رؤى

في دلالة المصطلح: مفهوم النسخ الإلهي.. في آية سورة الحج

بداية.. لنا أن نؤكد على أن الدلالة المفهومية لكلمةالنسخفي آياتالتنزيل الحكيم، قد حُرِفَت، نتيجة الدلالة الذهنية العربية في مرحلةعصرالتدوينلتكوننسخًابالمعنى المتداول للأسف: المحو والإلغاء، لآياتالقرآن بعضها بعضًا؛ في حين أن مفهوم النسخ في التنزيل الحكيم لايعني، ولا يمكن أن يعني إبطالًا لبعض الآيات أو إسقاطا لها.

والواقع، أن التحريف الذي لحق بكلمة النسخ إنما يعود إلى حالة عقليةتاريخية، وإسقاطاتها الذهنية الخاصة بها على القرآن الكريم، أي: مبادئها العقلية وأشكال تصورها للوجود؛ فكان هذا الخلط الخاطئ فيفهم دلالة مصطلحالنسخفي التنزيل الحكيم، على النحو الذي فُهِم به.

إذ القاعدة الأساس التي ينبني عليها مفهوم النسخ، في التنزيل الحكيم،كما وصلنا إليها من خلال آيتي الجاثية والأعراف، في مقالنا السابق، هيأنه مفهوم يؤشر إلىتدوين شيء بشكل يكون صورة طبق الأصل منأصل الشيء“.. أي: “نقل صورة شيء إلى مكان، مختلف عن مكانالشيء الأصلي“.

في هذا الإطار، تأتي آية النسخ في سورة الحج.

حروف العطف

في سورة الحج، وهي الموضع الثالث الذي ورد فيه مصطلح النسخضمن مواضع أربعة.. يقول سبحانه وتعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْرَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِيالشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [الحج: 52].

وهنا، لنا أن نلاحظ أكثر من جانب.. له علاقة بحروف العطف، في الآية:

فمن جانب، لنا أن نلاحظ العطف الذي ورد في سياق الآية، عبر حرفالواووهو عطف النبي على الرسولمِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّوذلك يوجبالمُغايرة، وهو من باب عطف العام على الخاص؛ وهذا يلغي تماما قولبعض الفرق الإسلامية بأن كل رسول نبي وكل نبي رسول ولا فرق بينهما،وهو قول المعتزلة. كما أنه يضع علامة استفهام كبرى على قول البعضالآخر بأن كل رسول نبي وليس كل نبي يكون رسولًا؛ إذ إن مثل هذا القول،وإن كان يُفرق بينالرسول النبيوبينالنبيإلا أنه لا يُفرق بينالرسول وبين النبي، من حيث الدلالة اللغوية لكل مصطلح منهما على حدة.

وأيا يكن الأمر، فإن التنزيل الحكيم كان قد ذكر أكثر من مثال علىالرسول النبي، أحدها: محمد عليه الصلاة والسلام.. كما جاء في آيتينمتتاليتين من سورة الأعراف.. في قوله سبحانه: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَالنَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ…” [الأعراف: 157].. وفي قوله تعالى: “… فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّالَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [الأعراف: 158]. أما المثالالآخر، فهو موسى عليه السلام، كما في قوله سبحانه: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِمُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا” [مريم: 51]. ثم، يأتي المثالالثالث، إسماعيل عليه السلام، كما في قوله تعالى: “وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِإِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا” [مريم: 53].

أما عن الفارق بينالرسولوالنبي، من حيث الدلالة، فهذا له حديثخاص.

من جانب آخر، لنا أن نلاحظ العطف عبر حرفالفاءوهو ما تُشير إليهالآية: “أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ“. ولأنالفاءحرف يُفيد الترتيب والتعقيب، وأن ما بعدها يكون سببًا لما قبلها؛لذا يكونالنسخ، هنا، هو نسخ الله سبحانه وتعالى لـمَا يُلْقِيالشَّيْطَانُللرسول أو النبيفِي أُمْنِيَّتِهِ؛ وأنفَيَنْسَخُ اللَّهُدلالة علىالفترة الزمنية الوجيزة التي يتم فيها النسخ، بمعنى أن النسخ الإلهييكون عقبمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُمباشرة.

وهذا يختلف تماما عن حرف العطفثُمَّالذي وإن كان يشترك معالفاءفي الدلالة على الترتيب، إلا أنه يختلف عنه في التراخي زمنيًا؛حيث تدلثمعلى انقضاء فترة زمنية طويلة ـ نسبيًا ـ بين ما بعدها عماقبلها؛ بما يعني أنفَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ،تشير إلى التراخي زمنيًا بينيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ، وبين “َيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِيالشَّيْطَانُ“.

ولكن، ما هو السبب في هذا الإحكام الإلهي لـآيَاتِهِ، سبحانه وتعالى،بعدمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُفي أمنية الرسول أو النبي(؟).

الإلقاء الشيطاني

في قوله سبحانه وتعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَاتَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُآيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ” [الحج: 52] ما يؤكد أن هذاالإلقاءالشيطاني هوطريقة مستمرة من جانبه، بدليل ورود أداة الشرطإِذَاالتي تشير إلىالحتمية، والتي تختلف عنإنالشرطية التي تؤشر إلى الاحتمالية؛ إذ،كلما جاء رسول أو نبي، وتمنى هداية قومه أجمعين، يحاول الشيطانالتقليل من هذه الأمنية، أو الوقوف دون تحقيقها. ولعل هذا واضح ومُثبتتاريخيًا؛ حيث إن ما يتبع الرسول أو النبي همالأقليةفي حين أنالأكثريةيكونون من أتباع الشيطان.. إلا من رحم ربي.

ويكفي، في هذا المجال، الاستدلال بالمثال القرآني عن قوم موسى عليهالسلام؛ فما حدث لبني إسرائيل حين ذهب موسى للقاء ربه، ثم عادفوجدهم يعبدون العجل، وكان ذلك بـوحيمن الشيطان، وأوحىبهإلى السامري، وأعلنه هذا الأخير لقوم موسى. وحينما اعتذروا لموسىقَالُوا، كما جاء في قوله سبحانه: “قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّاحُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ” [طه: 87].

ولنا أن نلاحظ، هنا، أنأَلْقَى السَّامِرِيُّلقوم موسى، يتوافق مع الإلقاءالشيطاني؛ ويُعبر السامري عن ذلك، كما في قوله تعالى: “قَالَ بَصُرْتُ بِمَالَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِينَفْسِي” [طه: 96]. هذه هي نوعيةالإلقاءالشيطاني، عبروحيهالضال؛ ليسد الطريق أمام الرسول أو النبي وأمنيته بأن يؤمن به قومهأجمعين، فيحاول الوقوف دون تحقق هذه الأمنية.

لكن التساؤل الذي يطرح نفسه ما علاقة ما سبق بمفهومالنسخ“(؟).. وماالدليل على أنالنسخهنا في آية سورة الحج، يعني ويدل على التدوينالإلهي لـمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُبحيث يكونصورة طبق الأصلمنه(؟).. وهي التساؤلات التي تتكامل مع التساؤل السابق، حول السبب فيالإحكام الإلهي لـآيَاتِهِ، سبحانه وتعالى، بعدمَا يُلْقِي الشَّيْطَانُفيأمنية الرسول أو النبي(؟).

النسخ الإلهي

بالطبع فإن الإجابة على هذه التساؤلات، لابد أن تعتمد على سياق الآيةالواردة في سورة الحج، سياق الآية مع الآيات التي تليها، مبدئيًا.. يقولسبحانه وتعالى: “وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَىالشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُعَلِيمٌ حَكِيمٌلِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌوَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍوَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَأَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَىصِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” [الحج: 52-54].

هاهنا تتبدى بوضوح المُقابلة بينفَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُوبينثُمَّيُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ“.. وهي المُقابلة التي توضح السبب في النسخ الإلهيفَيَنْسَخُ اللَّهُ؛ وهو ما جاء في قوله تعالى: “لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةًلِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ، بما يدل على أن النسخ الإلهييعني أن يسمح الله سبحانه وتعالى للإلقاء الشيطاني بالوجودوالاستمرار؛ وبما أنه موجود ومستمر، فسوف يجعله المولى عز وجلاختبارا، أي يجعلهفِتْنَةًلفئتين من الناس، من قوم الرسول أو النبيلِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌوالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ“. وهذا ما يؤكد من جديد علىأن مفهومالنسخهوتدوين شيء بشكل يكون صورة طبق الأصل منأصل الشيء؛ وهذا التدوين، الذي تشير إليه الآية هونسخ إلهي“.

أضف إلى ذلك، أن قوله سبحانه: “وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْرَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍمُسْتَقِيمٍ” [الحج: 54].. يؤكد على أن  الجعل الإلهي لذلك الإلقاءالشيطاني لن يتوقف عند حدود أن يكونفِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌوَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ؛ ولكن أيضا سيجعله الله سبحانه وتعالى سببًا: “َلِيَعْلَمَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ، من أجل أن: “يُؤْمِنُوا بِهِ، وصولًا إلىالهدف النهائيفَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ، أي تخضع وتسكنقُلُوبُهُمْ“. والدليل،هو التأكيد على أن الله: “لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ“.

هذا، فضلًا عن دلالات المُقابلة، الأخرى، التي وردت في سياق آيات سورةالحج، بينوَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ” [الحج: 53] وقولهوَإِنَّ اللَّهَلَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ” [الحج: 54].

في هذا السياق، يمكن القول بأن ما نسخ من إلقاء الشيطان، في أمنيةالرسول أو النبي، هو موجود وليس محذوفًا؛ ولأنه موجود فسيكون اختباراللذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم.. أما بالنسبة للذين أوتوا العلم،فسيكوندليلًالهم على الإيمان؛ لأن ما يُلقي الشيطان، لو كان قدحذف، أو محي، كما يقول البعض، لن يكونفِتْنَةً“.

فماذا عن آية سورة البقرة، التي يستشهد بها الكثيرون في تناولهم لمفهومالنسخ“(؟).. وقبل ذلك، ماذا عن الكناية في ورود حرفالهاءفي: “أَنَّهُوفيبِهِوفيلَهُ، في الآية: “وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَفَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ“(؟).

هذا، هو محور حديثنا القادم.. بإذن الله تعالى.العدالة الاجتماعية في القرآن

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock