على عكس المقولة الشائعة التي تلخّص عصارة تجارب إنسانية عديدة، والتي تؤكد أن الكنز الحقيقي الذي نسعى إليه لا نجده في آخر الرحلة؛ لأنه في هذه الحالة يصبح بلا قيمة تقريبا، مع اقتراب النهاية؛ ما يشير إلى أن الكنز الحقيقي هو الرحلة ذاتها بكل ما تحمله من مواقف وأحداث لا نتعلم منها دروسا قيمة فحسب؛ بل تشكل وجداننا وتصيغ شخوصنا، وتعتمل في نفوسنا بتفاصيلها الدقيقة التي تحولنا بفعل عمق التجربة إلى بشر نختلف –ربما بالكلية– عن ذواتنا في بداية الرحلة – على عكس ذلك تماما كانت رحلة أبو صدّام.. إنها رحلة الإنسان الذي يخشى كل الخشية مواجهة حقيقته؛ فيلجأ إلى إغراق نفسه في بحر من الأكاذيب.. لكن أكاذيبه ضعيفة وهشة، لا تصمد كثيرا أمام قسوة الواقع وخشونة الحياة.. (أبو صدام) سائق الشاحنة العملاقة، والذي توحي هيئته الضخمة بالقوة؛ ولا تعرف ردود أفعاله إلا الغضب العارم الذي يوقعه في أخطاء يصعب إصلاحها.. أحد هذه الأخطاء أبعده لسنوات عن عمله الأصلي؛ ليضطر للعمل سائقا لحافلة صغيرة لنقل الركاب.. وهي بالنسبة لمن هم مثله مهانة كبيرة.
وبالرغم من أن دلالة الاسم واضحة، وهي تعكس كمًا لا بأس به من سمات الشخصية التي يغلب عليها الغرور والتهور؛ إلا أن الأمر في حقيقته يستدعي وقفة؛ وذلك لأن هذه الكنية ليست خاصة بالسائق؛ ولكنها مستعارة من اسم قريته، أما هو فلا نعرف له اسما، وليس له ولد يحمل اسم صدّام، رغم وجود صورة لطفل في “تابلوه” الشاحنة.. لكننا سنعرف بعد ذلك أنها جزء من العالم غير الواقعي الذي يعيش فيه أبو صدام ويزينه بكم هائل من الحكايات التي لا أساس لها.. بالإضافة إلى حرصه على مظهره وشعره المصفف بعناية.. وسجائره الأجنبية التي لا ينقطع عن تدخينها، في محاولات مستمرة لإضفاء نوع من العظمة المدعاة على الشكل الذي لا ينبئ عن شيء من حقيقة الشخص.
فور عودته للعمل يصطنع أبو صدام مشكلة مع أحد مساعدي صاحب الشحنة، بسبب أن المساعد تسبب في تجريح دهان الشاحنة على نحو بسيط لا يكاد يرى.. لكن “أنا” أبو صدام المتورمة؛ حوّلت الأمر إلى مسألة شخصية؛ جعلته يعتدي على المساعد ويسبه هو ومن يعمل عنده.. ويحاول مالك الشاحنة طوال الوقت إقناع سائقه بالاعتذار للتاجر؛ لكن محاولاته تذهب سدى بسبب موجات الغضب المتلاحقة التي تنتاب الرجل، وتوقعه في مشكلات لا تنتهي.
اقتصرت علاقة الشخصية الرئيسة في الفيلم بالنساء على خمس سيدات، الزوجة الأولى التي حصلت على الطلاق، ونالها كرم الخالق الذي عوّضها بزوج طيب أنجبت منه أكثر من مرة، وهذا ما عرفناه من حديث سريع دار بين “التبّاع” وصديق له في إحدى الاستراحات على الطريق.. وهو حديث دار حول سوء خلق (أبو صدام) كما ألمح الصديق من طرف خفي إلى عجزه على نحو ما.
المرأة الثانية هي الزوجة الحالية التي لم تنقطع المشاجرات معها هاتفيا طوال الرحلة، ويبدو أن عدم طاعتها لأوامر (أبو صدّام) وانقيادها شبه التام لأخيها الذي يناصب (أبو صدام) العداء، ويتوعده بسبب اعتدائه بالضرب على الأخت الزوجة.. ويبدو أن أسبابا أخرى أكثر قوة؛ تعصف بالعلاقة الزوجية.
المرأة الثالثة هي سيدة الحكاية التي قصّها (أبو صدام) على “التبّاع” في ساعة صفا، وقد بدت تفاصيل الحكاية غرائبية، ولا تصدق لتنتهي بخاتمة تجعلها أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع.. والغرض من القصة كان التباهي بالقوة الخارقة للسائق التي جعلته كالحصان يعدو لثلاث ساعات متواصلة دون كلل!
المرأة الرابعة هي راقصة الفرح التي سيصحبها (أبو صدام) لتوصيلها وقضاء ليلة معها.. ولكن الليلة تنتهي بمشاجرة بين الاثنين بعد اختلافهما حول تقدير أداء السائق الذي لم يرضه تقدير ضعيف رغم عدم تصريحها بذلك.
