رؤى

أحمد محرز الابن الضال.. العائد من رماد الهزيمة!

بعد النصر المُجهض في أكتوبر.. بدأت الأوهام في التبدد.. أدرك الشعب مآلات انتصار أريد له أن يكون محدودا.. على طريق الهدف الأكبر.. إنهاء الصراع وفق شروط هي أقرب إلى الاستسلام.. داخليا لم تسفر آخر الحروب عن انتعاش اقتصادي؛ بل تضخم رهيب ضرب قطاعات واسعة من الشعب أدى إلى حراك شعبي واسع أجبر السادات على التراجع عن رفع الأسعار.. كانت السنوات الأولى من عقد السبعينات قد شهدت جهودا ممنهجة لوصم الحقبة الناصرية بكل نقيصة.. مقالات وكتب وأعمال فنية وصلت للحضيض كذبا وتدليسا وافتراء، حتى وصفها الكاتب الكبير صلاح حافظ في مقدمة كتاب “عبد الناصر واليسار المصري” للدكتور فؤاد زكريا؛ بأنها أعمال قوادة شارك فيها المأجورون من كل صنف ولون.

ساهمت السينما أيضا بنصيب كبير في الحملة المأجورة، فكانت موجة أفلام “الكرنكة” نسبة إلى فيلم “الكرنك”.. أفلام نضحت بالكذب الفاجر غير المبالي بالحقائق التي لم تكن بعيدة عهد بذاكرة الشعب.. ثم جاء عام 1976، ليشهد استفتاء رئاسيا هزليا بنتيجة 99.9%، قبل أقل من ثلاثة أشهر من انتفاضة الخبز التي كادت أن تطيح بحكم الرئيس المؤمن.

شهد العام نفسه فيلم “عودة الابن الضال” للمخرج يوسف شاهين، الذي أعاد الاعتبار للسينما المصرية بعد موجة الأفلام الهزيلة والمنحطة والموجهة التي استمرت لسنوات.. عبّر شاهين من خلال أحداث الفيلم عن أهم المحطات الرئيسة في تلك الفترة من عمر مصر.. الثورة، الحلم، الانكسار، الخدعة، الأمل المتجدد.

أحمد محرز

إلى جوار العمالقة محمود المليجي، وشكري سرحان، وهدى سلطان.. وقف الممثل الشاب أحمد محرز.. ليجذب إليه الأنظار بشدة من خلال أداء هادئ متأمل، لا يعتمد على كلمات الحوار -وهي قليلة إن لم تكن نادرة- لكنه يرتكز إلى التعبير عن ثورة الانفعال الداخلي بنظرات تقطر بالألم والحسرة والضياع وبملامح هدها الشعور الدفين بالهزيمة.. بعد العودة من رحلة “الحلم الثوري” الذي انكسر في 1967، ثم الرحيل المفاجئ لناصر؛ لتسقط الثورة فريسة سهلة في يد أعدائها.. لتبدأ رحلة التنكيل بفاطمة التي تتعرض للاغتصاب من طُلبة الذي جعله شاهين رمزا للمرحلة بكل وضاعتها.

محرز في دور علي الابن الضال العائد، حسب القصة الواردة في إنجيل لوقا(24:15) التي اتخذها شاهين تكئة مناسبة للولوج إلى سرده الملحمي للأحداث- استطاع أن يحكي صامتا معاناة هائلة بدأت بالاندفاع نحو وهج الثورة بآمال جامحة في التغيير الجذري، وانتهت بتكالب الأعداء من كل حدب وصوب على جسد وطن جريح ينزف أحلامه بلا رحمة.

كثيرة هي المشاهد التي وعدتنا في الفيلم بميلاد نجم من العيار الثقيل.. المشاهد التي جمعت علي بفاطمة حبه الوحيد الذي تخلّى عنه، ليصنع الغد المنتظر للجميع.. مواجهته لأخيه طلبة الخائن الذي استولى على كل شيء، ولم ينج أحد من قسوته وظلمه.. لكن مشاهد علي مع الشاب إبراهيم، وحبيبته تفيدة؛ كانت الأقوى والأكثر إيلاما.. فالعم علي كان بالنسبة لإبراهيم تجسيدا لكل قيمة افتقدها في أبيه.. تجسد فيه أيضا الأمل في الخروج من سطوة الأب في هذا المكان الموحش الذي يتحكم فيه الأب القاسي في كل شيء حتى دار السينما البائسة التي بدا وجودها غريبا وناتئا وموحيا في آن.. كانت نظرات علي المنكسرة التي لا تصمد كثيرا أمام إبراهيم تواصل رحلتها هربا من تبعة الهزيمة وآثارها.. ومن عودته الخائبة.. ومن عدم قدرته على مواجهة طلبة.. إلى أن تأتي النهاية فيكون الموت مصيرا محتوما له ولأخيه ولأمهما.. ليبقى الأمل في إبراهيم وتفيدة اللذين يبدآن رحلة المستقبل بالهروب من هذا الواقع الآسن.

يصف الناقد عصام زكريا دور علي بقوله: “…هذا الحالم العظيم الذي يرحل عن أسرته ليعود لهم بالشمس والقمر، ويخدعه السياسيون والفاسدون فيبني من دون أن يدري عمارات تسقط فوق سكانها في ١٩٦٧، وعندما يخرج من السجن يكون كل شيء قد مات بموت الزعيم وحلم الثورة، فيعدو في لحظة الغروب وراء الشمس كظل قصير العمر يتلاشى سريعا في الظلام”.

ويرى الناقد سمير فريد أن دور علي في “عودة الابن الضال” يكفي لنذكر أحمد محرز؛ بوصفه أحد مواهبنا الفنية المتميزة.. مثّل محرز في ستة أفلام سينمائية فقط خلال ربع قرن تقريبا.. أولها “الأقدار الدامية” عام ١٩٧٦، عن قصة يوجين أونيل وسيناريو علي محرز الكاتب الصحفي شقيق أحمد الأكبر، ومن إخراج خيري بشارة، ثم أربعة أفلام من إخراج يوسف شاهين، وهي “عودة الابن الضال” ١٩٧٦، و”إسكندرية ليه” ١٩٧٩، و”حدوتة مصرية” ١٩٨٢، و”سكوت ح نصور” ٢٠٠١. بالإضافة إلى فيلم جزائري/ لبناني اسمه “نهلة” من إخراج فاروق بلوفة عام1979.

أحمد محرز

ربما كانت السمات الشخصية للفنان أحمد محرز هي ما منعته من الانغماس في النشاط الفني، والمشاركة في أعمال فنية أكثر.. إذ رفض احتراف التمثيل وظل متمسكا بصفة هاوٍ.. كما كان يميل إلى العزلة ولا يرحب كثيرا بالتواجد في التجمعات الفنية، ويبدو أن نشأته الأرستقراطية في بيت الطبيب الشهير الدكتور إسماعيل محرز، وكان طبيبا في الخاصة الملكية، وأحد أمهر وأشهر أطباء مصر، كما كانت والدة أحمد إحدى سيدات المجتمع ورائدة نسوية معروفة وهي السيدة شريفة هانم محرز.. لكن المقربين من الفنان الراحل الذي تحل اليوم ذكرى وفاته الخامسة عشرة- يشهدون له بالتواضع الشديد، والانحياز فكريا وعمليا للفئات الكادحة، ورفضه لكل أشكال الاستغلال الطبقي، وترفعه عن حياة الترف في فيلا الأسرة بالزمالك والتي شهدت مأساة وفاة أخيه بعد نشوب حريق هائل أتى عليها.. وفي مقر إقامته في باريس، حيث كان يتلقى العلاج من مرض نادر أصابه وكان سببا في وفاته.. رحم الله الفنان أحمد محرز وغفر له.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock