ثقافة

مالك بن نبي.. مشكلات الحضارة وأهمية التوازن الحضاري

يعد مالك بن نبي (1905-1973) أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، فقد كان صاحب نظرية عميقة في البناء الحضاري، وامتلكت أفكاره مكونات القوة بتركيزها علي القضايا الأساسية والمحورية في العالم الإسلامي، فاهتم بمشكلات الحضارة والنهضة والثقافة وغيرها.. وكانت جهوده في بناء الفكر الإسلامي وفي دراسة المشكلات الحضارية متميزة، سواء من حيث الموضوعات التي تناولها، أو من حيث المناهج التي اعتمدها في ذلك. وكان صاحب إنتاج غزير وخصب، فألف سلسلة كتب تحت عنوان “مشكلات الحضارة” ثم “الظاهرة القرآنية” عام 1946، “شروط النهضة” باللغة الفرنسية عام 1948، وبالغة العربية عام 1957، و”مشكلات الثقافة” عام 1959، والعديد من المؤلفات الأخرى. ويعتبر مالك بن نبي ومدرسته الفكرية من أكثر المدارس التي كان لها أثر واضح في تحديد ووضع ملامح الفكر الإسلامي الحديث، خاصة أن هذه المدرسة اهتمت أكثر من غيرها بمشكلات الأمة الإسلامية انطلاقا من رؤية حضارية قائمة علي فكرة التوازن أو التعادلية الحضارية التي تجمع بين مطالب الروح والجسد، الكم والكيف.

أولا: مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي

ينطلق مالك بن نبي في مفهومه عن الحضارة؛ من اعتقاده الراسخ أن مشكلة كل شعب في جوهرها هي مشكلة حضارية، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكره إلي الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها. وانطلاقا من هذا الاعتقاد بأهمية الحضارة – حاول بن نبي إعطاء تعريف واسع وشامل يتحدد في ضرورة توفر مجموعة من الشروط الأخلاقية والمادية، التي تتيح لمجتمع معين أن يقسم لكل فرد من أفراده في كل طور من أطوار وجوده منذ الطفولة إلي الشيخوخة المساعدة الضرورية له في هذا الطور(1).

يتضح لنا من خلال هذا التعريف؛ أن مفهوم الحضارة عند مالك بن نبي شديد الارتباط بحركة المجتمع وفاعلية أبنائه، لأن حركة المجتمعات الحضارية ظاهرة تخضع كغيرها من الظواهر الإنسانية لسنن وقوانين اجتماعية وتاريخية.

مشكلات الحضارة

ثانيا: مكونات الحضارة وعناصرها عند مالك بن نبي

يشير مالك إلي أن هناك عناصر ضرورية تتشكل منها كل الحضارات؛ تتمثل في الإنسان+ التراب+ الوقت. ولقد أولي مالك عناية بالغة بالإنسان في معالجته لمشكلات الحضارة، انطلاقا من قيمته ودوره في التاريخ، وباعتباره الأساس الذي من خلاله تنطلق الحضارة. والإنسان يؤثر في المجتمع أو الحضارة بثلاث مؤثرات هي الفكر-العمل – المال(2).

أما العنصر الثاني من مكونات الحضارة فهو التراب وهو أحد العناصر المهمة في تشكيل الحضارة، ولقد عالجه مالك من جانبين: الجانب الأول المظهر القانوني (التشريعي) ويتضمن تشريع الملكية في المجتمع. الجانب الثاني الجانب الفني ويقصد به الاستخدام الفني والسيطرة الفنية التي تتيحها العلوم المختصة كعلم التربة. ويخضع تقييم التراب في فكر بن نبي لمعيار تقدم الحضارة التي تعمل علي استغلاله أحسن استغلال(3).

أما العنصر الثالث فهو يتمثل في الوقت، ويمثل الوقت عند بن نبي ثروة متدفقة، لذا يجب استغلالها بالشكل الجيد، وهي قيمة لا تقوم بالمال، والوقت في العالم الإسلامي صار من قيم التخلي، لأن المسلم العربي تحديدا صارت أوقاته مضاعفة على واجباته. ويشير إلي أننا في العالم الإسلامي نعرف شيئا يسمي الوقت، ولكنه الوقت الذي ينتهي إلي عدم.(4)

مالك بن نبي

ثالثا: سمات وخصائص الحضارة

يحدد مالك بن نبي عدة سمات وخصائص للحضارة.. من أهم هذه السمات سمة التوازن أو التعادلية. أي التوازن بين الجانب الروحي والجانب المادي، فهو يرى أن أي حضارة من الحضارات؛ ما كانت لتقوم إلا علي أساس التعادل والتوازن بين الكم والكيف، بين الروح والمادة، بين الغاية والسبب.. فأينما اختل هذا التعادل في جانب أو في آخر؛ كانت السقطة رهيبة قاصمة. وهذا التوازن في مفهومه العام لا يخرج عن إطار مفهوم العدل الذي هو إعطاء كل ذي حق حقه، وهذا لا يعني العطاء المادي دون المعنوي. فالحضارة إذن تتركب من تلك النظرة المتوازنة للروح والجسد، الكم والكيف، الغاية والوسيلة، فإذا اختل التوازن في جانب اختلت الحضارة.. ومن وجهه نظره أن الحضارة الغربية وقعت في هذا الخلل وعدم التوازن؛ لأنها فقدت معني الروح لصالح الجانب المادي، لذا وجدت نفسها علي حافة الهاوية.(5)

ويشير إلي أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يعد التوازن الدقيق والشامل من أهم خصائصه، فالإسلام هو دين التوازن بين مطالب الجسد والروح، بين مطالب الدنيا والآخرة، بين الفرد والمجتمع. ويجب أن نوضح أن هذه التعادلية التي يؤكد عليها مالك بن نبي؛ هي أساس الحضارة في شموليتها وفي توفيقها بين الفكر والاقتصاد ليكون نتاجا لحركة المجتمع. هذه التعادلية أو التوازن الحضاري يظهر بشكل جلي في فكر مالك بن نبي عندما يري أن الحضارة لها مظهرين: المظهر الأول يتضمن شروطها المعنوية في صورة إرادة تحرك المجتمع نحو تحديد مهامها الاجتماعية، أما المظهر الآخر فأنه يتمثل في شروطها المادية في صورة المكان. وهذا التوازن الحضاري كما يسميه مالك يتضمن وجهي الحياة المادي والمعنوي في إقامة النسيج المطلوب لصنع حضارة ما.(6)

مالك بن نبي

خلاصة القول:

أن فكر مالك بن نبي في الحضارة ينطلق من نظرة متوازنة ومتعادلة تجمع بين الجانب المادي والروحي، تجمع بين الكم والكيف. كما أن هذه النظرة تري في التعادلية أساس راسخ لبناء الحضارة. كما أكدت نظرته في الحضارة علي دور الإنسان باعتباره أحد المحاور الهامة في صنع الحضارة. ويجب أن نشير إلي حقيقة مهمة هي ارتباط فكر مالك بن نبي بقضايا أمته ومحاولة وضع الحلول لنهوض أمته وأن تأخذ مكانها اللائق بين الأمم، وذلك عن طريق مشروع النهضة الذي قدمه.

المراجع

(1) مالك بن نبي: أفاق جزائرية، ترجمة. الطيب الشريف، مكتبة النهضة الجزائرية، ص47.

(2) مالك بن نبي: تأملات، دار الفكر المعاصر، لبنان، 2002، ص151.

(3) مالك بن نبي: شروط النهضة، دار الفكر، دمشق، 2009، ص131.

(5) مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، دار الفكر، دمشق 2006، ص103.

(6) اسعد السحمراني: مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، دار النفائس، بيروت، ط1، 1984، ص144.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock