كان الوعي الذي خلقته ثورة العرابيين في نفوس المصريين لايزال مستمرا، وهذا ما أدركه الإنجليز مبكرا، فكان ترتيب وصول فؤاد للعرش المصري رغبة بريطانية تقطع كل طريق نحو تغيير شكل وطريقة الحكم في مصر, يقول محمد عودة في كتابه “فاروق بداية ونهاية” “تسلم الأمير أحمد فؤاد آخر أنجال الخديوي إسماعيل يوم 9 أكتوبر سنة 1917، رسالة العمر التي ظل يحلم بها، وكافح من أجلها جاهدا منذ عاد من إيطاليا.. كانت الرسالة تقول: “يا صاحب العظمة السلطانية بأمر جناب وزيرالخارجية لحكومة صاحبة الجلالة البريطانية…, وأتشرف بأن أبلغ عظمتكم السلطانية، انعطاف حكومة جلالة الملك لما أصاب شخصكم الكريم من دواعي الحداد, وإني مكلف في الوقت نفسه بأن أحيط عظمتكم بأنه لما كان نظام الوراثة علي العرش لم يوضع حتي الآن وكنتم عظمتكم بعد طبقة البنين الوارث الشرعي المتعين تبعا لوارثة العرش, فإن حكومة صاحب الجلالة البريطانية تعرض علي عظمتكم قبول هذا العرش الشامي.
عند بلوغه السابعة من عمره أُلحق فؤاد بالمدرسة الخاصة بقصر عابدين، والتي أنشأها الخديوي إسماعيل لتعليم أبنائه، واستمر بها عدة سنوات، ثم سافر بعد ذلك إلى إيطاليا وهناك عاش حياة الضياع والإفلاس وخلافه.. عانى فؤاد أثناء فترة إقامته في إيطاليا؛ فسافر إلى تركيا من أجل مقابلة السلطان عبد الحميد ليتوسط له حتى يعود لمصر، وبالفعل أمر السلطان بعودته إلى مصر وألحقه بالعمل في الجيش المصري.
يشير محمد عودة في كتابة “كيف سقطت الملكية في مصر” إلى أن السلطان أحمد فؤاد درس جيدا القوى المؤثرة على الأوضاع السياسية في مصر، فوجد أن الاحتلال الإنجليزى هو أعتى تلك القوى، فالإنجليز هم من عزلوا أباه، وهم القوة التي ساندت الخديوي توفيق ضد أحمد عرابى، بالإضافة إلى أنهم هم من عزلوا الخديوي عباس حلمي الثاني؛ عندما كان في زيارة للأستانه، ولم يُسمح له بالعودة إلى مصر.
لذلك كان السلطان فؤاد يرى ضرورة المهادنة مع الاحتلال، بل واتخاذه سندا له، لذلك حرص دائما على أن تكون علاقته بالإنجليز علاقة طيبة، وقد ظهر هذا جليا عندما وضع إمكانيات البلاد في خدمة الجيش الإنجليزي، بالإضافة إلى تبرعه بثلاثة ملايين جنيها من ميزانية الدولة – وهو مبلغ ضخم في ذلك الوقت- مساهمة من مصر للحكومة البريطانية في مواجهة نفقات الحرب.
وهناك القوى الأخرى التى رأى السلطان فؤاد تأثيرها على الأوضاع السياسية في مصر, وهى الحركة الوطنية التي نشطت قبل الحرب العالمية الأولى، وقد كانت تسعى إلى إقامة حكم دستوري، وهو الحكم الذى ينتقص من سلطة القصر، إلى الحد الذى يصبح فيه الملك “يملك ولا يحكم” بالإضافة إلى حكومة شرعية منتخبة من الشعب يكون بيدها مقاليد الأمور في البلاد, أما القوى الثالثة فقد كانت القصر كمؤسسة قائمة لها سلطاتها الموروثة، تساندها طبقة أرستقراطية ورثت مركزها فى المجتمع بمساندتها للقصر.
يقول د. يونان لبيب رزق في كتابة “فؤاد الأول المعلوم والمجهول” “تولي فؤاد الأول السلطنة المصرية, يوم 21 سبتمبر1917، بعد ثلاثة أسابيع من وفاة السلطان حسين كامل.. كان القرار الخاص بتنازل كمال الدبن حسين كامل عن العرش جاهزا في دار المندوب السامي البريطاني السير ونجنت، بحضور حسين رشدي باشا رئيس الوزراء, وكان فؤاد يتابع عن كثب عبر مصادره سير كل تلك المفاوضات, فهو لا يريد نزاعا مع أحد من البيت العلوي خصوصا بعد واقعة مذبحة “البرنسات” في مايو من عام 1898، حيث تعرّض الأمير أحمد فؤاد لاعتداء من الأمير أحمد سيف الدين شقيق الأميرة شيوه كار، الذي أطلق عليه النار في نادي محمد علي بسبب نزاع بينه وبين زوجته الأميرة شويكار خانم أفندي، فاستنجدت بأخيها أحمد سيف الدين، الذي أطلق النار عليه، لكنه لم يمت وسببت له الإصابة بعض المشاكل في حنجرته وضخامة في الصوت.
يعود مشهد فؤاد السلطان المتوج بقرار إنجليزي بحت، عبر زيارة الولاء التي قام بها يوم تنصيبه لدارالمندوب السامي السير ريجنلد ونجت القومسيرالعالي كما قبل الملك يد الليدي قرينة المندوب بنفسه، وهي سقطة كبري ظلت في تاريخ فؤاد الأول, ولم يكتف بحضور نائب الملك (المندوب السامي حفل التنصيب) وقائد الجيش البريطاني بمصر وحضور ملاك ديون مصر أصحاب صندوق الدين وكل المستشاريين الإنجليز للوزراء ورؤساء المديريات والمصالح الحكومية, وفي يوم 16 أكتوبر قرر السلطان فؤاد تغيير كل ألقاب البيت العلوي، كي تكون علي النسق الإنجليزي فزوجة السلطان الراحل حسين صار لقبها صاحبة العظمة السلطانية ملك كما منح الأمير المتنازل عن العرش لقب صاحب السمو، وكذلك الأميرة فوقية, ويبدو أن فؤاد أدرك حقيقة واحدة وهي ترتيب البيت العلوي بالمنح, فكل لقب يساوي مخصصات مالية وولاء له عبّر عنه في طريقة حلف اليمين له في العلن، وعلي الكتب السماوية وليس القرآن الكريم فقط.
في يوم 13نوفمبر 1918، يقدم فؤاد على خطوة جريئة جدا, حيث كان يري غضب المصريين في الشوارع ضد الإنجليز، وهو عامل ضغط مهم عليهم فطلب فؤاد تعديل صيغة خطاب توليه عرش مصر بالوراثة، وليس بالتكليف البريطاني وطلب سلطة توسيع حكمة الذاتي لمصر- كما جاء في ص 35لكتاب فؤاد الأول المعلوم والمجهول- وكان رد الإنجليز حاسما، فرفض منحه أي صلاحيات حتي في تشكيل الوزارة، سوي بقدر ما يقرر المندوب السامي, في حين لم يمانع المندوب في طلب تغير كلمة في قرار التعيين الذي كان قد دخل التاريخ والوثائق بالصيغة الأولي, ثم قرر فؤاد أن يسأل عن خطاب السلطان الراحل الذي كان بحوزة حسين رشدي باشا بخصوص استقلال مصر، خصوصا بعد إعلان ولسن في 8 يناير حق مصر وكل الشعوب في الحرية والاستقلال, وكما جاء في حوليات أحمد شفيق باشا ص 177، فقد فكّر طوسون في تشكيل وفد التفاوض مع الإنجليز, لكن حسين رشدي باشا كان قد سبق الملك بخطوة وعاد لطرح فكرة تشكيل وفد جديد، ويعترف شفيق باشا في حولياته الجزء الأول بأن حسين رشدي كان يرتب مقابلات الزعماء المصريين في مكان سري، ويعطيهم تفاصيل مهمة حول كيفية الضغط علي المحتل سواء بالبيانات والخطط والمظاهرات في الشوارع, في الوقت الذي سافر فيه السلطان فؤاد للإسكندرية يوم 18نوفمبر 1918، للراحة بعض الوقت، وحرص سعد زغلول ورفاقه علي أن يظل الوفد شعبيا تماما, ولم يفسر شفيق باشا سر غياب السلطان فؤاد عن الحدث الجلل، وهو المطالبة بالحرية والاستقلال.. وفي ص 182من نفس الكتاب يلمح شفيق باشا لمسألة مهمة فيقول “من حق زعماء الحركة الوطنية معرفة دعم السلطان فؤاد لتوسيع تشكيل الوفد لكنه ترك الأمر لجماعة من الشعب”.
يؤكد المؤرخ يونان لبيب رزق في كتابه “الملك فؤاد الأول المعلوم والمجهول” حياة هذا الملك مقسمة لعدد من الفترات، أولا أثناء تواجده خارج مصر في الفترة التي كان والده الخديوي إسماعيل منفيا خارج البلاد، ثم عودته وصعوده لتولي حكم مصر، ثم أثناء فترة حكمه والفترة السياسية للبلاد، ثم دوره في بناء عدد من الهيئات والمؤسسات، كبنك مصر ومصر للطيران وبنك التسليف الزراعي، وإنشاء الجامعة الأميرية ومجمع اللغة العربية والإذاعة الحكومية وغيرها, وعرف عن الملك فؤاد اختلاف المؤرخين حوله، فهو من ناحية عرف بمهادنته للإنجليز واصطدامه بالحركة الوطنية، ومن ناحية أخرى عُرف عهده بالإصلاحات المتعددة على كافة الأصعدة، وجاء كتاب لبيب كدراسة موضوعية عن حياة الملك فؤاد الأول.
فحرص فؤاد دائما لحماية كرسي العرش, فإذا فشلت المفاوضات والتظاهرات بقي كرسيه في أمان، وإذا نجحت فلكل حادث حديث, خصوصا وأن فؤاد عاش مع بعض زعماء الوفد في أثناء رئاسة الجامعة حوالي سبع سنوات وله علاقة مع سعد زغلول وصفت بالمتوترة لبعض الوقت, ولم ينس فؤاد سخرية سعد باشا منه يوما ما, وجاء كتاب رأفت غنيمي “ثورة بلا قائد” أن دستور 1923، الذي صدر لمصر المستقلة، أعطى الملك فؤاد صلاحيات واسعة جدا في الوقت الذى كان فيه الملك حليفا للإنجليز، وهم الذين أجلسوه على سُدة الحكم، ما أوجد صراعا بين القصر والزعماء الوطنيين عبّر عنه سعد زغلول بقوله “إذا كان من الخطر أن توضع سلطة كبيرة في أيدى الملوك الذين هم بمعزل عن نفوذ أجنبي، فالخطر من ذلك أعظم وأشد في بلاد يسود فيها النظام الأجنبي ويدعى أن العرش في سلامة بفضل جنوده”.
ويؤكد محمد عودة في كتابة “كيف سقطت الملكية في مصر” أن الملك فؤاد كان متعاونا مع الإنجليز و يكره فكرة الوطنيين ومنهم سعد زغلول، ويكره فكرة إعطاء الشعب حريته أو إعطائه حكومة برلمانية, فقد صعدت ثورة 19بزعامة سعد، لِقِمَة السلطة الشعبية عند المصريين , وفي الوقت نفسه كان فؤاد في حالة رعب من حب المصريين الجارف لزعيم الثورة، فقرر إقالة البرلمان في 23 مارس عام 1925.
وجاء في كتاب حوليات مصر السياسية لأحمد لشفيق باشا “كان فؤاد يتعمد الهروب للأمام بكثرة الوزارات التى شكلها بقرارات منه، وكان عددها ثلاثة وعشرين وزارة من 9 اكتوبر 1917 – 15 مارس 1922 وهي وزارة حسين رشدى باشا الثالثة ( 10 اكتوبر 1917 – 9 أبريل 1919) ثم وزارة حسين رشدى باشا الرابعة ( 9 أبريل – 22 أبريل 1919 ) ثم وزارة محمد سعيد باشا الثانية (21 مايو – 20 نوفمبر 1919) وتلتها وزارة يوسف وهبة باشا الأولى ( 20 نوفمبر 1914 – 21 مايو 1920 ) ثم وزارة محمد توفيق نسيم باشا الأولى ( 21 مايو 1920 – 16 مارس 1921 ) ثم وزارة عدلى يكن باشا الأولى ( 19 مارس – 24 ديسمبر 1921 ) ومن ( 15 مارس 1922 – 28 ابريل 1936 ).
شكلت بذلك سبع عشرة وزارة من أهمها وزارتي سعد زغلول والنحاس باشا, وطوال الوقت كان الشعب المصري يناضل ويرتقي شهداؤه أثناء التصدي لقوات الاحتلال, فكانت ثورة 19 هي الكنز الذي حصده فؤاد، فتلك الدماء جعلت منه ملكا بصلاحيات ونفوذ, وتبقي ثورة 1919، سبب رفع حمايتهم عن مصر بمقتضى تصريح فبراير 1922، الذي اعترفت فيه إنجلترا بمصر دولة مستقلة ذات سيادة مع تحفظات.
وفي مارس 1922 أصدر السلطان فؤاد أمرا بإعلان نفسه ملكا على مصر, ثم أصدر الدستور في إبريل من نفس السنة.
ويكشف د يونان لبيب رزق عن الجوانب المجهولة في حياة الملك فؤاد, ودوره في الشئون الاقتصادية والثقافية، وقد يرجع إلى أن فؤاد كان أول حاكم لدولة مصر المستقلة في التاريخ, صحيح أن الاستقلال جاء منقوصا بسبب التحفظات الأربعة، وصحيح أن العديد من قواعد الاستقلال حاول بعض آباء فؤاد إرساءها، وخاصة في عهد محمد علي وإسماعيل إلا أنه في كل الأحوال ظلت مصر ولاية عثمانية، كما أن محمد علي وإسماعيل قد اهتما أكثر بمظاهر الاستقلال في الخارج والتي كان أبرزها إقامة العلاقات السياسية المباشرة مع الدول الأجنبية، أما الاهتمام بأثر الاستقلال على الأوضاع الداخلية وخاصة الاقتصادية والثقافية فلم يعتنى به بدرجة كافية.
كما أن يد الأجانب في هذين الميدانين أصبحت أخف وطأة بعد صدور تصريح 28 فبراير، حتى إن رجلا مثل طلعت حرب جهر صراحة بأن المساهمين في بنك مصر لا بد أن يكونوا من المصريين فقط، وقد زادت الأنشطة التي اقتصرت على المصريين فقط بعد صدور قانون الجنسية 1929. وكانت فرصة الملك فؤاد في التحديث أكبر كثيرا من أسلافه، حيث سادت في عهده روح الرغبة في التغيير بين المصريين على عكس الحال في عهد أبيه وجده، حيث كانت مبادراتهما فردية ولم يكن للمصريين دور حيوي فيها.