رؤى

فن صناعة الأمل والحاجة إلى استدعاء حُلم عام (2)

منذ أكثر من مئة عام كتب أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد، عن مسألة الحرية الشخصية ومدى أهميتها مُنبهًا إلى خطورة نظام الحكم القائم على الاعتماد الكلي على النخبة الحاكمة.. الذي تتحول الشعوب بسببه إلى مجرد رَعيَّة للحاكم، فلا يتولون حتى حماية الفضائل الشخصية، ويتقاعسون عن أي إصلاح تربوي أو أخلاقي.

كما تناول كيفية تحوُّل ذلك التدخل السلطوي – في كل شيء- بالتدريج إلى أمر واقع مقبول وغير مستهجَن، وكيف سترضخ له الغالبية المستكينة دون أدنى تفكير، وكأنهم لا يمكنهم العيش بدون الاعتماد عليه، بل وكأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا.. وذلك بالقطع سيؤدي إلى قتل هِمَّة الناس في معالجة أبسط ما يخصهم، ومن ثم سيقضي على أي حماس لهم للاهتمام بالشأن العام، ما سيقودهم  إلى الإذعان العام وتقييد حركتهم وتحديد قراراتهم التي ستكون مع الوقت محصورة داخل حدود أسوار بيوتهم الضيقة والمغلقة.

رأى لطفي السيد أن تنازل الناس عن أداء واجباتهم تجاه أنفسهم، واعتمادهم على الحكومات- هو تنازل صريح عن كافة حقوقهم؛ بل وعن حريتهم الشخصية. ومن يتنازل عن حريته لن يُعهَد إليه بتحمل أية مسئولية، ومن ثم لن يتمتع بأية سلطة تكافئها؛ إذ لن يكون مطلوبًا منه سوى الاكتفاء بالعيش تحت وصاية أي نظام قوي إلى أن يموت، وكلما تعاظمت رقابة الحكومة عليه، كلما خسر المزيد من حقوقه ومن حريته بانقيادٍ تام وطواعية لا يخالطها نفور أو تذمر.

وهكذا تبدو الحرية، الأجدر أن تكون الأمل العام والحُلم العام، الذي يضم الكثيرين بالرغم من وجود العديد من الاختلافات والتباينات فيما بينهم؛ بل إن الحرية المسئولة إذا لم تكن محور كل أمل عام للشعوب؛ فلا عجب أن تتحول صناعة الأمل إلى تجارة تحتكرها أحيانًا بعض الأنظمة الحاكمة، وتوظفها لصالحها ولمنفعتها.. وليس لمصلحة الشعوب، فتحصد منها كل ما تستفيد منه؛ مُلقية بفضلاتها إلى كل من يتسول العطف أو يستجدي العطايا.

ومثل تلك الأنظمة ستعتمد على التضييق على حرية الكلمة وعدم السماح بأي شكل من أشكال المعارضة، ومع مرور الوقت ستقوى قبضتها المُحْكَمَة على كل كبيرة وصغيرة، إلى أن يصبح النظام الحاكم أعتى جبروتا من أي احتلال، فلا يسعى إلا لمنع الناس من حقهم في المشاركة في صنع القرارات المصيرية لأوطانهم؛ وبالتالي يتحوَّل المواطن تدريجيًا -على أرض وطنه- إلى ضيف يستضيفه النظام الحاكم متفضلا عليه أحيانًا بشرف الاستضافة، فيقدم له ما يراه متوافقًا مع مصالحه ولا يضر بها، وحاجبًا عنه ما يراه مُضرًّا له أو لأتباعه المخلصين له والموالين لسياساته. 

وبالقطع فإن الضيف ليس من حقه الاستياء أو الامتعاض أو الضجر؛ وبالتالي فإن كل ما يراه من أخطاء أو يشعر به من ضيم ليس عليه سوى أن يقبله بل ويتعايش معه إذا أراد أن ينعم باستمرارية شرف الاستضافة على أرض وطنه!

 ولا عجب ألَّا يتردد ذلك النظام من وقت لآخر في المنِّ على المواطنين بثقل الأعباء التي يتكبدها بسببهم؛ أو أن يشتكي باستمرار من عدم قدرته على تحملها.

وفي ظل عدم العزم على تحسين الأوضاع وعدم الشروع في صناعة أمل عام للشعوب يتيح لهم فرصة الحُلم بحالٍ أفضل وبحرية حقيقية على أرض أوطانهم تحميهم من السقوط في بئر اليأس الذي لا قرار له، فإنه لابد للجميع من تفحص كل ما كان في الماضي؛ حتى لو كان ذلك الماضي لم يشتمل على كل ما هو جميل؛ فليس هناك حياة بلا أخطاء، وليس هناك نظام بشري سِمَتُه العدل المطلق، وربما ليس هناك مفر من تحمل أخطاء الماضي. ومع ذلك فإن هذا التفحص لا يجب أن يتسبب في فقدان الرغبة في التغيير، بل والحماس لتحقيق ما هو أفضل.

ولعله من اللافت للنظر أنه مع ظهور ثورات الحرية والكرامة منذ أكثر من عقد من الزمان ساد من جديد بين عامة الناس في البلدان العربية شعور عام بالتفاؤل في تغيير الأوضاع بعد عقود من الاستسلام للرتابة والركود. و بالفعل كادت الشعوب أن تستعيد روح الأمل قبل أن يقضى على بريق الحياة في عيون الناس؛ ليعودوا مرة أخرى إلى ما كانوا عليه من إحباط وتشاؤم ويأس من التغيير، بل واستسلام تام لحال ربما صار أسوأ مما كانوا عليه من قبل. 

لذلك آن لنا أن نتأمل حال القانطين المنقطعة آمالهم كما يصفهم كل من: الأفغاني والإمام محمد عبده في “العروة الوثقى” إنهم يحكمون على أنفسهم بالحِطة ويسجلون عليها العجز عن كل رفعة، فيأتون الدنايا ويتعاطون الرذائل ولا ينفرون من الإهانة والتحقير، بل يوطنون أنفسهم عليها وعلى كل مذلة فتُسلَب منهم جميع الإحساسات والوجدانات الإنسانية التي يمتاز بها الإنسان عن الأنعام. فكيف لأي إنسان عاقل أن يرضى بذلك الحال وهو الكائن الذي كرمه الله على سائر المخلوقات؟!

إن الناس متى رضوا بما ترضى به البهائم؛ فلن يكون من الصعب عليهم أن يكونوا كالدواب التي لا تستفيد مما تحمل شيئًا، بعدما تسلَّط عليها من يسخرها لخدمته؛ فتكد هي وتشقى كي يستريح هو ويسعد.

لذلك لا مناص من استعادة الأمل والتخلص من كل يأس، فمثلما يقول الطغرائي وخليل مطران: “ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وما معنى الحياة لو أقفرت من مُراد؟” فهل من الممكن آنذاك أن يطيب فيها عيش أو أن يهنأ فيها بال؟!

يصف أحمد شوقي أمير الشعراء الأماني بأنها حُلم في يقظة، ويقول أبو القاسم الشابي: “يا قلب لا تقنع بشوك اليأس من بين الزهور، فوراء أوجاع الحياة عذوبة الأمل الجسور” ويقول أيضًا القاضي والمناضل اللبناني مصطفى الغلاييني: “إن للآمال في أنفسنا لذة تُنعِش منها ما ذبُل، لذة يحلو بها الصبر على غمرات العيش والخطْب الجلل”!

وأولى خطوات صناعة الأمل هي التوقف عن استدعاء خيبات الماضي وعدم اجترار ما سببته من آلام أو حسرات، ومحاولة الخروج من ذلك الصندوق المظلم بتوقع ما هو أفضل في المستقبل، ثم يلي ذلك التخطيط للأهداف بعد تعديلها إن لزم الأمر.

لقد تحقق ذات يوم بعض ما كان يظنه الكثيرون مستحيلًا، فهل توالي العقبات وتعاقب الصدمات يعني اليأس من تحقيق المزيد من الإنجازات أو التوقف عن استكمال الحُلم الذي لم يكتمل ميلاده بعد؟ إن الحُلم بالحرية والاستقلال يتطلب إيمانًا يقينيًّا بأهمية الحرية ورغبة أكيدة في التخلص من التبعية، وعلى الشعوب أن تعمل من أجل أن يكون لها رؤية واضحة لما يجب أن تكون عليه علاقتها مع الحكومات والأنظمة الحاكمة.. فإذا ما كانت هناك رغبة شعبية مبنية على وعي حقيقي بأهمية الحُلم العام وقيمة الحرية؛ فستتمكن من إعادة صياغة أحلامها وستشكل بنفسها ملامح مستقبلها الذي تطمح إليه دون الحاجة إلى وسيط أو رقيب أو حارس. ولكن هل سيكون من السهل آنذاك التضحية بالمنافع الفردية الأنانية في سبيل الصالح العام؟! 

إن الثوارت الشعبية هي مجرد صرخات مدوية تتفجر بسبب الكبت وشدة المعاناة فإذا لم تكن مصحوبة بتخطيط دقيق للمستقبل، أو محصنة بقوة تحميها من الانقضاض عليها وسرقتها؛ فلن تتوج بالنجاح ولن تتحقق أهدافها مهما كانت نبيلة. لذلك فإن الواقع الحالي ربما يفرض على كل فرد في الأمة أن يتخلص أولا من اليأس؛ بل لابد من التمسك بالأمل في تحقيق ما لم تنجح الثورات السابقة في تحقيقه، والإصرار على اتخاذ خطوات عملية مُجدية وعدم الاكتفاء بالصراخ؛  فإذا كان ما زال هناك حنين إلى تلك الصحوة التي كانت بمثابة صفعة قوية لأنظمة بالية دفع ثمنها الأبرياء والأنقياء من خيرة أبناء الأمة، فلا بأس أن تنتعش الذاكرة بين حينٍ وآخر بالذكريات المحفورة فيها علَّها تمنح المقدرة على استبقاء الأمل وتحقيق الحُلم العام بالحرية والكرامة والعدالة – حتى لو بدا ذلك الحُلم مستحيلًا أمام الجميع. 

والأهم من ذلك هو الحرص على الوعي والفهم الصحيح، والبحث عن الحقيقة والصدق، وتغليب الصالح العام على المصلحة الفردية من أجل الارتقاء بالروح الإنسانية الحرة بعيدًا عن التفاهات الدنيوية المادية الفانية والصراعات الطاحنة.

وليبدأ كل منا بنفسه مقبلًا على الحياة بكل حرية وأمل فيها، ومضحيًا في سبيل كرامته الإنسانية، وباذلًا ما في وسعه من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية. ومثلما يقول أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد: “إن الإنسان إذا قصرت حياته عن تحقيق آماله الشخصية، فإن الأمم طويلة الأعمار إذا أدركها الهرم لا مانع يمنعها من استعادة شبابها وقوتها”.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock