مثّل ظهور الدولة ضرورة قصوى لانتقال الإنسان من مرحلة الطبيعة والتوحش والهمجية، إلى مرحلة المجتمع والتحضر وإنتاج الثقافة، نظرا لحاجة الأفراد إلى إيجاد كيان يستطيعون من خلاله إقرار صيغة للتعايش فيما بينهم وضمان استمرارها، هذا الكيان هو الدولة، وهو كيان أثار حوله العديد من النقاشات الفلسفية التي تمحورت حول تعدد وتنوع الغايات التي من أجلها وجدت الدولة، إضافة إلى تنوع طبيعة السياسة التي تمارسها تلك الدولة.. ومما يلفت النظر بشدة؛ ذلك التباين الحادث بين غاية الدولة التي تتمثل في تجسيد قيمة الحق، ووسيلة هذا التجسيد التي تتخذ شكلا عنيفا، وهذا ما يطرح علينا الأسئلة التالية: لماذا ظهرت الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ ما هي المظاهر التي تتخذها ممارسة السلطة السياسية؟ هل الدولة جهاز لتجسيد الحق أم العنف؟
يذهب باروخ إلى إن الغاية القصوى من تأسيس الدولة ليست السيادة في بل إتاحة الفرصة لأجسام الأفراد وعقولهم بأن تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام ودون خوف، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا، لأن الحق الوحيد الذي تخلى عنه الفرد هو حقه في أن يفعل ما يشاء، وليس حقه في التفكير والتعبير، أي أن يحتفظ قدر المستطاع بحقه الطبيعي في الحياة، وفي العمل دون إلحاق الضرر بالغير.
ويرى اسبينوزا أن الغاية الحقيقية من قيام الدولة هي حرية التفكير، وضمان الأمن للأفراد، ومن يسلك ضد مشيئة السلطة العليا يلحق الضرر بالدولة.
أما في نظر فريديريك هيغل – فالدولة “هي التحقق الفعلي للروح المطلقة، وهي فكرة عقلانية موضوعية وكونية ذات طابع أخلاقي، كما أنها تمثل إرادة جوهرية متجلية وبينة لذاتها” إن الدولة بوصفها تحققا للإرادة الجوهرية، هي غاية في ذاتها، لا يتوقف دورها ووظيفتها على الحماية والأمن، ولا يختزل في فرض السيادة والإخضاع، بل يمتد إلى نشر القيم الروحية والأخلاقية، والمبادئ العقلية الكونية، وهي قيم ومبادئ أساسية بالنسبة للمجتمع حتى يتمكن الإنسان من إدراك إنسانيته.
ولقد شغلت ظاهرة قيام الدول وبلوغها درجة القوة والمنعة وامتداد النفوذ إلى خارج أراضيها بالتوسع وانتشار قواها الناعمة؛ ثم اندحارها رويدا رويدا حتى درجة الاضمحلال والأفول – الكثيرين من الفلاسفة والمفكرين وعلماء السياسة والاجتماع؛ لكن هؤلاء جميعا تأخروا خلف ابن خلدون الذي رصد الظاهرة مبكرا وحللها وتوصل إلى ما يمكن وصفه بالنظرية في هذا الصدد.
اهتم ابن خلدون في مقدمته بموضوع العمران البشري والاجتماع، وبيان ما يلحق به من عوامل التغيير والحوادث، مستعرضا دقائق وتفاصيل تتعلق بنشأة المجتمعات، وما يصاحب ذلك من ظواهر يرتبط بعضها ببعض بحيث تكون كل ظاهرة سببا لأخرى تالية لها بشكل لا يمكن معه فصل تلك الظاهرات، أو دراستها كل على حدا.
أسس ابن خلدون نظريته في عوامل قيام الدول وفنائها بفرض أن للأمم دورة حياة تشبه دورة حياة الإنسان، تتعدد مراحلها من الميلاد والاستواء والقوة إلى الضعف والهرم والموت، كما ذهب إلى أن العصبية أو القومية أو النزعة الوطنية هي الركن الأهم في ذلك التأسيس، كما رأى تلازم تلك العصبية مع الدين الذي يمنح الدولة قوة إضافية ويضيف لها القدرة على الاستمرار بشكل أكثر تماسكا.
والحقيقية أن التجربة أثبتت صحة ما ذهب إليه ابن خلدون إذ أن الدولة الإسلامية ظلت على حال من القوة والتماسك إلى أن دخلت العناصر الأعجمية، ووصلت إلى المناصب الهامة، وتحكمت وسيطرت على أركان الدولة؛ فكان ذلك من أهم عوامل الإضعاف، والإيذان بالتفكك والسقوط.
وقد قسّم ابن خلدون تلك المراحل التي تمر بها الدول في دورة حياتها إلى خمس مراحل أسماها أطوارا، وهي كما يلي: طور النشأة حيث يكون اتفاق جماعة من الناس من أصحاب العصبية الواحدة أو العرق الواحد، على امتلاك أسباب الملك، ومن ثم سعيهم إلى نيل ذلك بكل وسيلة، وتقديمهم التضحيات بأنواعها راضين متلاحمين لا تعرف الفرقة إلى صفوفهم طريقا.
ثم طور بلوغ الملك وفيه الاستبداد والاستئثار بالسلطة والنفوذ وفرض الهيمنة، وهو ما يمكن تسميته بطور الانتشار أو امتلاك القوة وفرض السيطرة بتحقق أسبابها، وهي مرحلة بذل وعطاء هائلة تصل فيها الدولة إلى ذروة عالية تجعلها مرهوبة الجانب في محيطها، تسعى إليها الكيانات الأضعف لطلب الانضواء تحت لوائها أو مهادنتها أو التماس أسباب الأمان منها.
في المرحلة الثالثة التي أطلق عليها ابن خلدون طور الفراغ والدعة لتحصيل ثمرات الملك يكون الاهتمام منصبا على الجوانب الاقتصادية كفرض الجبايات، وضبط الدخل وإحصاء النفقات، كما أنه طور التشييد والبناء وإقامة الدور والقصور، وفرض العطايا واستقبال وجوه القوم وإكرامهم، وإغداق الأموال على الأنصار والمؤيدين، واصطناعهم في سبيل تدعيم أركان الحكم، والاهتمام بالجند وتنظيم الرواتب والأعطيات لهم، والمباهاة بين الأمم بقوة الجيش ووفرة عدته وعتاده، وكثرة أفراده وقواده، ويعتبر ابن خلدون هذا الطور هو آخر أطوار استبداد الحكام واستئثارهم بالسلطة السياسية من أجل بناء شهرتهم ومجدهم الشخصي.
أما الطور الرابع فقد أسماه ابن خلدون بطور الخنوع والمسالمة والتقليد للسابقين بحيث “يقول الإنسان إن ما كان عليه آباؤه وأجداده هو السليم”. بمعنى أن حكام ذلك الطور يكونون من النوع القانع الذي رضي بما حققه الآباء من إنجاز، ولذلك فهم لا رغبة لديهم على الإطلاق في تقديم أي شيء من شأنه زيادة قوة الدولة أو دعم هيكلها الأساسي. وبالطبع فإن هذا الطور يكون ممهدا للطور الأخير الذي أطلق عليه ابن خلدون، طور الإسراف والتبذير واصطناع قرناء السوء وإبعاد الصالحين الناصحين، ولا شك أن هذا الطور هو المسرح الأنسب لظهور أسوأ ما تراكم في كيان الدولة من مراكز الفساد والإفساد التي تكون قد تهيأت بالكلية لتقذف من جوفها أسوأ النماذج على الإطلاق إلى أرفع المناصب، بينما تكون الأجواء قد تهيَّأت تماما للانحدار بشكل درامتيكي في دوائر الأزمات، وبراثن المحن المتتاليات.
وهكذا حسم ابن خلدون الأمر بذكر تلك الأطوار كمراحل تمر بها الدول من البداية إلى النهاية، لكنه لم يذهب إلى حتمية حدوث ذلك، وإنما كان راصدا بدقة لكثير من التجارب، محذرا قدر المستطاع من الانسياق خلف تلك العوامل الباعثة على الضعف والمؤدية إلى الاضمحلال؛ إنه في تشريحه الدقيق لوضعية الدولة عبر أطوارها المتعددة ينتدب شروطا للقوة والمنعة والاستمرار، ويعين طرقا للتجاوز والتغلب على الصعوبات، وهو في النهاية لا يذهب قاطعا إلى أن موت الدولة صار قدرا مقدورا.
إن تلك العوامل والأسباب للانهيار التدريجي التي حددها ابن خلدون؛ إنما تعني أن اجتنابها هو سبيل بقاء لتلك الدول، وتدعيم لأركانها لأن هذا الانهيار إنما يكون جراء تغول أصحاب المصالح الخاصة الذين يقيمون بنيانهم بلبنات يخلعونها من جدار الدولة الأساسي، وهم بذلك يضيفون إلى ذواتهم بالخصم من كيان الدولة التي تدخل في حالة من العمى والتخبط الذي يسمح بكل فعل يعجل بقضاء الفناء.
ومن أهم اسباب الفناء تلك أن تترك الدولة قضاياها الأساسية جانبا؛ لتنساق بفعل أطراف خارجية أو داخلية خلف أوهام يكون من شأنها تسريع استجابتها للأفول، وهذا إنما يكون بإضعاف قيمها الروحية والأخلاقية التي تعد من أهم عوامل تماسك الدول وقوتها بحسب ما ذهب أرنولد توينبي في تحليله لتلك الظاهرة معلقا على نظرية ابن خلدون الذي اعتبره فريد عصره وسابق الكل، كما اعتبر مقدمته في فلسفة التاريخ أهم إنجاز أبدعه عقل في أي زمان ومكان.
فقد رأى توينبي أن الانهيار القيمي والأخلاقي والديني يقود الى الجمود، وإلى العجز عن الابتكار والتجديد والإبداع، ومن ثم العجز عن مواجهة التحديات، وحين يحدث هذا تشهد الحضارة التي أقامتها تلك الدولة شرخا في الروح يقود إلى موت القدرة الروحية والاخلاقية على الإبداع والتجديد ومجابهة التحديات.
لقد شهد العصر الذي نعيشه أفول عدد من الإمبراطوريات التي انتهت إلى التفكك والتحول إلى دويلات أو وصلت إلى حالة من انكماش النفوذ وتصاغره حتى تحولت إلى تابع لا قيمة له، وليس ثمة اعتبار بدروس التاريخ، وربما كانت دورة الحياة تلك التي أشار إليها ابن خلدون هي الحقيقة التي لا فرار منها وإن طال الزمن.