منذ نحوٍ من سبع سنوات، غيّب الموت المفكر والفيلسوف البارز، الدكتور علي مبروك، بعد صراع مع المرض، عن عمر ناهز الخامسة والخمسين.
عرف مبروك مكمن الداء وأحسن تشريح الواقع العربي، كاشفا عن تأزماته ومشكلاته ملتمسا قدر المستطاع أسباب الخروج من تلك الهوة التي صار إليها العقل العربي المُتكئ على أوهامه.
لقد تفحّص مبروك الواقع العربي بعين الباحث ورؤية الفيلسوف، فرآه موغلا في متاهاته، مُعمِّما ومُلفقا ومرتبكا بشدة، جرّاء تمذهباته وتحزباته، وهو ما جرَّ عليه انغماسا كاملا وتمترسا واضحا خلف الرفض للدين والحداثة في آن، وهو ما عبّر عنه مبروك في كتابه “ثورات العرب” بأن الإجابة لا تكمن في الرفض لأحدهما أو كلاهما، بل هي في “تجاوز “خطاب القوة” الذى استبد بهما، والانتقال إلى “خطاب الحق” الذى جرى تغييبه عنهما”.
يطرح مبروك إجابة لذلك السؤال المشتبك جدا، حول تلك اللحظة التي أطيح فيها بخطاب الحق لصالح خطاب القوة، ما أدخل الأمة العربية في تجاذب امتد بتعاظم من تلك اللحظة إلى يومنا هذا، وقد يمتد لأجل غير معلوم، يرى مُقْتَرَفَ رفع المصاحف في صفين حين أدخل القرآن الكريم كطرف في الصراع، يدرأ به دهاة جيش الشام عن أنفسهم هزيمة ساحقة باتت وشيكة، وبالرغم من أن الإمام عليا قد فطن منذ الوهلة الأولى لخطورة هذا الاستدعاء غير المُبَرَّأ عن الهوى على وحدة الأمة وتماسكها، لعلمه أن الصراع بذلك قد اتسعت حدوده حتى أنها ستطال ساحات ما كان أغنى الأمة عن أن تحرق بنيران الفتنة؛ حتى أنه قال: “إن القرآن كتاب مسطور لا ينطق بلسان وإنما ينطق عنه الرجال”. وهذا ما يعني إدراكه الكامل لجريرة الأمويين بجعل كتاب الله سيفا مُخضِعا، وهذا ما يعني أنه قد تحوّل عن أصله المستنطق بأفهام الرجال والمنتج للمعرفة والصانع للوعي؛ لذلك فليس من المستبعد على الإطلاق أن رءوس القبول لأمر التحكيم في جيش العراق؛ كانوا دسيسة جيش الشام، وأن من رفع عقيرته صارخا للمرة الأولى بالقول: ويلكم أتُحَكِّمونَ الرجال في كتاب الله؟ “إِنْ الحُكْمُ إِلّا لِلهِ” هو أيضا أحد عناصر المشهد التآمري الذي أفضى إلى أن تصبح تلك الفتنة عابرة للزمن، بل أنها صارت تعتقل زمن الأمة إلى ما لا نهاية.
يذهب مبروك أن تلك اللحظة الفارقة في صفِّين، قد أحدثت تأثيرات ظلت مستمرة حتى الآن متجاوزة الجانب السياسي، إلى ما هو أعمق وأخطر حيث تشكيل الأفكار، وتكوين البنية المعرفية، ليظل ذلك الانقسام السني/ الشيعي قيد الاستدعاء، مفرغا المضامين التي تتأسس عليها الماهيات، وفق التحديات التي تواجهها الأمة؛ حتى أننا نراه الآن يحل بديلا عن الصراع العربي الصهيوني، الذي بات وشيكا جدا من عالم النسيان! هذه اللحظة الممتدة المنتجة للفتنة التي ولدت كبرى ثم صارت اليوم أكبر وأكبر، وتبدو وكأنها ماض يهيمن على الحاضر، ويهدر بمآلاته المستقبل، كان لابد لها من سدنة يرتبطون بها على أوثق ما يكون، فهم بين حالة الإنكار، والتقديس يراوحون، ويرى مبروك أن الأصولية قد لعبت هذا الدور وأن الأمر استلزم أن يكون هناك مؤرخون أصوليون كأبي جعفر الطبري وابن كثير، كما استلزم ذلك الترويج لمقولات تحذر من أن الفتنة في الخروج على الحاكم، حتى وإن كان ظالما مثل “حاكم غَشُوم، خيرٌ من فتنة تدوم” وإن الحكم لمن غلب، وإن الحكم لصاحب الشوكة وطاعته واجبة ما دام لم يمنع المسلمين الصلاة، فإذا منعهم وجب قتاله، وهي الحالة الوحيدة التي يجيز فيها فقهاء السلطة الخروج على السلطان، فيصبح الحاكم مهما طغى، أرحم من الفتنة. ولكن وجود هذا النوع من الحكم الغشوم ألن يكون سببا في الفتنة؟”.
كان الهدف من ذلك كله كما يرى علي مبروك أن يدعم خطاب القوة في مواجهة خطاب الحق، وأن يكرس للقرآن الكريم كسلطة قاهرة، لا كموضوع مطروح للفهم، وكان ذلك استهلاكا للأمة في حقبة أموية ممتدة بأثر التخويف من البحث لإظهار الحقيقة، التي هي عند البعض أهون من أن يبذل الجهد في البحث عنها توقيا للوقوع في فتنة نجانا الله من أن تنال دماؤها سيوفنا، فحري بنا أن نعصم منها ألسنتنا، فهل نحن حقا نجينا من تلك الفتنة أم أننا ما زلنا واقعين في أسرها إلى اليوم؟
يتبين لنا أن الدكتور علي مبروك، قد أيقن أن الموقف من التراث، الذي فرض فرضا على العقل العربي، قد أحاله إلى التكلس الذي لم يستطع إزاءه أن يخرج عن أقنوميته الجامدة، إلى ساحة الممارسة المفتوحة التي تغنيه وتنميه، على غرار ما حدث للعقل في الثقافة الغربية، حيث هو “تكوين متنام ومشروعٌ مفتوح، وليس جوهرا أو معطى جاهزا ومكتملا” كما أنه بالطبيعة لا بد له أن يخوض معاركه، وأن يبرهن على وجوده نفيا ورفضا لكثير من المسلمات، فلا عقلانية دون تحرر يدحض الوهم ويسقط الخرافة التي هي أساس كل سلطة باغية، وطالما بقي العقل العربي في حال المراوحة تلك، فإن الواقع سيعيد إنتاج الماضي بصورة أسوأ، بل سيصبح تجليا صارخا لجملة الاجتهادات الفاسدة والمضللة وغير المبرأة عن هوى السلطة التي أوجدتها الفتنة الكبرى، ووجدت في ما يسمى بفصائل تيار الإسلام السياسي موئلا خصبا، بدأ أمويا / خارجيا بحسب توزيع الأدوار، إلى ما صار إليه اليوم داعشيا/ وسطيا لا يوجد ثمة فوارق جوهرية، وهو ما أكده مبروك في آخر ما نشر له من مقالات حيث قال: “…إنه لا معنى لأن يكون الإسلام السياسي- وذروته داعش- هو نتاج الفعل الثوري العربي في بدايات القرن الحادي والعشرين، إلا أن سلطان الوهم هو الأقوى؛ وهو وهم أن يكون الماضي المُتخيل هو السبيل إلى إخراج العرب من أزمتهم. وحين يدرك المرء ما يبدو من أن عقل العرب لم يجد ما يتكئ عليه في المواجهة مع داعش إلا وهم الإسلام الوسطى المعتدل؛ وبما يعنيه ذلك من أنهم يستبدلون وهما بوهم”.
لقد خاض الدكتور على مبروك حربه الشجاعة بصبر وأناة وتحمل في سبيل إيمانه بأفكاره الكثير من العنت، ويكفي وهو الأستاذ الجامعي أنه حُرم من الترقي لأربع مرات، لا لشيء إلا لأن جامعاتنا التي مازالت تقبع في ظلمات العصور الوسطى رأت أن الرجل يجترئ على ما اعتبروه مقدسا، ولو أنهم أوتوا شيئا من الحكمة لعلموا أن التراث الذي مد إليه مبروك مبضع جراح ماهر، هو مكمن داء لابد له من الدواء، وهو ما لم يعد مجديا معه إرجاء…رحم الله الفيلسوف الذي رحل في هدوء، كما عاش متجنبا الأضواء لا ساعيا لشهرة، غير متراجع عن معارك رأى أن من واجبه أن يخوضها.
بطاقة تعريف:
ولد مبروك عام 1961، وحصل على الماجستير عام 1988 والدكتوراه عام 1995، وعمل أستاذا للفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة، كما عمل لفترة أستاذًا مساعدا بجامعة كيب تاون في جنوب أفريقيا.. أعلن عن وفاته بالقاهرة يوم الأحد الموافق20 مارس 2016.
من مؤلفاته
1-“النبوة…من علم العقائد إلى فلسفة التاريخ”
2-“عن الإمامة والسياسة، والخطاب التاريخي في علم العقائد”
3-“لعبة الحداثة بين الجنرال والباشا”
4-“ما وراء تأسيس الأصول…مساهمة في نزع أقنعة التقديس”
5-“الخطاب السياسي الأشعري…نحو قراءة مغايرة”
6-“السلطة والمقدس…جدل السياسي والثقافي في الإسلام”
7-“ثورات العرب…خطاب التأسيس”
8- فى لاهوت العنف و الاستبداد – الفريضة الغائبة في تجديد الخطاب الديني
9- الدين والدولة في مصر – هل من خلاص؟
10- أفكار مؤثمة؛ من اللاهوتي إلى الإنساني
11- القرآن والشريعة؛ صراعات المعنى وارتحالات الدلالة
12- نصوص حول القرآن؛ في السعي وراء القرآن الحي