المرأة الخامسة هي فتاة السيارة المكشوفة، والتي تجاوزت الشاحنة بسيارتها ما جعل (أبو صدام) يشعر بالإهانة ويسعى لترويعها؛ ما يدفعها لتقديم شكوى ضده للشرطة، ما صاعد موجة غضب جنونية لدى (أبو صدام) ستنتهي بجريمة بشعة.
النماذج الخمس شكلت بوضوح أزمة السائق صاحب “النفخة الكدابة” الأولى مثلت الواقع والصدمة التي استدعت الفرار، بينما مثلت الثانية التمرد وعدم الانصياع والاستقواء بالعم والأخ، ما جرح إلى حد بعيد كرامة الرجل. الثالثة جسدت الحلم المستحيل بالقوة الخارقة، والمهرب المحبب من الحقيقة الجارحة، أما الرابعة راقصة الفرح فكشفت عن جانب العجز في شخصية السائق بصورة مباشرة.. لتأتي الأخيرة لتكون نموذجا مناسبا تماما للانتقام من كائن المرأة الذي ربما يرى (أبو صدّام) أنه سبب وسر شقائه.
أما “التبّاع” شريك الرحلة، فهو نموذج شديد الثراء للجيل الجديد من الفاشلين الذين لا يجيدون فعل شيء؛ لكنهم يتطلعون لنيل كل شيء؛ بعد أن فتحت عليهم التكنولوجيا بأدواتها المتاحة؛ أبواب الحلم على مصراعيه.. “التبّاع” أيضا في حياته فتاة تحرّضه بشكل أو آخر على الحصول على المال بأي طريقة، أو هو يفعل ذلك ليحظى بها.. “التبّاع” خائن الأمانة يحاول أكثر من مرة سرقة المال المنقول؛ لكن الأقدار تحبط خطته في كل مرة، لتعيده الجريمة المروعة التي تنتهي بها الأحداث إلى صوابه، بعد أن أدرك أن حياته نفسها أصبحت على المحك.
بدت شخصية بطل الفيلم في حالة مزرية تقريبا على كل المستويات، ما يسمح لنا بإصدار أحكام قاطعة عليه بالفشل والخيبة والعجز والتقصير.. لكن الإنصاف يقتضي القول أنه ليس إلا هارب من قسوة ظروف الحياة وعدم القدرة على مواجهة فداحة خشونتها.. من منا لم يمارس الهروب من أمر ما لم يستطع له حلا.. نحن دائمو الهروب من تلك المعاناة التي تتجدد بلا انقطاع، ومنا من يرى الكذب تجملا لا بأس به، ومنا من يراه ضرورة لاكتساب القدرة على مواصلة السير في طريق الحياة الوعر.. لذلك لا نستطيع إدانة (أبو صدّام) بشكل قاطع ونهائي؛ لأنه تجسيد حي لأدران إنسان هذا العصر البائس في بقاع عديدة من العالم.
بقي أن نشير إلا أن بطلي العمل محمد ممدوح وأحمد داش أبدعا كثيرا في أداء دوريهما، بغض النظر عن عدم اختلاف ذلك الأداء عن أدوار سابقة للنجمين، والمعروف أن الممثل محمد ممدوح الذي أدى دور (أبو صدّام) قد فاز بجائزة أحسن ممثل في الدورة الأخيرة لمهرجان القاهرة السينمائي.. وقد جاء أداء ممدوح سلسا واعتياديا جدا، ربما لأنه يقدم شخصية مفرطة العادية بأدوات بسيطة.. تألق ممدوح جاء من انضباط بوصلة أدائه على قراءة واعية لشخصية خلقتها الأوهام اللذيذة بالقوة، وسيطر عليها الغضب بصورة مدمرة.. بينما أدى أحمد داش دور “التبّاع” بمقدرة هائلة على تجسيد حالات القلق الشديد مع الفشل المتكرر في تنفيذ عملية السرقة، واصطناع التقرب من (أبو صدام) أو ما يسميه هذا الجيل “مزاولته” لصرف نظره عن ضياع المال؛ حتى يتمكن “التبّاع” من الابتعاد به.
في هذا العمل اعتمدت المخرجة نادين خان على البساطة في طرح فكرة الفيلم، والإشارة إلى كثير من الأبجديات التي تحكم الصراع النفسي الذي يعاني منه البعض، وحالة الاستعلاء الكاذب التي تتحكم في الكثيرين وتحول حياتهم، وحياة من حولهم إلى جحيم، كما ألمحت إلى ذلك التباين الطبقي الهائل بين المجتمع المخملي الذي يقصد الساحل الشمالي للهو والمرح والاستمتاع، وتلك الطبقة التي تحاول أن تكون في دائرة الضوء من خلال استخدام أي وسيلة متاحة، وبالتحديد مواقع التواصل الاجتماعي والوسائط التكنولوجية.. وكل ما يغذي لديها أحلام الثراء السريع.
فيلم “أبو صدام” فيلم جيد جدا يطرح بهدوء عدة قضايا بالغة الأهمية ذات أبعاد نفسية واجتماعية وربما فلسفية، وهو يستحق المشاهدة بمقدار ما تتعدد قراءته كعمل فني جدير بالاحترام والتقدير.