رؤى

سقوط حارس النعش ووراثة تاج العرش

في الثواني الأخيرة وقبل أن يُنهي مهمته التي سينوب عنه فيها حارس آخر – كان على وشك أن يحل محله– لم يكن ليصمد ولو لثانية أخرى واحدة، فسقط فجأة على الأرض من فرط الإعياء، ولم يهرع نحوه من رفقائه سوى المسموح لهما بالتحرك؛ فحملاه على التو بعيدا عن المشهد. هذا السقوط الذي نقلته كاميرات وسائل الإعلام المتابعة لتحركات نعش الملكة “إليزابيث الثانية” [1926-2022م] التي فارقت الحياة منذ أيام – قد يوحي للبعض بمدى التفاني في العمل والحرص على الالتزام به في بلد يُقدِّر قيمة العمل ويثمّن الوقت. وقد يُذكِّر ذلك المشهد آخرين بإحدى القصص التي وردت في القرآن الكريم، وهي قصة الجن الذين كان منهم من يعمل بين يدي النبي سليمان بإذن ربه، وكان عذاب السعير هو عقوبة من يزغ منهم عن ذلك الأمر.

“فَلَمَّا قَضَيۡنَا عَلَيۡهِ ٱلۡمَوۡتَ مَا دَلَّهُمۡ عَلَىٰ مَوۡتِهِۦٓ إِلَّا دَآبَّةُ ٱلۡأَرۡضِ تَأۡكُلُ مِنسَأَتَهُۥۖ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلۡجِنُّ أَن لَّوۡ كَانُواْ يَعۡلَمُونَ ٱلۡغَيۡبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلۡعَذَابِ ٱلۡمُهِينِ (14)” سورة سبأ

فالعمل أنواع، وإتقان العمل في الدنيا هو أمر ربما لا يجيده الكثيرون، وبالتأكيد هؤلاء لن يتقنوا ما هو سواه. والتكليف بالعمل ليس بالضرورة أن يكون الامتثال له نابعًا من حب ذلك العمل أو الرضا عنه؛ ولذلك فإن هناك من الأعمال ما هو مهين، ومنها ما هو للتعلم واكتساب الخبرة، ومنها ما هو لنيل الثواب في الآخرة.. لأولئك الذين يؤمنون بالبعث والحساب بعد الموت؛ فوفقًا لنص الآية السابقة فإن “آل داود” قد أمروا بالعمل شكرًا لخالقهم، وقليل هم عباد الله الذين يشكرونه والذين يعملون شكرًا له، ويبدو إنه مثلما كان هناك من الجن من سُخّروا لخدمة غيرهم من مخلوقات الله بأمر من الله، فإنه أيضا في عالم الإنس هناك من يُسخِّرون غيرهم من أجل خدمتهم أثناء حياتهم، وأيضا بعد موتهم. وهكذا يستمر الخضوع للقوي ما دام قويا، وما دام هناك اعتقاد بعدم ضعفه في يومٍ ما.

وإذا كنا الآن في خضم انشغال العالم بصورة نعش ملكة المملكة المتحدة؛ فدعونا نشارك الكثيرين اهتمامهم بجنازة تلك الملكة التي ذرف بعض عوام الشعب البريطاني الدموع أمام نعشها، والتي يتهافت على جنازتها قادة العالم أجمع باستثناء أولئك الذين لم تُرسَل إليهم الدعوة لحضور جنازتها.

إن الإمبراطورية البريطانية التي بدأت في الظهور منذ أوائل القرن السادس عشر الميلادي؛ هي إمبراطورية استعمارية استيطانية استعبادية، شأنها شأن بقية الإمبراطوريات الأوروبية التي غزت معظم أنحاء العالم، وما زالت تتصارع على ثرواته التي لا حصر لها؛ بخوضها حروبا شرسة ما زالت تشتعل بكل ضراوة إلى اليوم. وكأن ذلك هو الإرث الروماني القديم، الذي ما زال حيا بفضل من يحملونه طمعا وطغيانا. فهل مُلك هؤلاء الأباطرة والملوك شأنه شأن كثير من مُلك جبابرة الأرض وطغاتها من الممكن أن يحمل ذات يوم الخير لصاحبه أو لمن يخضعون له بذل واستسلام؟!

لقد دام مُلك الملكة “إليزابيث الثانية” قرابة السبعين عامًا، وإذا كان ذلك المُلك، هو مُلك دستوري غير مطلق وتحكمه القوانين بالإضافة إلى إن المملكة المتحدة ذاتها تخضع لنظام الحكم البرلماني، فإن ذلك المُلك الدستوري لا يشمل فقط المملكة المتحدة ذات الأقاليم الأربعة (إنجلترا وأيرلندا الشمالية واسكتلندا وويلز)، بل يضم أيضا ثلاث دول هي: كندا وأستراليا ونيوزيلندا، بالإضافة إلى عدة جزر تابعة لسيادتها، ومن ثم فهي مرتبطة بدستورها ولكنها ليست جزءًا منها، هذا إلى جانب ما يعرف بأقاليم ما وراء البحار  البريطانية (وهي أربع عشرة ولاية تابعة للمملكة المتحدة لديها حكم ذاتي ولكنها تخضع لها فيما يتعلق بالنواحي الدفاعية). وهكذا فإن الملكة “إليزابيث الثانية” كانت أيضًا الملكة الدستورية لأربع عشرة دولة من دول الكومنولث وهو ذلك الاتحاد السياسي الذي يضم أربعة وخمسين دولة كانت فيما سبق أقاليم تابعة للإمبراطورية البريطانية وكانت الملكة “إليزابيث الثانية” هي رئيسة ذلك الاتحاد.

وبخلاف المُلك والألقاب الملكية والنفوذ السياسي فقد لاحظنا أيضا الاحتفاء الديني الضخم؛ ومن ثم الحداد الشعبي العام بسبب وفاة الملكة “إليزابيث الثانية”، وهذا يعود إلى رئاستها لكنيسة إنجلترا الأنجليكانية طوال فترة مُلكها، ومن ثم فهي تحمل ألقابًا دينية مثل: “حامية الإيمان” و”حامية العقيدة” وذلك لكونها الحاكم الأعلى لكنيسة إنجلترا الرسمية والوطنية التي تعود أهميتها لكونها الكنيسة المؤسسة للمذهب الأنجليكاني منذ نشأتها في عهد الملك “هنري الثامن” [1491-1547م] ملك إنجلترا الذي أدى اصطدامه مع روما إلى انفصاله عن السلطة البابوية الكاثوليكية، وتعيين نفسه رأسًا لكنيسة إنجلترا المنفصلة عن الكنيسة الكاثوليكية، والتي أصبحت ضمن الكنائس البروتستانتينية.

ومن هنا يتضح أن ذلك الإرث الإمبراطوري السياسي والديني هو إرث غير عادي امتزج منذ نشأته بالجرائم الدموية. وإن كان قد حمل معه الثقافة والعلم والفن إلى العالم أجمع، فإنه أيضا قد زرع الخراب والدمار في كثير من البقاع إلى الآن. ويكفي أن الكيان الصهيوني الاستيطاني هو إحدى الثمار الخبيثة لذلك المُلك وتلك الإمبراطورية التي كانت في ذروة مجدها وتوسعها أضخم إمبراطورية عرفها العالم، والتي استمرت على مدار مئة عام القوة العالمية الأولى، والتي بسطت سلطتها في العقد الثاني من القرن العشرين على ما يقرب من ربع سكان دول العالم آنذاك، والتي ما زالت لغتها الإنجليزية هي الأكثر انتشارا حول العالم.

فهل من الممكن أن تغيب شمس تلك الإمبراطورية مثلما أفل نفوذها التوسعي من قبل؟ خاصة بعدما فقدت ملكة كانت تبدو قوية طوال الوقت، ولا أحد يدري مدى قدرة وريثها على حماية العرش الذي تبلغ قيمة تاج مُلكه حوالي 28 مليار دولار، والذي يتناوب على حراسته وحراسة نعشها ليل نهار حراس يبدون كما التماثيل! وإن كان هؤلاء الحراس الأفذاذ يُظهِرون أمام العالم مدى قدرتهم على الالتزام والانضباط في العمل، فإنهم أيضًا في نفس الوقت ربما يوحون للإنسانية بمواصلة التحرر من أغلال الاستعباد وآفات الطغيان.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock