اعتبر إحراق الكتب من أشهر الوسائل التي تلجا إليها قوى البطش العاجزة عن مواجهة الأفكار منذ قديم الزمان.. كان التخلص من الكتب بإحراقها بمثابة حصار تضربه السلطة على الآراء المتحررة من أجل إيقاف انتشارها؛ لكونها تمثل خطرا على وجودها.. وإذا نظرنا للأمر نظرة أكثر عمقا؛ لتبينا أن إزهاق روح الوعي وإنهاك الذاكرة الإنسانية وإماتة النزعة العقلية هو الهدف من وراء هذا الجرم.. وإن تباينت الأسباب المعلنة.
مئات الآلاف من الكتب أحرقت على مر التاريخ الإنساني، غير أعداد أخرى لاتقل عنها تخلص الطغاة منها بإلقائها في البحار والأنهار أوغسلها لإعادة الاستفادة من الجلود التي كتبت عليها! ربما في تدبيج قصائد المدح والإشادة بالحاكم سابق زمانه.. والغريب أن التاريخ يذكر لنا أيضا أن عددا من الكتاب والمؤلفين قد تخلّصوا من كتبهم بأنفسهم لعدم رضاهم عما دونوه فيها، ومنهم من أوصى بالتخلص من كتبه بغسلها أو دفنها أو حرقها بعد وفاته.
من أشهر الأحداث التاريخية التي اعتبرت كارثة أثرت في تاريخ العلم ومسيرته.. إحراق مكتبة الإسكندرية عام48ق.م على يد يوليوس قيصر.. حدث ذلك بعد أن امتدت النيران بفعل الرياح من السفن التي أحرقها إلى المكتبة التي كانت تحوي آنذاك أثمن الكتب وأندرها في العالم.. ثم تكررت الكارثة بعد حوالي 440 سنة عندما أضرم مسيحيون متعصبون النار في المكتبة بعد قتلهم عالمة الرياضيات السكندرية هيباتيا.
وكان الإمبراطور كين مؤسس الصين الموحدة الذي سيطر على حكم البلاد لنحوٍ من نصف قرن منذ عام259ق.م، قد أمر بجمع وإحصاء الكتب العلمية والتاريخية من جميع أنحاء البلاد؛ وذكر أنها قد تجاوزت المئة ألف كتاب.. ثم أمر كين بإحراق الكتب؛ ما أثار غضب عدد كبير من العلماء قدروا بنحوٍ من أربعمائة عالم، أمر كين بالقبض عليهم، ثم أصدر حكمه بدفنهم أحياء!
وكان للقارة الأوروبية النصيب الأكبر من تلك الجرائم؛ نذكر منها ما حدث في العاصمة التشيكية براغ في السادس من يوليو1415، عندما أدانت محكمة كنسية الفيلسوف اللاهوتي وعالم اللغة ورئيس جامعة براغ القس جان هس بتهمة الزندقة واتباع المبادئ الهرطوقية التي تضمنتها كتب الإنجليزي جون ويكليف الذي حظر البابا مذهبه، وأمر بحرق كتبه وتعقب أنصاره في ديسمبر1409.
ونظرا لكثرة تلاميذ هِسْ وأتباعه ومريديه خاصة في براغ.. احتالت الكنيسة والسلطة الزمنية للقبض عليه بعد أن كانت قد أعطته عهد أمان.. وفور القبض عليه حوكم وأدين وأحرق مع كتبه في أحد أكبر ميادين براغ قبل أن يفيق أتباعه من الذهول.
ولم يتخلف الكاردينال سيسنيروس عن ركب أعداء الإنسانية والعلم والحضارة بعد امتثاله عام 1492، لأمر الملكة إيزابيلا والملك فيرناندو بإحراق مكتبة غرناطة التي كانت تعتبر من أكبر مكتبات العالم آنذاك.. بهدف محو أي أثر للحضارة العربية الإسلامية في شبه الجزيرة الأيبيرية، والتي استمرت لخمسة قرون.. وقد قدر عدد الكتب التي أحرقت بنحو مليونين وخمسة وعشرين ألف كتاب.
وكان الفردوس الأندلسي قد عرف من قبل إحراق الكتب على عهد الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور الذي كان معاديا للفلاسفة، وأمر بحرق جميع المؤلفات الفلسفية وحظر الاشتغال بالفلسفة والعلوم ما عدا الطب والفلك والرياضيات.
وقد شهدت مدينة برلين الألمانية في العاشر من مايو 1933، واحدة من أكبر عمليات حرق الكتب عندما جمع طلاب الجامعة أكثر من 20 ألف كتاب بعد وصمها بالعداء للروح الألمانية.. وأحرقت الكتب في اكبر ميادين برلين في حضور 70 ألف شخص، وقد امتدت عدوى إحراق الكتب لكل المدن الألمانية التي تضم جامعات.. ولم يستطع أحد التصدي لهؤلاء الطلبة الموتورين الذين أحرقوا كتب أهم كتاب ألمانيا آنذاك هاينريش مان وإرنست جليسر واريش كستنر وإريش ماريا ريمارك ويواخيم رينجلناتس وغيرهم.. في العام التالي فرضت الرقابة الصارمة على تداول ثلاثة آلاف كتاب، وغادر معظم الأدباء والشعراء والكتّاب الأراضي الألمانية.. لقد تخلت ألمانيا عن روحها لتلقي بنفسها في أتون الحرب التي انتهت بتدميرها بشكل كامل!
وفي التاريخ الحديث أقدم متطرفو الصرب على ارتكاب أبشع الجرائم في حق المعرفة الإنسانية؛ حين أحرقوا مكتبة سراييفو الوطنية المعروفة محليا بجبل المعرفة، وكانت رمزا من رموز البوسنة وأحد مفاخرها، ومن أجمل المباني، وكان ذلك في الخامس والعشرين من أغسطس 1992، ففي خلال ساعات قليلة التهمت النيران أعظم الكنوز المعرفية في غرب البلقان عبر التاريخ، وكان من بينها آلاف الروايات، والكتب التاريخية، والرسائل الجامعية، وأمهات المصادر المعرفية، وقُدِّر ما أُحرق يومها بنحو مليوني كتاب، وثلاثمائة مخطوطة من أنفس المخطوطات العالمية التي لا تقدر بثمن، في مختلف مصادر الثقافة والمعرفة.
وفي صباح السبت الموافق السابع عشر من ديسمبر2011، اشتعلت النيران في المجمع العلمي المصري بوسط القاهرة، وهو من أهم وأقدم المؤسسات العلمية في العالم، وكان يضم أكثر من مئتي ألف وثيقة ما بين كتب ومخطوطات وخرائط نادرة.. لم ينج منها سوى25ألف وثيقة فقط.. وما زال الفاعل مجهولا!
وعلى ذكر تدمير المكتبات الكبرى وإعدام ما بها من كتب تبدو قصة مكتبة بغداد التي صنع المغول من كتبها جسرا ليعبروا عليه نهر دجلة بعد سقوط بغداد عام1258- من أطرف القصص، فهي قصة رغم انتشارها لا أساس لها من الصحة، وينسف الباحث الدكتور طارق شمس هذه القصة نسفا، مشككا في رواية ابن خلدون وابن تغري بردي غير المعاصرين للحادثة، وحتى رواية عبد الملك بن حسين العصامي المكي؛ يسقط البرهان على صحتها؛ نظرا لفرادتها ولمخالفتها لما سبقها من روايات، فالثابت أن نصير الدين الطوسي قد أمر بنقل معظم هذه الكتب إلى مرصده بمراغة، كما أن ابن بطوطة أكّد أيضا من خلال زيارته إلى بغداد رؤيته للمدرستين اللتين كانتا تحتويان على أغلب الكتب داخل بغداد.. ولم تمس المدرستان بسوء، بل وأكثر من ذلك فإنَّ القلقشندي اعتبر أنَّ الأوقاف كانت محمية من قبل السلطة التي مثلت هولاكو.. ولم تعترضها أيدي العدوان، “إنما نقصت الأوقاف من سوء ولاة أمورها لا من سواهم”.
والحقيقة أنَّ إبادة المغول لمكتبة بغداد هي فرية لم يعرف التاريخ مثلها، وقد اختلط الأمر على كثير ممن أرّخوا لهذه الحادثة، ومبعث الخلط هنا هو أن أفعال تخريب المدن وتدميرها كانت ديدن جنكيز خان أما هولاكو فقد عرف عنه حرصه على بقاء الحواضر المدحورة أمام جيوشه على حالها، وذلك لما فيه من نفع يعود عليه ومن مال يجبى إليه منها.
إن هذا العداء الشديد الذي أبداه الطغاة عبر التاريخ للكتب لا يمكن تبريره إلا في إطار رهبة هؤلاء من أن تعي الجماهير الحقيقة.. فبرغم أن كثيرين ممن حاولوا أن يوقدوا مشعل التنوير للجماهير كانت نهايتهم مؤسفة على نحو ما؛ إلا أنهم ظلوا خالدين في تاريخ الإنسانية، كما أن كل من عادوا العلم والعلماء وأحرقوا الكتب، وتباروا في إتلافها- استقروا أخيرا في مزابل التاريخ غير مأسوف عليهم، إلا أنَّ جرائمهم – لاشك- قد حرمت الإنسانية من آفاق للمعرفة وطرائق لتلمس العلوم- اندثرت وضاعت بضياع هذه الكنوز التي ألقمت إياها النيران.