلًا عن أنه أول رئيس أمريكي يؤسس لجنة رئاسية لموضوع “الهولوكست”  (حرق اليهود علي يد النازي).

جيمي كارتر
جيمي كارتر

ومثلما كانت الأصولية العقائدية عاملا قويا في نجاح كارتر والوصول به إلى البيت الأبيض، فإنها كانت أيضا عاملا قويا في فشله عام 1980؛ إذ عندما وجد الأصوليون أن “كارتر” لم يف بوعوده لهم، خاصة بالنسبة إلى موضوع إقرار الصلاة في المدارس ومنع الإجهاض، تحولوا عنه وأسقطوه ليأتي رونالد ريجان كرئيس أكثر أصولية؛ بل إنه كان “صهيونيًا وبروتستانتيًا” متشددًا.

ومع وصول ريجان إلى البيت الأبيض، صعد الاتجاه اليميني المحافظ لحكم الولايات المتحدة، وهو الاتجاه الذي أسس برامجه السياسية والاقتصادية والثقافية على تحالفات مع الحركة “المسيحية الأصولية” وعلى مبادئ “عقائدية” محافظة ولقاء على أرضية مشتركة في دعم “غير مشروط” لإسرائيل.

ولعل لذلك يفسر كيف انتخب ريجان لدورتين؛ حيث إنه كان أكثر التصاقا بأهداف الحركة الأصولية. ومن بعده أعطى الأصوليون أصواتهم إلى جورج بوش نائبه الذي حظي بتأييد ريجان وقيادات الحركة الأصولية لما عرف عنه من إيمان أصولي. أما في ما يتعلق بالرئيس الأسبق بيل كلينتون، فنكتفي بالإشارة إلى ما مثله كارتر (خلال فترة ولاية كلينتون الأولى) في موقع أحد أهم مستشاريه في القضايا العالمية الساخنة، بداية في ما يتعلق بالشرق الأوسط، ثم بعد ذلك في ما حدث في البوسنة والهرسك.

الأصولية العقائدية

هذه، هي بانوراما صورة الأصولية العقائدية “الأمريكية ـ الإسرائيلية”، وهي الصورة التي توضح كيف أن التحالف الاستراتيجي بينهما يتجاوز مسألة “المصالح المشتركة”، لينغرس في مناطق خاصة بالعقائد.

بل، هي الصورة التي توضح كيف سارت قضية العرب المركزية من السيئ إلى الأسوأ طوال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، وما بعدهما من عقدي القرن الواحد والعشرين الحالي، نتيجة التحالف المشار إليه؛ وكيف تأثرت المصالح العربية سلبا من جراء ذلك، حيث تم تثبيت العجز في مواجهة إسرائيل.

وعندما فرضت المصالح الاستراتيجية الأمريكية نفسها في ظل المتغيرات الدولية، مع بداية التسعينات الماضي، بدأ فرض تسوية الصراع بين “العرب.. وإسرائيل” على المنطقة، مع ما تمثله هذه التسوية من “خطوط حمر” لأمن إسرائيل، ومقايضة الحد “الأدنى” من التنازلات الإسرائيلية بالحد “الأقصى” من المكاسب التي سوف تصل إلى عمق المنطقة العربية.

ترى، هل يساهم ذلك في تفسير جزء من السلوكيات الأمريكية تجاه إسرائيل، في ما يتعلق بمسألة القدس.. وخاصة استخدام حق النقض (الفيتو) أكثر من مرة لحماية إسرائيل من إدانة ما يُطلق عليه “المجتمع الدولي” (؟!).. يتبع.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock