رؤى

على هامش معنى الحياة (1)

إن الحياة ليست في حوزة أحد، حتى يملك حق التصرف فيها بمنحها أو منعها؛ بل هي كقبس نور ربما نظل نجهل من أين جاء إلينا، ولا إلى أين سيذهب إذا ما تلاشى وانقضى. فمتى أهلَّت الحياة بنورها وإشراقها الذي يسطع وميضه بلا استئذان أو حرج؛ فلابد لنا أن نستقبلها بكل حفاوة وابتهاج، طالما ستمنحنا فرصة الوجود الذي لم نعرفه من قبل، إذ لم يسبق له أن يتمثل فينا أو أن نكون جزءًا منه.

فمع إشراقة شمس الحياة أصبح لك وجود، وأصبحتَ ذلك الكائن الحي الذي لم يكن شيئًا من قبل، فكيف هو حال استقبالك للحياة ولنورها؟

إننا في مرحلة الطفولة نظل غالبًا نلهو ونلعب معتمدين على ما نلقّن إياه من البيئة المحيطة بنا، ثم ما أن نشب ونكبر؛ حتى ننشغل عن الحياة ذاتها بالبيئة التي نشأنا فيها والمحيط الذي وُجِدنا فيه وفرضته علينا الظروف؛ مستمتعين أحيانًا بهبة الحياة.. ومتألمين في أحيان أخرى بسبب قسوتها وخطوبها، فنظن معظم الوقت أن ذلك المحيط هو الحياة ذاتها، بينما قد نكتشف بعد عمرٍ طويل أننا لم نتعرف بعد على الحياة التي لم نخلقها، والتي لا نستطيع أن نملكها أو الاحتفاظ بها إلى الأبد.

وربما في يومٍ ما تبدو لنا الحياة برمتها وكأنها قد كانت في زيارة قصيرة لنا، ولكننا أخطأنا عندما لم نحسن استقبالها بحفاوة تليق بها، وذلك بسبب انشغالنا تارة بالظروف والأحوال التي فرضتها علينا، وتارة أخرى بأحلامنا وآمالنا العريضة فيها، فإذا بنا نكتشف أننا كنا نتقلّب مع كل تقلّب لها ولأيامها، وكأننا لعبة في يدها لا يحلو لها أن تتخلَّى عنا قبل أن تفارقنا بلا عودة!

وما بين نعيم الدنيا الظاهر الذي يغوينا، ويطول انخداعنا برونقه وبريقه، راغبين في أي قدْر منه، وبين جحيمها وبؤسها الممقوت، الذي نهرب من أقل القليل منه، كما تفر الحُمُر المستنفرة من بطش قسورة؛ نظل ندور في دوامة ظروف الحياة وأحوالها؛ راجين كل نعيم فيها.. فارّين من كل شقاء تفرضه علينا أيامها.. وما بين لهو ولعب وغفلة وانخداع؛ تتسرب من بين أيدينا تلك الأيام دون عودة، فلا يتبقى لنا منها سوى الذكرى المصحوبة بالحسرة والندم.

إنها الحسرة على عدم القدرة على استغلال فرصة الحياة كما ينبغي، والندم على ضياع تلك الفرصة الوحيدة منا وعدم عودتها إلينا مرة أخرى. فإذا ما زال في العمر بقية؛ فهذا يعني أنه ربما ما زال هناك بقايا من نور الحياة الذي قد يضيء لنا الدرب؛ فنبصر كيفية الالتفات إليها متأملين إياها ومحاولين الاقتراب منها أكثر؛ علَّنا ندرك قيمتها الحقيقية ونفقه سر اتصالنا بوميضها الذي سرعان ما يختفي مهما تشبثنا بأي شعاعٍ منه.

إن وهج الحياة يدعو كل حي إلى الحركة وعدم السكون، ومع ذلك هناك من يظل في مكانه لا هو واقف أو قاعد، ولا هو راكض أو ساكن، فلا هو يتقدم إلى الأمام ولا هو يرجع  إلى الوراء، وكأنه تلك الشجرة التي تلتصق بالأرض ولا تغادر مكانها؛ ومع ذلك فإن الشجرة من طبيعتها أن تنمو وتورق وتثمر بينما هو لا أمل في ينوع ثماره أو إزهار أغصانه وأوراقه. فيا تُرى ما سبب ذلك التثاقل عن الحركة الفعالة وذلك الالتصاق باللا حياة واللا موت؟!

قد لا يسكن سوى المطمئن الهادئ؛ ولكن رب اطمئنان وهدوء ظاهر يطوي الكثير من الخمول والاستكانة. والمستكين الخامل يبدو أمام الجميع غير محتاج إلى الحركة أو بذل المجهود، وقد يكون اطمئنانه المزعوم هذا وليد الخوف من المهالك والذعر من العواقب، أو ربما تترسخ تلك الاستكانة وذلك الخمول بسبب اليأس من النجاح وعدم رجاء أي تقدم أو تطور. فإذا ما تغلّب على كل خوف وذعر وكذلك القضاء على كل إحباط ويأس، فلن يكون هناك بد من استعادة القدرة على الحركة من جديد، والتي تكمن بدايتها في تغيير المفاهيم وإعادة النظر في المسلمات، وآنذاك قد تستعيد الحياة قدرتها على الإيحاء بالمعنى. فما هو إذن مفهومنا عن الحياة وما هي مسلماتنا عن كل ما فيها؟

إن الحياة تبدو كنهر يجري دون توقف فإذا بأجيال تلو أجيال تتعاقب، وإذا بنسل البشر يتكاثر هنا وهناك وفي كل مكان؛ ولكن الجميع تضمهم نفس الحياة مهما اختلفت ظروف معيشتهم وتنوعت بيئاتهم وتباينت مجتمعاتهم وتعددت ثقافاتهم. ولولا سعي الإنسان في الأرض لما كان هناك تعمير لها فهذا العمل البشري والكد الإنساني في شتى ميادين الحياة هو الذي أنتج الحضارة الإنسانية القائمة على العلم والمعرفة والتي لم تعرف الزوال حتى الآن؛ بل إنها تدور في أنحاء المعمورة؛ وكأنها تلك الكرة التي يتقاذفها اللاعبون فيما بينهم، فإذا بها اليوم مع هذا اللاعب في ذلك الجزء من العالم، بينما كانت بالأمس مع لاعب غيره في بقعة أخرى من بقاع الأرض، وبالتأكيد غدًا ستكون مع لاعب ثالث في منطقة ثالثة ربما لم تكن فيها من قبل. وهكذا يستمر دوران الحياة مع دوران الكرة الأرضية، ويستمر تقلّب الحضارات ارتفاعًا وهبوطًا مع تقلّب حياة البشر من الفتوة واليفاعة إلى الهِرَم والشيخوخة، وبين النعيم والشقاء وبين السعادة والبؤس.

وليس غريبًا أن ينشغل الناس بظاهر الحياة المترفة؛ راغبين فيما تقدمه إليهم من فتوة وجمال وإزهار ونعيم وثراء ولذة ومتع حسية ومادية، أو أن تشغلهم هي بثوبها البائس الذي يكسوه الفقر والجوع والمرض ولا يُقدِّم لهم سوى الشقاء والحرمان والألم والتعاسة. وليس غريبًا أيضًا أن يغزو قلوب هؤلاء وهؤلاء الخوف والذعر أو اليأس والقنوط، فيخاف المُنعَّمون من فقدان الترف ورفاهة العيش وزوال النعم، ويقنط المحرومون من انقضاء الغمة وزوال المحن، وتبدل أحوالهم السيئة التي لا يسعون إلى تغييرها.

وعلى منأى من المتزاحمين على متاع الدنيا الزائل، والمتدافعين بالأيدي والمناكب إلى حد إلحاق الأذى ببعضهم بعضًا بسبب تلك الرغبة الأنانية في الاستئثار بالمنافع، هناك من يتطلعون إلى تذوق معنى الحياة غير الظاهر لعوام الناس والذي لا يمكن أن يفقهه القلب أو يبصره بدون العلم والمعرفة وإعمال العقل بحرية. وهؤلاء يدركون أن الحياة تتسع للجميع بالرغم من أن سعيهم فيها شتى، فكلٌّ مُيسَّر فيها لما خُلِق له طالما هو عليه قادر وفيه راغب وبه مُوكَّل. فتعسًا لكل من يحجب المعرفة عن الناس ولمن يحول بينهم وبين التفكير السليم ويتفنن في إحكام القيود التي تعوقهم عن التأمل والفهم متصورًا أنه قادر على منع الجميع من الرؤية، مع إنهم يملكون الأعين القادرة على الإبصار، أو أن بإمكانه أن يصم آذانهم عن سماع كل صوت في الكون ينطق بكلمة حق؛ مع إنهم ما زالوا يملكون آذانًا سليمة، وتعسًا لمن يميت ضميره فيستكين إلى غفلته التي معها يخبو نور روحه الوضاء، فلا يتبقى له سوى جسده الذي مهما جاهد في إشباع غرائزه وشهواته فلن يقنع أو يرضى.

ومهما ضيَّق المُضلِّلون والمراؤون والأفَّاكون سبل الحياة الحقيقية على الناس، ومهما تعمدوا إغلاق منافذها الرحبة المتسعة لكل جميل وطيب فيها، فإنهم لن يتمكنوا أبدًا من الاستئثار بها وحدهم، ولن يستطيعوا أن يحصروها في حدود منافعهم الحقيرة الضيقة. فما دام هناك أولئك الذين أبصروا الحقيقة والذين لا يشوهون كل جمال في الحياة، أو يفرضون كل زيف وكذب، أو يكتمون الحق، أو يروجون لكل ضلال وبهتان دون أن ينحرفوا عن طريقهم مهما كان غير ممهدًّا أو ينصرفوا عن غايتهم مهما كانت بعيدة المنال، فهناك أمل ألَّا يضعف أهل الحق أمام أهل الباطل وألَّا يخبو نور العدل أمام طغيان الظلم والبغي. المهم ألَّا ينجح أي كبت أو قهر مهما طال أمده في القضاء على أصحاب الرأي الحر والكلمة النافعة أو التخلص منهم.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock