لا يجب أن ننظر إلى الدولة كمفهوم مجرد بمعزل عن مفاهيم أخرى تتجادل معه بحيث تجعله أكثر دينامية، وأكثر قبولا لمتغيرات عصرنا؛ لأننا إذ فعلنا ذلك جعلنا من الدولة وثنا لا يحق لأحد انتقاده أو مساءلته، ومع اعترافنا أن الدولة إنما هي تلك الروح التي تسري بين مواطنيها بالرضا والقبول، وأنها ارتباط صارم بأدوار تؤدى ومقومات تراعى، وهذا مما يمنحها القدر الأكبر من وجودها المتحقق على الدوام؛ إلا أننا نؤكد على أنها حالة تتأكد بالانحياز لمواطنيها كما تنتفي إذا أصبحت على الجانب الآخر، أو إذا تخلت عن سيادتها واستقلاليتها لحساب أي من كان.
يقول هنري لوفافر “إنّ كلمة حكم أو سلطة لا تعني المدلول الذي تؤدّيه كلمة دولة، فالسلطة ليست بالضرورة سلطة الدولة ولكنّها أداة في يد الدولة، وبها تحاول تأسيس السيطرة وفق مبدأ المعاقبة وآليات المراقبة التي تسعى بهما الدولة إلى إجبار المواطن على احترام القانون وإرغامه على التوافق وأدبيات العيش مع الآخر وفق مبدأ الحقّ والواجب”.
ووفق هذا المبدأ أيضا يتأسس مفهوم المواطنة الذي نعني به ذلك الشعور بالانتماء الذي يربط المواطن بالدولة، ويجعله في حالة انصياع لها؛ محترما لقوانينها، مساهما بقدر استطاعته في بقائها، وفرض سلطانها.. انطلاقا مما تمثله له من أهمية قصوى، فهي التي تأخذ بيده من “وضع حب البقاء إلى وضع حُسن البقاء”.
إن الدولة المتحققة في وجود مقوماتها كالأرض والناس والسيادة والقوانين والرضوخ التام لها من جانب مؤسساتها – هي ليست في معناها التام بحسب “جورج بيردو” لا تخرج عن كونها فكرة؛ فهي لا تنتمي لعالم الظواهر المحسوسة بقدر ما تنتمي لعالم الفكر”.
هذا المعنى التام للدولة – الذي نؤكد عليه – لا يصل إلى اكتماله عبر فرضها بالقوة. لهذه العبارة علاقة بما سبقها من قول جورج بيردو من أن الدولة فكرة تتحقق بوجود حالة الرضاء العام؛ لا القوة الباطشة.. وهذا التحقق الرضائي هو ما يجعلها موجودة على وجه الحقيقية وليس على سبيل الاعتبار.. بمعني أن تكون غائبة فعليا، بسبب تعنت النظام السياسي أو السلطة الاستبدادية.. لأن وجودها لا يتحقق وفق خضوعها لأهواء السلطة السياسية التي كثيرا ما ترغمها على التفريط في حقوق مواطنيها، ما يعد مخالفة خطرة للعقد الاجتماعي القائم بينها وبين ومواطنيها، والذي على مبدأ التوافق عليه تأسست واكتسبت مشروعيتها، ومن ثم استفادت سيطرتها ووجوب الانصياع لها.
إن هذه العلاقة بين الدولة ومواطنيها يجب أن تظل حالة إيجابية قابلة للتحسن المستمر، ما بقيا هما طرفاها الوحيدان ودون تدخل أطراف أخرى؛ لأن ذلك من شأنه أن يفسدها، لأنها إذا تحولت إلى تلك الوضعية الأخرى؛ اصطبغت بالعداء وتحولت إلى المناوءة، وبالتالي تصبح العلاقة عبئا يتطلب التخفف، أو كمًا مُهمَلا يُضعف الدولة، ويسير بها قرب حالة الفوضى التي هي نقيض الدولة.
ومن أجل تخليص مفهوم الدولة من أي شوائب، يمكن أن تعلق به ويكون من شأنها أن تكدّر تلك العلاقة التي يمكننا أن نسميها الآن بـ “المواطنة”. نعود إلى السلطة السياسية بوصفها أبرز الأطراف المؤهلة لإفساد المواطنة؛ خاصة إذا كانت لديها تلك الاستجابة الكبيرة لشروط الاستبداد، ونبذ المشروعية المستندة إلى حالة الرضا لدى المواطنين، إلى حالة أخرى تستند إلى سلطان علوي، فيكون الحكم بالحق الإلهي، أو بسلطة الأمر الواقع، وليس مستمدا من المحافظة على الأدوار التي من الواجب على الدولة القيام بها؛ مستخدمة السلطة السياسية كأداة لتحقيقها- فيصبح الوضع معكوسا تماما، ومنذرا بتهافت حالة الدولة وانتفاء شروطها الموضوعية.
ولعل الحرص الدائم من قبل كل سلطة استبدادية على ترسيخ هذا الخلط بين المفاهيم؛ هدرا للحقوق واستئثارا بالسلطة؛ بل واختطافا للدولة، أو إنهاءً لحالتها.
ربما تبدى ذلك التحول جليا في دولة المدينة؛ عندما طولب الخليفة الراشد عثمان بن عفان بالتنحي عن منصبه، بعد أن ذهب الغضب بالناس -اعتراضا على سياساته- كل مذهب؛ فإذا به ينطلق في رفضه من منطلق ينأى بالكلية عن كل ما أسس له الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم- وصاحباه فيقول: “ما كنت لأخلع قميصا قمّصنيه الله” وكأنه يضع منهجا في الخلط والتملص من شروط المشروعية الواجبة لسلطة الوقت- سيسير عليه كثيرون بعد ذلك ومنهم معاوية الذي وصل به الأمر إلى الزعم بأنه خليفة الله، فما أخذ- دون رقيب أو حسيب- فله، “وما ترك للناس، فبالفضل منه” ثم يأتي من بعد ذلك الخليفة المنصور فيزعم أنه “سلطان الله على الأرض”.
وإذا كنا ما زلنا في حال النظر لتلك العلاقة الجدلية بين الدولة ومواطنيها، وهي علاقة حرجة قامت على وجه الضرورة وفق شروط صارمة، ما إن يُغض الطرف عن بعضها تحت أي زعم- تصبح في حال من التردي؛ فتفقد قدرتها على التحسن، وتقع تبعة ذلك على الحكام الذين لا يعون تلك الأدوار، ولا يتطلعون إلا إلى تثبيت دعائم حكمهم، مهما كانت فداحة ثمن ذلك؛ حتى لو أصبح كيان الدولة ذاته على حافة الانهيار، وهذه الحالة من النزق أشد ما يتهدد الدولة؛ لأنها لا تستقيم وموجبات بقائها.. ما يستدعي قول أفلاطون عن مدينته الفاضلة “لن تعرف المدينة لآلامها نهاية إلاّ إذا تفلسف حكّامها أو حكم فلاسفتها”. ومعنى ذلك أن يصبح الحكم مستنيرا راشدا آخذا بالأسباب الموضوعية لبلوغ الأهداف؛ محترما لقيم العلم، يفتح الأفق أمام المواطنين للمشاركة الفاعلة من أجل صالح الجميع.
لكن السلطة عندما ترى أن الحقوق الواجبة للمواطنين ليست محل اعتبار، لأسباب تتعلق بخطورة مرحلة ما أو تخففا مما تعتبره أعباءً يُسقِط بذلك مبدأ الاتفاق الذي يرى روسو أنه “الأساس الوحيد الباقي للسلطة الشرعية بين الناس” وهو يرى كذلك أن الشعب الذي يقدّم الطاعة دائما، ولا يكون فاعلا في علاقته بالدولة، خوفا من بطش السلطة أو إيثارا للسلامة أو اكتفاء بما حققه في تلك العلاقة – فإنه يعرض كيانه للتلاشي، ويضيع صفته كونه شعبا. وهذا هو مكمن خطورة حالة الاستسلام الكامل للأداة السياسية، لأن ذلك من شأنه محو أساس العلاقة وهو تهديد واضح لكل الأطراف بأن تكون حالة الفوضى وشيكة الحدوث.
ومن اجل أن نحفظ للمواطنة طابعها القائم على الحق والواجب يتعين علينا أن نوجه إلى أن المواطنة تستلزم التربية التي تعزز مفهوم الانتماء، كما يجب التأكيد على أن “روح الديمقراطية هي المواطنة؛ فلذلك قبل أن نتكلم عن الديمقراطية يجب أن نعي حقيقة المواطنة التي هي القلب النابض لمفهوم الديمقراطية، من هنا ضرورة التطرق إلى حقوق وواجبات المواطن في الدولة التي ينتمي إليها، فما الحقوق الأساسية لمفهوم المواطنة في دولة ديمقراطية؟ فيترتب على المواطنة الديمقراطية ثلاثة أنواع رئيسة من الحقوق والحريات التي يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين في الدولة دونما تمييز من أي نوع ولا سيما التمييز بسبب العنصر أو اللون أو اللغة أو الدين أو أي وضع آخر وهذه الحقوق هي الحقوق المدنية، الحقوق السياسية، الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”.
إن مفهوم المواطنة هو مفهوم بالغ التعقيد، يرتبط تاريخيا بتطورات ومراحل أدت به إلى حال من الاكتمال، وهو مفهوم ذو أبعاد متعددة ثقافية وسلوكية وسياسية وقانونية، ومنها ما هو “وسيلة أو غاية يمكن بلوغها تدريجيا” لذلك فمفهوم المواطنة هو مفهوم وثيق الصلة بالنضج السياسي والتقدم الحضاري ومستوى التعليم وماهية الثقافة، كما يتعلق بالمجتمع ومتطلباته ومدى قدرته على الاستجابة لتطلعات مواطنيه نحو تعزيز المبادئ الداعمة لحقوق المواطنة.