ثقافة

الفيلسوف المناضل فرانز فانون.. والثورة الجزائرية المُلهِمَة!

لقد تعجّب العالم بأسره من ذلك الطبيب المناضل الذي انضم إلى ثورة تحريرية، لشعب لا يربطه به تاريخ أو ثقافة أو معتقد، أو حتى جغرافية قريبة.. إنه المفكر الكبير فرانز فانون، الذي عشق الجزائر وشعبها وأرضها ونَاصَر الثورة الجزائرية بكل ما أوتي من قوة، وندد بالاحتلال الفرنسي في كل مكان.. وفي كتبه ومؤلفاته التي لم تخلُ من تنديد بكل إشكال الاحتلال والسيطرة والهيمنة.. ولقد بادلته الجزائر وشعبها حبا بحب وعشقا بعشق؛ عندما قررت وزارة التربية والتعليم الجزائرية إدراج أحد كتبه الشهيرة عن تلك الثورة، ضمن مقرر دراسي خاص بالشهادة الثانوية.

لقد كان فرانز فانون عاشقا للجزائر ومؤيدا لشعبها وثورته في التحرر من أغلال الاستعمار؛ بل كان مؤيدا لكل حركات التحرر في العالم، وتدور كتبه ومؤلفاته في هذا الفلك.. ولعل أشهرها “معذبو الأرض” ينطق بذلك التضامن مع الثورة  الجزائرية، وكل ما شابهها من حركات التحرر في العالم.

هذا الكتاب الشهير الذي قدّم له الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت جان بول سارتر، يُمثّل أيقونة فكرية ثقافية، حاول من خلاله فانون أن يبث أفكاره في تأييد الثورة الجزائرية، وكل حركات التحرر العالمية؛ إيمانا بحق الشعوب في التخلص من نير الاستعمار.. ومن فرط تعلُّق فانون بالجزائر وشعبها أوصى أن يدفن في بلدة “عين الكرمة” بالشرق الجزائري، وقد كان له ما أراد.

ولنا أن نتساءل كيف تحوّل هذا العشق من جانب فانون إلى ملحمة مؤيدة وداعمة للثورة الجزائرية، كيف بهذا الطبيب النفسي الذي ينتمي إلى جزر المارتينيك البعيدة؛ ألا تقتصر أبحاثه على المظالم التي تعرض لها السود وحدهم في كل مكان؛ لقد درس الظاهرة الاستعمارية بشكل عام وعلاقتها بالعبودية، ليخرج بجملة نظريات من بينها أن التخلص من التوجه الاستعماري المقيت، لا سبيل له غير سلاح المقاومة ودحر المستعمر؛ لأن الحرية لا تُمنح أبدا بالمجان، وحتى يسلم الاستعمار بهذا الواقع، عليه أن يذوق مرارة خاصة؛ تُذكّره دائما بأن العبودية ليست من طباع البشر الأسوياء حاكمين ومحكومين.

لقد مثّل كتاب فانون الشهير “معذبو الأرض” سيرة حياة بمعنى الكلمة.. ولهذا الكتاب عدة ترجمات باللغة العربية، كما أنه تُرجم إلى عدة لغات عالمية أخرى. وفي هذا السياق نلفت الانتباه إلى أن الترجمة العربية الأولى للكتاب كانت لجمال الأتاسي وسامي الدروبي وهما من أهم من واكب أحداث الثورة الجزائرية، وترجم أدبها المكتوب باللغة الفرنسية، بالإضافة إلى مجموعة مهمة من مؤلفات وكتب فانون مثل كتابه “بشرة سوداء لأقنعة بيضاء” الذي أصدره في باريس قبل قدومه عام 1975، إلى الجزائر طبيبا في المستشفى الذي يحمل اسمه حتى الآن، في مدينة البليدة.. وقد تعمّق ذلك العشق، عندما اكتشفت السلطات الفرنسية علاقته ببعض ممرضات المستشفى وتهريبه الأدوية إلى الثوار عن طريقهن، لتكون مغامرة هروبه الشهيرة إلى الحدود التونسية، حيث القواعد الخلقية للثوار الذين وفّروا له الأمان والراحة والحماية؛ لينطلق من جديد في نضاله من هناك.. مثقفا ثوريا من الطراز النادر. ولم يمض وقت طويل هناك، حتى يدفع الرجل بكتابه المهم “السنة الخامسة للثورة” بعد أن تأكد أن انتصار الثورة قادم لا محالة.

ويمثل هذا الكتاب نقلة نوعية؛ إذ واكبَ الأحداث في شتى ميادين النضال التي تنبأت بمتغيرات كثيرة، ستحدث في عمق المجتمع الجزائري، ورفع درجة الصمود فيه. ونشير في هذا السياق إلى أن كتاب “السنة الخامسة للثورة” ذهب إلى الجانب العملي المحسوس الذي يؤكد أن كل الأحلام التي كانت مجرد أفكار بعيدة المنال، غدت اليوم مُسلّمات في قبضة أيادي الجزائريين، ولن يتخلوا عنها مهما تراكمت التضحيات.. لقد صارت أفكارا عبّرت بالفعل عن تغييرات جوهرية في حياة الجزائريين الذين أصروا على الصمود والعناد.

لقد وثّق فانون لعدد من المتغيرات الاجتماعية التي واكبت الكفاح اليومي؛ فأشار إلى العلاقة بين الأب الكبير والابن  المجاهد أو الفدائي الشاب الذي يتسلم إدارة البيت بحكم قوته وسلطته، هذا الانتقال الذي أحدث صراعا في العائلة وشروخا بين أفرادها، فرضته – للأسف- ظروف المشروع التحرري واشتراطاته، وواجب الحيطة والسرية وقوة التحكم فيه من أجل متابعة نجاحه، أي أن السلطة لم تعد في يد الأب (الجماعة/الجيل) الذي واجه الاستعمار، وأدى دوره في تمجيد أفعال المقاومة فيها.

ونستطيع القول أن فانون كان ملهما لجميع حركات التحرر في العالم بأسره، انطلاقا من الثورة الجزائرية التي انتمى إليها وعاش في كنفها، حتى وصل صيته إلى كل الشعوب التواقة إلى حريتها من التمييز العنصري.

وكما ذكرنا فقد دُفن فانون في بلدة عين الكرمة، وكان شباب البلدة إلى وقت قريب يتناوبون حراسة تلك المقبرة، لهذا المناضل الذي أفني حياته في تأييد ودعم حركات التحرر، وتأييد ثورة الجزائر وحقه المشروع في التحرر.. ولقد كرمت الجزائر هذا المناضل بإطلاق اسمه على شوارع و مدارس ومستشفيات جزائرية.

لقد كان فانون بحق عاشقا للجزائر، ومؤيدا لثورتها التحررية.. لعب دورا بطوليا في دعم الثوار الجزائريين وسخّر كل كتاباته لدعم الثورة الجزائرية، وبالتبعية كل حركات العالم التحررية. وترك بصمة بيضاء في نفوس أبناء الجزائر جيلا بعد جيل، وأصبح بطلا شعبيا في مخيلة وعقول وقلوب الجزائريين، و لقد خلّدت الجزائر وشعبها اسم فانون كأحد أبرز مفكري العالم الذين ساندوا تلك الثورة التي تخلّصت من نير الاستعمار وأعوانه، وسيظل فانون بطلا شعبيا في نظر الجزائريين لما قدمه من عون ودعم مادي ومعنوي في كتاباته. والتي ألهبت حماس الجزائريين في ثورتهم ضد المستعمر الغاشم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock