في بحث لنا حول “مفهوم الدين”، الذي نُشر في حلقات متتالية على موقع “أصوات أونلاين” (فبراير 2022)، تناولنا مفهوم “دِينَ الْحَقِّ”، ووصلنا إلى أنه من بين الدلالات التي يشير إليها الاصطلاح، اصطلاح “دِينَ الْحَقِّ”، أنه دين “موضوعي” خارج الوعي الإنساني، ولا يتوقف على درجة الإيمان. إلا أنه لم يرد كل من “الهدى” و”دين الحق”، كمصطلحين ذوي دلالة في آيات التنزيل الحكيم، في حال من الترابط السياقي، عبر حركة العطف، إلا في مواضع “ثلاثة”، ضمن مرات كثيرة ومتعددة ورد فيها المصطلحان بشكل منفرد.
في تلك المواضع، الثلاثة، يأتي “الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ” كاصطلاح عام يتضمن دلالة مضافة إلى دلالات مكوناته، عبر حرف العطف “الواو” الذي يُؤشر إلى أن ثمة رابط بين المعطوف والمعطوف عليه.
يقول سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [التوبة: 33، الصف: 9].. ويقول سبحانه: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا” [الفتح: 28].
هنا، يمكن ملاحظة أن عطف “دِينِ الْحَقِّ” على “الْهُدَى”، وإن كان يشير إلى وجود تجانس في ما بينهما، حتى يتم عطفهما، من حيث إنهما، كليهما، مُرسلان من عند الله سبحانه وتعالى.. إلا أن ذلك العطف، في الوقت نفسه، يعني أن “الْهُدَى” شيء و”دِينِ الْحَقِّ” شيء آخر، وأن الله تعالى قد وضع “الْهُدَى” قبل “دِينِ الْحَقِّ” لتميزه عنه.
ولأنه – في اللسان العربي- لا تعطف إلا المتغايرات أو الخاص على العام، وكذلك لا تعطف إلا الصفات بعضها على بعض أو الموصوفات بعضها على بعض؛ فإن مقاربة الاصطلاح العام “الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ”، لأجل التعرف على الترابط والتمايز في ما بين مكوناته، يمكن أن تتم عبر تحليل السياق الذي ورد فيه في آيات التنزيل الحكيم.
الفصل ومناط التمايز
فمن جانب، يتبدى بوضوح الفصل والتمايز، كليهما، بين “الْهُدَى” و”دِينِ الْحَقِّ”، إذا لاحظنا بعض الآيات التي ورد فيها لفظ الهدى. ففي قوله سبحانه وتعالى: “قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ” [الأنعام: 71]؛ وفي قوله سبحانه: “قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ” [البقرة: 120]؛ يتضح أن هدى الله هو “الْهُدَى”، وأن الهدى متجانس مع، ومرتبط بأمر “التسليم” [لِنُسْلِمَ] لرب العالمين؛ وأنه متجانس مع، ومرتبط بالذي جاء رسول الله (عليه الصلاة والسلام) “مِنْ الْعِلْمِ”.
أما في قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللَّاعِنُونَ” [البقرة: 159]، لنا أن نلاحظ أن الهدى قد تم بيانه في الكتاب، من حيث إن حرف “الهاء” في قوله: “مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ”، تعود إلى “مَا أَنزَلْنَا” [مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى]؛ ولعل ذلك يكون مناط تمايز “الْهُدَى” عن “دِينِ الْحَقِّ”.
من جانب آخر، يتبدى بوضوح أن “دِينِ الْحَقِّ” هو مناط الإظهار على “الدِّينِ كُلِّهِ”. ففي قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ” [التوبة: 33، الصف: 9، الفتح: 28]، لنا أن نلاحظ دلالة “لام” التعليل التي دخلت على الفعل المضارع “لِيُظْهِرَهُ”؛ كما لنا أن نلاحظ أن حرف “الهاء” في “لِيُظْهِرَهُ” تعود إلى “دِينِ الْحَقِّ”، وإلا كانت الصيغة قد جاءت بصورة المثنى، أي: “ليظهرهما”.
وكما هو واضح، فإن “ظهور الشيء يدل على قوة وبروز”، حيث إن الشيء يظهر إذا انكشف وبرز. وبالتالي، فإن “دِينِ الْحَقِّ”، من حيث كونه مناط الإظهار، له من السمات ما يجعله “يظهر” على الدين كله؛ من أهمها، بل أهمها جميعًا، أن “دِينِ الْحَقِّ” هو أقوى أجزاء “الدِّينِ كُلِّهِ” (أظهرها، وأعلاها)، ولعل ذلك يكون مناط تمايزه عن “الْهُدَى”. وهنا، لنا أن نلاحظ أن “الدِّينِ كُلِّهِ” هو اسم جنس، أي: يقع على القليل والكثير، وأنه جاء معرفًا.. فعندما يأتي “الدين” معرفًا فإنه يأخذ المعنى نفسه، أما إذا جاء منكّرًا، “دين..”، فيمكن أن يعني جزءًا منه، ولذا جاءت “كله” في: “الدِّينِ كُلِّهِ” للإشارة إلى ذلك.
الارتباط ومناط الإظهار
من جانب أخير، يتبدى بوضوح الارتباط بين “الْهُدَى” و”دِينِ الْحَقِّ”، في حال أخذنا في الاعتبار السياق العام لآيتي سورة التوبة وسورة الصف. ففي قوله سبحانه: “يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ٭ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [التوبة: 32-33]؛ وفي قوله تعالى: “يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ٭ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” [الصف: 8-9].. لنا أن نلاحظ أمور عدة:
لنا أن نلاحظ، أن كليهما يبدأ بالفعل المضارع “يُرِيدُونَ”، الذي يدل على حصول الشيء وتجدده في الماضي والمستقبل، أي استمراره؛ ثم تأتي هذه الإرادة المستمرة “بِأَفْوَاهِهِمْ”، وهو ما يؤشر إلى الفلسلفات والأفكار؛ إذ، لم تُصرح الآيات بأن إرادة الإطفاء بغزوهم وأسلحتهم، ولكن “بِأَفْوَاهِهِمْ”، من حيث إن دلالة هذه اللفظة الأخيرة، في السياق القرآني، تؤشر إلى المنطق والحُجة، والمنهاج الفكري، وليس “النفخ” كما جاء في كثير من تفسيرات القدماء، بدليل قوله سبحانه وتعالى: “كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا” [الكهف: 5].
لنا أن نلاحظ، أيضًا، أن ثمة علاقة ارتباطية بين: إتمام الله لنوره “وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ”، وبين: إظهاره لدين الحق “وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ”؛ وأن واحدة من مكونات هذه العلاقة هي الرسالة “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ”. لذا، قال سبحانه: “إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ” [البقرة: 119]، وقال تعالى: “وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا” [الإسراء: 105].
ولأن الله قد أرسل رسوله: “بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا”، ولأن ما أنزل الله على رسوله: “بِالْحَقِّ نَزَلَ”؛ فإن “الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ”، هم من يرون أن ما أنزل الله “هُوَ الْحَقَّ”، وأنه: “يَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ”؛ ذلك ما يمكن فهمه من قوله سبحانه: “وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ” [سبأ: 6].
ومن ثم، يتبدى بوضوح أن مصطلح “دِينِ الْحَقِّ”، من حيث كونه مناط “الإظهار”، لابد من أن يُعرف عن طريق الاستدلال العقلي “الْعِلْمَ”. ولعل ذلك يشير إليه، ويؤكده، استعمال تعبير “الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ” في الآية، وأيضًا في قوله تعالى: “وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ” [الحج: 54].
الحق ومناط الموضوعية
لنا أن نلاحظ، كذلك، أن سمة “المتكلم”، وإن لم تكن من أسماء الله الحسنى، وإنما اشتقت كلماته من أنه “الحق”: “ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ” [الحج: 62] لذا لنا أن نعرف أن الوجود الإلهي “حَقُّ”، وأن كلماته هي الدالة على هذا “الْحَقُّ”، كما في قوله سبحانه: “وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ” [الأنفال: 7]، وكما في قوله تعالى: “وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ” [يونس: 82].
وبالتالي، فإن الوجود الإلهي “اللَّهُ”، والوجود الكوني “كلمات الله”، كلاهما، وجود موضوعي لا يتوقف على الوعي والفكر الإنساني، وليس من نتاجهما. ثم، إذا كان الله سبحانه “هُوَ الْحَقُّ”، وأنه تعالى “قَوْلُهُ الْحَقُّ”، كما في قوله: “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ” [الأنعام: 73]؛ فإن أهم دلالات “دِينِ الْحَقِّ” أنه دين “موضوعي” خارج الوعي الإنساني، لا يتوقف عليه، وأنه لابد أن يُعرف عن طريق الاستدلال العقلي “الْعِلْمَ”، وأنه سوف يظهره الله على الدين كله، كأقوى أجزائه وأعلاها “أظهرها”.
ولعل هذا يتأكد لدينا إذا تأملنا دلالات “وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا” في قوله سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا” [الفتح: 28].