رؤى

الهوية والانتماء.. في عصر المعلومات

الحديث عن الهوية والانتماء في عصر المعلومات، ليس حديثا عن كل من الهوية والانتماء، أو عن عصر المعلومات، بقدر ما هو حديث عن العلاقة بينها جميعا، وعن التأثير الذي يمكن أن يحدثه التغير الحاصل في المعرفة المتجددة على الهوية، من حيث كونها “مناط الانتماء إلى خصوصية حضارية معينة”.

ولعل ما يُثير التأمل بهذا الشأن، هو الاختلاف في تحديد الإطار المفهومي في حقل الثقافة العربية الإسلامية بخصوص الهوية، ومدى تأثير الرصيد المعرفي المتغير والمتجدد عليها.

يقول ابن رشد في كتابه “تلخيص ما بعد الطبيعة” عن الهوية أنها “تقال بالترادف للمعنى الذي يطلق على اسم الموجود، وهي مشتقة من الـ”هو” كما تشتق الإنسانية من الإنسان”، وهو بهذا يعود بنا إلى مفهوم الهوية أو الذاتية في منطق أرسطو باعتبارها “تماثل الشيء مع ذاته”.. أما الجرجاني، في كتابه “التعريفات”، فيقول: “إن الهوية هي الأمر المتعلق من حيث امتيازه عن الأغيار”.. والامتياز هنا بمعنى الخصوصية والاختلاف، لا بمعنى التفاضل؛ وفي موضع آخر نجده يقول عنها: “إنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق؛ اشتمال النواة على الشجرة في الغيب المطلق”.

وبالتالي فإن التساؤل الذي يطرح نفسه، في إطار الحديث عن الهوية في عصر المعلومات هو: هل يظل هذا المفهوم “المبسط” للهوية، كما هو في هذا العصر؛ أم أن هناك تأثير للمعرفي علي الهوية في الزمن الحاضر؟

وفي محاولة الإجابة يمكن الإشارة إلي ملاحظات ثلاث أساسية:

الملاحظة الأولي: إن الحديث عن الثورة المعلوماتية الشائع الآن، لا معني له إن لم يكن مرتبطًا بمشروع تحديثي اجتماعي جديد؛ ذلك أن حديث “الثورة”، مهما كان الحقل الذي يدور فيه، هو حديث عن بديل اجتماعي مغاير للواقع الاجتماعي السائد.. ودونما معرفة هذا البديل الجديد المُغاير، تتحول التقانة ـ التي هي أداة المعرفة ـ إلي أدوات استهلاك بسيطة تُغير من ظواهر المجتمع في اتجاه القيم التي  تحملها هذه التقانة والتي تبتغيها القوى المتحكمة فيها.

والواقع أن الثورات لا تحدث عن طريق الأدوات الميكانيكية الصغيرة، بل عبر التحوّل في ميزان القوى؛ فالقوى الأكثر استغلالًا لثورة المعلومات، تجري تحولا كهذا في ميزان القوى الاقتصادية والسياسية والعسكرية.

لذلك فإن تأكيد ثورة المعلومات في عالم متغير، من دون ربطها بالمستويات الاجتماعية الأخرى، هو الذي يؤدي إلي “أفول السيادة “؛ حيث يقوم الطرف الأضعف باستقبال سلبي للمعلومات، ولا يساهم في إنتاجها، بل باستهلاك تابع للثقافة الأقوى، من دون أن يستطيع أن ينجز إنتاجا ثقافيا فاعلًا خاصا به؛ وما “الستالايت” إلا إحدى صور الاستقبال السلبي على المستوى الإعلامي الثقافي.

الملاحظة الثانية: أن مفهوم ميزان القوى، وإن كان تعبيرا سياسيا، فهو ينطبق على مجالات الاقتصاد والمعرفة والثقافة. فالأضعف سياسيا، أضعف اقتصادا ومعرفة وثقافة.. ومن ثم فإن الحديث عن ثورة المعلومات، يتطلب التحديد أو إعادة التحديد الدقيق لأشياء ومفاهيم ومصطلحات كثيرة، بدلا من الرطانة اللفظية التي تستشري في أجزاء لا بأس بها من خطابنا العربي.

لنأخذ كمثال ما يؤشر إليه الحديث عن الهوية، على أنها نوعا من “الشرف الثقافي أو الحضاري”، فهي الركيزة بالمعنى الثقافي، وهي الحمى بالمعنى السياسي، وهي الذات عندما تحيل إلى ذاتها، وهي نقيض “الآخر” تسمو عليه أو يسمو عليها.

إنها باختصار في إطار مثل هذا الوصف “اللا واقع”؛ فقط هي الجوهر والتعالي والرمز، أي: إنها ما ليس “نحن” في الواقع. ولعل هذا يأتي في مقدمة الأسباب التي دفعت دعاة الهوية، إلى خوض حروب داخلية، من أجل مطابقة الواقع بالرمز. ومع  ذلك ولو سلمنا بأن الرمزي حتى وإن تعالى على الواقع، إلا أنه في حقيقته، أحد منتجات هذا الواقع؛ وبالتالي فإن عملية إنتاج الهوية ليست بمنأى عن الأثر التاريخي والاجتماعي، تعبر عنه وتعكس تناقضاته، تتأثر به وتؤثر فيه أيضا.

الملاحظة الثالثة: إذا كانت الهوية واقعيا تتأثر بالواقع وتؤثر فيه، وهي في الوقت نفسه، لا تتعين بالثقافي بمعنى الإبداع المكتوب فقط؛ فإنه يمكن النظر إلى مسألة الهوية من زاوية المعلومات اليومية باعتبارها “الرصيد المعرفي المشترك” بين أفراد مجموعة بشرية معينة، سواء كانت هذه الهوية.. سياسية أو دينية أو علمية.

وكي لا تفقد هذه النظرة معناها وسط آلاف المعلومات اليومية، يجب أن يُضاف إلى صفة الرصيد المعرفي المشترك، صفة أخرى ضرورية هي التأثير على الفكر والسلوك، بمعنى إن هناك فارق بين أن يعرف الإنسان العربي، معلومات عن الإسلام تؤثر في تفكيره وسلوكه اليومي، وبين أن يعرف القدر نفسه من المعلومات عن الديانة البوذية، ولا تؤثر فيه تفكيرا أو سلوكا.

وفي ما يبدو وانطلاقا من الملاحظات الثلاث السابقة، يمكن التوصل إلى استنتاج أساسي خاص بالمسألة التي نقاربها مؤداه إن التراجع الحاصل في السيادة الثقافية والإعلامية للدولة، خاصة في الإطار الجنوبي من العالم، عبر الستالايت والفاكس والإنترنت وغيرها يسمح للفرد بالانفتاح على مجالات إعلامية ثقافية متعددة، من دون أن يكون خاضعا لمشيئة الدولة وسياساتها الإعلامية والثقافية.

هذا الانفتاح، وما يقابله من تسرب معلوماتي مقصود ـ علي الأقل في جزء مهم منه ـ إلى الفرد، لابد أن يؤثر على هذا الأخير، إلى الدرجة التي يمكن معها أن يرتبط برصيد معرفي مشترك مع هوية أخرى؛ رصيد قد يؤثر في تفكيره وسلوكه ربما أكثر من المتعلق بهويته الأصلية.

هنا تبدو الإشكالية واضحة.. إنها إشكالية الهوية التي تثور عند التأثير سلبا على الرصيد المعرفي المُمَثِل لها، بل تصبح أكثر حدة عندما يتناقض الرصيد المعرفي المشترك لأعضائها، إلى الدرجة التي يتحوّل معها السلوك الإنساني البسيط إلى مشكلة تثير انقساما معلوماتيا حادا مشاهدة التلفاز مثلا.. حلال أم حرام إعلام أم غسيل مخ؟

في هذا السياق، وفي إطار كيفية التعامل المبدئي مع هذه الإشكالية، يمكن أن نشير إلى أنه إذا كان لا وجود لهوية إلا بمواجهتها بهوية أخرى، مختلفة عنها في التاريخ والأهداف؛ وإذا كان لا فاعلية لهوية من دون وعي التهديد النازل عليها، والأسباب التي تمليه وتحض عليه، والتعرف على الوسائل التي ترد التهديد وتردعه؛ فإن وعي الهوية يتضمن بالضرورة ارتقاء في الوعي والمعرفة أي: ارتقاء في الرصيد المعرفي المشترك لأعضائها، لا من حيث الكيف وحسب، ولكن من حيث الكم أيضا.. كم المشاركة في هذا الرصيد المعرفي.

وبكلمة.. فإن الهوية الوطنية، هي هوية مستقبلية (الرصيد المعرفي المتجدد)، تتطلع إلي المستقبل أكثر مما تنظر إلي الماضي. فالمستقبل الذي يتميز عالمنا المعاصر بالانشداد إليه، هو الحياة أو هو مشروع ينبض بالحياة، في حين أن تقديس الماضي عزوف عن الحياة، حتى لو كان هذا العزوف مليئا بالصدق والأمانة.

حسين معلوم

كاتب وباحث مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock