إلى أين تتوجه الأزمة في ليبيا؟ هذا هو التساؤل الذي يتبادر إلى ذهن المتابع المهتم بما يحدث على الساحة الليبية عموما، والتطورات العسكرية والسياسية الحاصلة هناك بشكل خاص؛ بل وبكافة التفاعلات على هذه الساحة، سواء من جانب القوى الدولية، أو القوى الإقليمية ودول الجوار الجغرافي للدولة الليبية.
والواقع أن ثمة مؤشرات عديدة تدفع إلى عدم الإجابة على التساؤل المطروح بشكل إيجابي، خلال المستقبل المنظور على الأقل؛ إلا أن هناك مؤشرات أُخرى تُعبر عن الأمل في أن تتجاوز ليبيا أزمتها. والواقع أيضا أن مثل هذا التناقض هو الإشكالية التي تنبني عليها الأزمة الليبية خلال فترة زمنية تزيد على عقد من الزمان، منذ انتفاضة 17 فبراير2011، وسقوط العقيد القذافي ونظام حكمه.
إنها الأزمة التي تتفاعل، ليس بسبب عوامل داخلية فقط؛ بل تتعقد خيوطها وتتشابك كنتيجة لأسباب تتعلق بالتدخل الخارجي.. رغم ذلك تظل “الميليشيات المسلحة وفوضى السلاح”، هي النقطة المركزية في هذه الأزمة.
تفكيك الميليشيات
ففي ظل هشاشة النظام الأمني، وانقسام أجهزة الدولة، تعد قضية الميليشيات المسلحة وفوضى السلاح في عموم ليبيا من المشكلات التي تعوق الحلول السلمية هناك. صحيح أنه لا توجد إحصائيات رسمية عن حجم انتشار السلاح في هذا البلد، إلا أن الأمم المتحدة قد أحصت ما لا يقل عن 20 مليون قطعة سلاح، خلال السنوات القليلة الماضية.
هذا الرقم الذي تأكد من خلال المناقشات، التي شهدتها ورشة العمل الفنية في مدينة طليطلة الإسبانية، الاثنين 23 مايو الماضي، حول “طرائق الدعم الدولي لبرنامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج الليبي”، التابع لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، كان من بين الأسباب التي دفعت خالد مازن وزير الداخلية في حكومة “الوحدة الوطنية”، حكومة عبد الحميد الدبيبة، إلى الإعلان عن مبادرة وطنية لـ”تسريح وإعادة إدماج التشكيلات المسلحة”.
وفي الوقت الذي أكدت فيه مشاورات طليطلة على ضرورة حل التشكيلات المسلحة بالمنطقة الغربية الليبية، من حيث إنها تعرقل عمل الحكومات، بما يمنع الاستقرار وأداء المؤسسات لمهامها.. إلا أن هذه المشاورات، في الوقت نفسه، جاءت لتحمل كيفية تنفيذ الخطة الدولية، في هذا الشأن، عبر تقسيم المنخرطين في الميليشيات المسلحة إلى ثلاثة أقسام:
الأول، يشمل المجموعات المنظمة والمنضبطة، وسيجري دمج عناصرها مباشرة بالقوات الأمنية الرسمية.. فيما سيكون هناك قسم ثان، للمجموعات التي لا تحمل أفكارا متطرفة، والتي سيخضع أفرادها لدورات تأهيلية قبل أن يتم دمجهم إلى جانب مجموعات القسم الأول، سواء في مؤسسات الدولة أو في سوق العمل. أما القسم الثالث، فيشمل المجموعات التي مارست نشاطات إرهابية أو إجرامية، وسوف يصنف أفرادها كمجموعات خارجة عن القانون، ويتم ملاحقتهم وفقا لذلك.
وبالرغم من المبادرات الوطنية لتفكيك الميليشيات المسلحة، وملامح الخطة الدولية في هذا الخصوص.. إلا أن التساؤل الذي يطرح نفسه هل تستطيع حكومة الدبيبة، التي تمت إقالتها من جانب البرلمان الليبي، أو حكومة فتحي باشأغا، التي لم تستطع دخول طرابلس، العاصمة، لممارسة مهامها، أن تنجح في تنفيذ المبادرة؟.
هذا التساؤل يكتسب أهمية، بملاحظة أن عدد المجموعات المسلحة التي تعمل خارج إطار القانون في المنطقة الغربية، وتحديدا في طرابلس ومصراتة، يصل إلى 50 ميليشيا، يصل عدد أفرادها ما بين 120 – 200 ألف مقاتل. وهنا يكفي أن نشير إلى تقرير خبراء الأمم المتحدة المعني بليبيا، الذي نُشِر في مارس 2021، والذي أكد على أن الميليشيات المسلحة، خلال ولاية حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج، اكتسبت شرعية غير مستحقة، وحصلت على مناصب حكومية نافذة.
وأشار التقرير الذي ورد في 555 صفحة، بعض من هذه الميليشيات، مثل: كتيبة النواصي، والأمن المركزي، وعبد الغني الككلي الشهير بـ”غنيوة” الذي يقود جهاز ما يسمى “دعم الاستقرار”، كذلك قوة “الردع الخاصة” بقيادة عبد الرؤوف كارة؛ مؤكدا على أن نفاذ هذه الميليشيات المسلحة داخل مؤسسات الدولة لا يزال مستمرا حتى بعد رحيل حكومة السراج.
فشل حكومي
وتُمثل الميليشيات المسلحة التحدي الرئيس أمام أية محاولة لإرساء الاستقرار، والانتقال نحو الخروج الآمن من الأزمة التي تعصف بهذا البلد على امتداد السنوات الماضية؛ حيث اعتادت تلك الميليشيات استخدام السلاح كورقة ضغط، للحصول على امتيازات ومبالغ مالية طائلة، كما أن لها شبكات للمصالح في مؤسسات الدولة، وتلجأ إلى القوة للحصول عليها، وتتصارع على هذه الامتيازات.
والأهم أن الحكومة المنتهية الولاية لم تقم بدورها المنوط بها في تدعيم المؤسسات الرسمية في البلاد، ومحاولة استعادتها وهيكلتها، كما كان يُفترض بها؛ ولكن على العكس، قامت بتقوية الميليشيات، من خلال دعمها وتقويتها، والاستقواء بها.. وما الاشتباكات التي دارت بين أنصار الدبيبة، وداعمي باشأغا، عندما حاول الأخير دخول العاصمة طرابلس لممارسة حكومته، التي حصلت على تكليف من البرلمان، لمهامها.. إلا مجرد مثال.
لقد فشلت حكومة الدبيبة، في أهم الملفات التي كانت ملقاة على عاتقها، ملف تفكيك الميليشيات المسلحة وإعادة دمجها في المؤسسات الرسمية للدولة. ورغم المحاولة من جانبها في الإعلان عن “المبادرة الوطنية” لتفكيك الميليشيات وتسريح أفرادها، ودمجهم في مؤسسات الدولة، وفي سوق العمل.. إلا أن نسبة نجاح هذه المبادرة ضئيلة للغاية، بل تكاد تكون معدومة.
إذ يكفي أن نلاحظ الصراعات حتى بين الميليشيات الموالية للدبيبة، نفسه، التي يستقوي بها في إصراره على عدم تسليم السلطة إلى حكومة فتحي باشأغا؛ الصراعات التي امتدت حتى مدينة الزاوية.. حيث شهدت المدينة، في أوائل مايو الماضي، اشتباكات حادة بسبب الخلاف حول إعادة التموضع والتمركز، ونية كل منها في السيطرة على مواقع بعينها.
لقد فشلت هذه الحكومة فشلا ذريعا، ليس فقط في تفكيك الميليشيات؛ ولكن وهذا هو الأهم، في إنجاز الاستحقاق الانتخابي الذي كان مقررًا في ديسمبر من العام الماضي.. وهو ما يؤكد من جديد على عدم إمكانية هذه الحكومة في المقدرة على تفكيك الميليشيات المسلحة، وتسريح عناصرها، كما طرحت في مبادرتها الوطنية.
صعوبات وقيود
خلاصة القول أن الميليشيات المسلحة لا تزال، وسوف تظل عائقا كبيرا أمام الانتقال، أو العبور الآمن للدولة الليبية نحو الاستقرار، والسيادة على الموارد التي تتمتع بها ليبيا؛ حيث إن الدبيبة ظل في موقعه فترة كافية من أجل أن يجد حلولا ناجزة للملفات الشائكة في الأزمة الليبية، وعلى رأسها تفكيك الميليشيات المسلحة، ولكنه لم يوفق في ذلك.
هنا يتبدى عدد من الصعوبات في نجاح عملية تفكيك الميليشيات المسلحة..
من بينها: عدم تسليم الدبيبة السلطة إلى الحكومة المكلفة من البرلمان الليبي؛ فبدلا من أن يلتزم الدبيبة بتكليف البرلمان لحكومة جديدة، حكومة باشأغا، في فبراير الماضي، إلا أنه تحدى قرار مجلس النواب، وتحصن بالميليشيات في العاصمة طرابلس، في إصرار على عدم تسليم السلطة إلا بعد إجراء الانتخابات!.
ومن بينها أيضا عدم إمكانية التدخل الخارجي لتفكيك الميليشيات؛ إذ إن نزع السلاح وتفكيك الميليشيات يحتاجان إلى قرار من مجلس الأمن الدولي، قرار “واضح ومباشر” في هذا الشأن، وإقرار مباشر بتشكيل بعثة دولية أمنية تتولى تنفيذ هذا الأمر.
إن الأمم المتحدة هي وحدها من يمتلك إدارة حفظ السلام، وهي الجهة الوحيدة في العالم التي تمتلك التوصيف الوظيفي والمسئولية القانونية، والخبرات والإمكانيات البشرية والمادية، لتنفيذ عملية نزع سلاح الميليشيات، وتفكيكها وتسريح أفرادها. ولكن لأن الأزمة الليبية قد دخلت فعليا على خطوط التماس لاستراتيجيات الدول الكبرى الخاصة بهذه المنطقة من العالم، لذا تبدو إمكانية استصدار قرار من مجلس الأمن، غاية في الصعوبة.
ومن بينها، كذلك، فشل خريطة الطريق السياسية في إنهاء وضعية الانقسام؛ فهذه الخريطة التي جاء بناء عليها عبد الحميد الدبيبة إلى رأس حكومة الوحدة الوطنية، أصبحت غير مطروحة تمامًا، بعد إقالة البرلمان لحكومته، وإخفاق محاولة باشأغا في دخول طرابلس، لممارسة مهامه كرئيس للحكومة المكلفة من قبل البرلمان.
وهكذا فإن المأزق السياسي الذي تتعرض له الساحة الليبية، ربما يدفع إلى إغراق البلاد مرة أخرى في صراع مفتوح بين الشرق والغرب الليبيين، في ظل التقدم البسيط الذي تحرزه المحاولات الدبلوماسية المتجددة.
غير أن هذا الاحتمال في ما يبدو غير وارد، من حيث إن الداعمين الأجانب للأطراف الليبية تنعدم لديهم الرغبة في هذا الاحتمال، على الأقل في المدى المنظور.