رؤى

في مفهوم النسخ: دلالات إعادة الترتيب الإلهي لآيات القرآن

ما هو مفهوم “النسخ”؟ وما معناه؟ ما هي دلالة المصطلح في آيات الذكر الحكيم؟ ما هو الناسخ؟ وما هو المنسوخ؟ والأهم هل من الصحيح أن النسخ يعني المحو والإلغاء؟ أم يؤشر إلى الكتابة والإثبات؟ هل هناك ناسخ ومنسوخ في القرآن الكريم؟ وهل من المنطقي أن تنسخ آية من آيات التنزيل الحكيم، آية أخرى أي تمحوها وتلغي ما تتضمنه من حكم إلهي؟

هذه وغيرها كثير.. تساؤلات تفرض نفسها فور الحديث عن ما يسميه البعض “الناسخ والمنسوخ” في القرآن الكريم؛ وهي إشكالية كبرى تأتي ضمن إشكاليات التعامل مع آيات الكتاب، عبر عدد من المفاهيم الخاطئة، في المعنى وفي الدلالة، تلك التي تعود إلى أسلوب الاجتزاء المُتبع من جانب الكثيرين، ممن حاولوا التعامل مع آيات الله البينات. وبالتالي فإن تصحيح الخطأ يمكن أن يساهم في إعادة رسم ملامح مفهوم “النسخ” وتبيان دلالة المصطلح، كما تشير إليها مواقع ورود اللفظ في التنزيل الحكيم.

وهنا لنا أن نؤكد  من جديد على أن أسلوبنا يعتمد على “التحليل الدلالي” عوضًا عن التفسير، وعلى “التبيين المنهجي” في إطار الوحدة القرآنية، بطرح الجزء في إطار الكل، عوضًا عن التفسير التقليدي للكتاب في أجزائه.

في هذا الإطار، لنا أن نقترب من دائرة الدلالة التي يؤشر إليها مصطلح النسخ، كما ورد في التنزيل الحكيم؛ وليكن مدخلنا هو التعرف ـمبدئيًاـ على مسألة “إعادة التركيب” القرآني، لآيات التنزيل الحكيم.

إعادة التركيب القرآني

لعله من النافل القول أن إعادة ترتيب آيات القرآن الكريم، كانت قد تمت “وقفا” من عند الله سبحانه وتعالى، وعلى يد رسوله الكريم عليه الصلاة والسلام، ولم يتبق لمن أتى بعد رسول الله وخاتم النبيين سوى “الاستنساخ” وربط الصحائف؛ إذ لم يُدرك الجاحدون معنى أن يقوم الرسول الكريم بإعادة ترتيب الآيات، وقفًا، على غير مواضع النزول المتسلسلة زمنيًا. وقد كانت إعادة الترتيب، أو بالأحرى “إعادة التركيب” القرآني، نافذة في حياة رسول الله عبر “قراءة” مع الروح القدس جبريل عليه وعلى خاتم الأنبياء أفضل الصلاة والسلام.

وقد رد الله سبحانه وتعالى على أولئك الجاحدين بقوله: “وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ • قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ” [النحل: 101-102].. ففي هاتين الآيتين المتتاليتين، يؤكد المولى عز وجل على إعادة الترتيب، أو التركيب، ورد على حجج أولئك بـ”علمه” هو سبحانه وتعالى في مُقابل “جهلهم” هم لحكمة إعادة التركيب بقوله: “بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ”.

وهنا، لنا أن نلاحظ أن إعادة التركيب القرآني، قد جعلها سبحانه وتعالى “إبدالًا” لمواقع الآيات، من موضع إلى موضع آخر. فبداية سورة العلق، وهي حسب ما هو معروف، أول آيات التنزيل، جُعِلت في أواخر المصحف؛ بل وأُلحِقت بها الآيات من  “كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى” [6] إلى “كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ” [19] ليستقيم ويتكامل المعنى المنهجي والمعرفي، الذي سنحاول تبيانه لاحقًا في مقالات ستكون مُخصصة لهذا الغرض.. أيضًا تم تركيب آية الختام “…الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا…” في سورة المائدة [3] في الجزء السادس من القرآن.

إبدال مواقع الآيات

يعني هذا، في ما يعنيه، أن “إعادة التركيب” القرآني، كما حدد النص الإلهي، هي “إبدال” لآية مكان أخرى، ووضع الآية المستبدلة المكان في مكان آخر. إذ كما يبدو بوضوح ليس هناك آية تسقط، لأن كل ما نزل؛ نزل “بِالْحَقِّ” كما يؤكد ذلك قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ” كما جاء في سورة النحل؛ فإذا سقطت آية، أو أُسقِطَت يسقط “الْحَقِّ” كله.

ولا داعي في هذا المجال لأن يحتج أحدهم بـ”الرواية” المزعومة “إن داجنًا قد أكلت الصحيفة، فسقطت إحدى الآيات” فهذه “مروية” لا تستحق أية مناقشة. لا تستحق المناقشة فعليًا؛ لأن “الخطاب القرآني” واضح وصريح.. آيات تتبدل مواقعها فقط، وقرآن متنزل بالحق.. لا تسقط آياته؛ وبالتالي لا يُنسخ بعض آياته ببعضها الآخر.

وهنا نؤكد على مقولة المفكر السوداني الكبير محمد أبو القاسم حاج حمد رحمه الله، في كتابه “منهجية القرآن المعرفية، 2003” التي نتفق معها تمامًا، إلى حين نصل إلى الاختلاف معه، ومع المفكر السوري الكبير محمد شحرور.. مقولة حاج حمد، التي يشير فيها إلى أن “من ابتدع الناسخ والمنسوخ، فقد كان يحاول أن يحل مشكلته هو، مع القرآن، حين لم يتفهم منهجيته الكلية الرابطة للآيات، التي بدت له متضاربة أو متشابهة أو حتى متناقضة مع بعضها، فأوجد علم؛ الناسخ والمنسوخ الذي لا يعني سوى إقرار أن هناك تناقض في تركيب القرآن، ومضمونه.. فظن و “إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ” أنه بمجرد القول أن في القرءان ناسخًا ومنسوخًا، قد حل الإشكال؛ وما أدرك بذلك أنه قد طعن في الحق الذي أنزل القرآن”.

ومن هنا، فإن مثل هذا القول لا يُضاهيه إلا القول، إياه، بـ”سقوط” بعض آيات القرآن؛ كأن الله، سبحانه وتعالى، لم يكن مُحيطًا وعالمًا بما يُنزل: “وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ… بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” [النحل: 101]. بل إن الخطاب القرآني إضافة إلى أنه ينفي وجود ناسخ ومنسوخ، بمعنى المحو والإزالة في القرآن – يؤكد على الالتزام الإلهي بجمع القرآن وقفًا، وعبر الروح القدس الذي “نَزَّلَهُ… مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ”، وذلك كما جاء في قوله سبحانه وتعالى: “لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ • إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ • فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ • ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ” [القيامة: 16-19].

فكيف نترك قول الله سبحانه وتعالى لمرويات البشر(؟).. وما هو إذن مفهوم “النسخ” كما ورد في التنزيل الحكيم؟ غير إن هذا هو محور حديثنا القادم، بإذن الله تعالى.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock