فن

نجيب الريحاني.. “المشاكس العبقري سابق عصره” 

مع بداية عرض حلقات مسلسل الضاحك الباكي عن سيرة الريحاني؛ ثارت العديد من الانتقادات التي تتعلق بالأسلوب والطريقة التي اتبعها محمد فاضل في إخراج العمل.. حيث ظهر للوهلة الأولى تمسكه بالشكل التقليدي القديم للدراما التليفزيونية، وعزوفه التام عن استخدام التقنيات الحديثة.. لينال فاضل -المتوقف عن الإخراج منذ نحو عشر سنوات- نصيبا وافرا من النقد؛ زاد منه إسناد دور والدة نجيب الريحاني، وهي في مرحلة الشباب إلى الفنانة فردوس عبد الحميد (75سنة) ما أثار سخرية البعض؛ بينما اعتبره آخرون سقوطا مدويا للعمل من الحلقة الأولى.. ومهما كانت الهنّات التي ظهرت في الحلقتين اللتين عُرضتا؛ فإن التعجل في إصدار الأحكام غير مقبول، فالمتبع أن ننتظر حتى ينتهي عرض العمل أولا.. لنشرع بعد ذلك في إطلاق الأحكام عليه.. بقي أن نشير إلى أن الفنان نجيب الريحاني أحد أهم القامات في تاريخنا الفني- لن يستطيع أي عمل فني مهما بلغت درجة إتقانه وروعته؛ أن يقترب من القيمة الفنية والإنسانية الحقيقة للفنان الفذ الذي كان متفردا بموهبته وسابقا لعصره الذي كان أحد رواده الكبار.. وإلى إطلالة على جانب من حياة نجيب الفنية الحافلة التي اتسمت أحيانا كثيرة بالمشاكسة مع العديد من الاطراف حتى “اشتكى منه طوب الأرض، وطوب السماء إذا كان لها طوب” على حد تعبيره الساخر.

عندما بلغه أن الملك قد أنعم على جورج أبيض ويوسف وهبي وسليمان نجيب برتبة البكوية، وأنه لم يكن من ضمن المُنْعَم عليهم، اغتم نجيب وركبه الهم، ولاحظ ذلك سليمان نجيب –وكان قريبا من القصر-  فعرض عليه أن يرتب حضورا ملكيا لعرض من عروضه المسرحية، حتى إذا حدث السرور الملكي، كان الإنعام بالبكوية أمرا مسلما به.

نجيب الريحاني واستيفان روتسي تتوسطهم زينات صدقي من فيلم غزل البنات
نجيب الريحاني واستيفان روتسي تتوسطهم زينات صدقي من فيلم غزل البنات

لا ندري على وجه الدقة ما دار بذهن الريحاني بعد أن وافق على عرض سليمان نجيب الذي بدأ ترتيباته على الفور، لكن ما حدث بعد ذلك، كان صادما؛ فلقد اختار الريحاني للعرض، الفصل الثاني من مسرحية الدنيا على كف عفريت، وهو فصل تدور أحداثه في حارة مصرية يعاني أهلها الفقر المدقع، ويتحدثون لغة شديدة السوقية عامرة بالسباب والشتائم! لم يغادر الملك العرض كما توقّع كثير من الحضور، أذهلته المفاجأة؛ لكنه تحلى بالصبر -على غير عادته- وانصرف بعد انتهاء العرض، وهو غاضب أشد الغضب مما شاهد وسمع من نقد لاذع للأوضاع الاجتماعية التي كان المجتمع المصري يئن منها، في غيبة من “جلالته” وانشغال من الحكومات الحزبية بالصراع فيما بينها، فلا أحد يعنيه حال المصريين في قليل أو كثير.

بعد انتهاء العرض سارع سليمان نجيب إلى الريحاني، مؤنبا معاتبا؛ فإذا به يفاجأ بابتسامة ممرورة من الفنان النبيل، ورد ولا أبلغ: “وجدتها فرصة أن يعاين جلالته الواقع البائس الذي يعيش فيه شعبه، وإن لم أفعل فأنَّى له أن يراه، وهو الذي لا يعرف سوى حياة القصور والنوادي الفخمة”.. يتعجب سليمان من كلامه ويعاود لومه: “لكنك أضعت فرصة الإنعام عليك بالبكوية، وأغضبت جلالته”.. فيجيب الريحاني: “إن رضا جلالته لا يعنيني، أنا لا يهمني سوى رضا الناس الذين يملئون المسرح كل ليلة، هم من أرجو رضاهم وأخشى سخطهم.. هذا كل ما في الأمر”.

كان نجيب الريحاني قد دأب على مشاكسة السلطات بأعمال تحمل نقدا لاذعا، منها مسرحية حكم قراقوش عام 1935، التي قيل إنها أغضبت الملك، حينما عرضها الريحاني في رأس البر بحضور مصطفى النحاس، إذ ضج المسرح بالهتاف للوفد ورئيسه -سيد البلد- حسب تعبير بديع خيري في فقرة زجلية عرضت بين الفصلين الأول والثاني، على الفور طلب محافظ الإقليم لقاء النحاس؛ ليطلب منه إقناع الريحاني بترك رأس البر والعودة إلى القاهرة؛ بعد أن وصلت أصداء ما حدث إلى مسامع القصر، وكان الريحاني قد تعاقد على عروض حتى نهاية الموسم الصيفي، واضطرت الحكومة إلى تعويض المتعاقدين والفرقة في مقابل أن ينهي الريحاني أعماله ويعود مع فرقته فورا إلى العاصمة، بعد أن تصاعد الغضب بين المصطافين بسبب هذا التعسف.

إعلان مسرحيَة حكم قراقوش
إعلان مسرحيَة حكم قراقوش

قدم الريحاني شخصية كشكش بك عمدة كفر البلاص في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية، ونالت الشخصية استحسان المصريين الذين كانوا يتناقلون النكات التي يطلقها الريحاني على لسان الشخصية، وكان معظمها يحمل نقدا شديدا للأوضاع السياسية والاجتماعية.

ومن الطريف أن أحد أفراد فرقة الريحاني، وهو أمين عطا الله، عندما عاد إلى موطنه سورية كون فرقة مسرحية وعرض كل روايات كشكش بك مع بعض التصرف لتناسب الواقع الشامي، وعندما وصل الريحاني بفرقته بعد ذلك إلى دمشق وقدم عروضه لم يلق أدنى نجاح، فقد كان أداء الفرقة -في نظر جماهير الشام- محاولة يائسة، لتقليد كشكش بك الأصلي الفنان أمين عطا الله! تقبل الريحاني الموقف، وقرر العودة إلى القاهرة سريعا، ولكن الأغرب من ذلك أنه عندما قرر تنظيم رحلة فنية إلى البرازيل والأورجواي والأرجنتين، فوجئ أن كشكش بك سبقه إلى هناك أيضا، ولم يكن هذه المرة سوى شاب شامي من أقرباء أمين عطا الله.. وسُرق إبداع الريحاني ثانية.

ويروي الريحاني أن السلطات لم تكن لتفوِّت فرصة تستطيع من خلالها أن تبلغه فيها إعجابها وتقديرها! كموقف وزارة المعارف التي ردت على إحدى الجمعيات الخيرية رسميا بخصوص طلبها السماح لها بإقامة حفلها السنوي بدار الأوبرا الملكية، مع تقديم فرقة الريحاني لإحدى مسرحياتها ضمن فقرات الحفل- بأنه لا مانع من التصريح بالدار لإقامة الحفل، بشرط عدم تواجد الفرقة المذكورة.

نجيب الريحاني على المسرح سنة 1927م وهو يُؤدّي شخصيَّة كشكش بك
نجيب الريحاني على المسرح سنة 1927م وهو يُؤدّي شخصيَّة كشكش بك

ويذكر أن الزعيم سعد زغلول كان يداوم على حضور مسرح الريحاني، بصحبة كبار الساسة آنذاك، وكان هذا مما يدفع الريحاني لزيادة جرعة النقد السياسي في مسرحياته، كما كان يحرص على دعم الوفد ماديا.. ما جعله محل تقدير وثناء محمد فتح الله باشا بركات ابن أخت الزعيم سعد وأحد من نفوا معه إلى جزيرة سيشل.

كان الريحاني معنيا جدا بأن يكون ما يقدمه مؤججا للشعور الوطني؛ حتى ولو كان على حساب القيمة الفنية، وذات مرة اجتمعت إرادته على صنع فن خالص يعوِّض به ما فاته بسبب انشغاله المستمر بقضية التحرر الوطني، وعلاج مشكلات المجتمع وآفاته.. أراد الريحاني أن يقدم عملا يصل إلى ذروة الإبداع الفني في كافة جوانبه، فبدأ باختيار نص رائع، وخصص ميزانية ضخمة، ووضع برنامجا تدريبا مكثفا للفنانين المختارين بعناية.

كان النص فرنسيا بعنوان اللحية الزرقاء فعُهد به لمحمد بك تيمور لتمصيره، وقام بديع خيري بكتابة الأشعار التي لحنها فنان الشعب سيد درويش، وعهد بعمل المناظر إلى مصمم يدعى علي حسن، كان قد عاد لتوه من إيطاليا، كما اشترى الريحاني الكثير من التحف والملابس التاريخية.. وكان بعضها قطعا أصلية! وظل أفراد فريق العمل لأربعة أشهر يؤدون البروفات، حتى بلغت جملة المبالغ التي أنفقت على أوبريت العَشرة الطيبة قبل عرضه الأول ثلاثة آلاف جنيه مصري، وكان مبلغا ضخما جدا آنذاك.

تضمنت الرواية شيئا عن استبداد الشراكسة ومظالمهم، وكانت تركيا قد نالت هزيمة مريرة في الحرب العالمية، ما جعل الشعور العام في مصر يميل إلى التعاطف معها، وخاصة أن إنجلترا كانت السبب الأهم والأبرز في تلك النازلة القاسية، فثارت ثائرة الكثيرين على الريحاني (عميل الإنجليز) الذي يصنع روايات تتشفي في اندحار الأتراك وتمجد انتصار الأعداء، وتلقف حساد الريحاني وشانئوه، كرة النار فزادوها لهيبا، ولم تكن هذه الفتنة لتخمد نارها إلا بتدخل أحد أعضاء الوفد المصري الذي يحظى باحترام المصريين وتقديرهم، ووقع الاختيار على مرقص باشا حنا وكيل اللجنة المركزية للوفد؛ فحضر العرض بصحبة قرينته وكريمته، ونالت المسرحية إعجاب الباشا الذي صرح لجميع الصحف في اليوم التالي بأن الرواية رائعة، ولا تنطوي على شيء مما أذاعه عنها المغرضون.. ويعلق الريحاني على هذا الموقف قائلا: “كان هذا التصريح الكبير من رجل مثله له مكانته في قلوب الأمة، معولا دك حصون خصومي ودوّرهم على أعقابهم خاسرين.. ومع ذلك فإن فرارهم من الميدان العام لم يكن ليحول بينهم وبين بث دعايتهم، كل وما يقدر عليه”.

“مسرح الريحاني”.. تلك الساحة الخالدة التي شهدت أهم حلقات الكفاح الوطني؛ حين كانت الجنبات تهتز بهتافات الجماهير لمصر، ولاستقلالها وحريتها، في حين كانت الأفواه في الخارج قد كممت بالأحكام العرفية، والإجراءات الاستثنائية، ذلك المسرح الذي شهد ميلاد فن واقعي، يمس مشكلات الناس وأزماتهم، كما شهد ميلاد لغة مسرحية جديدة على لسان الريحاني وبديع خيري، بعد أن كانت لغة المسرح خطابية خامدة لا روح فيها، أو مسخا من المسرح الأوروبي لا طعم لها.

في مقال له بعنوان رجل خُلق للمسرح قال العقاد: “إنك تحاول أن تتخيل الريحاني في عمل آخر غير عمله المسرحي فلا تفلح، هو علي المسرح كالسمكة في الماء.. دخوله إليه وحركته عليه وكلامه وسكوته وإيماؤه وقيامه وتصوره طبيعة من صميم الطبيعة تنسيك كل تكلف يحتاج إليه الفنان حتي ينتقل من العالم الخارجي إلي عالم الفن والرواية”.. حقا لقد كان الريحاني فارس التلقائية والعفوية في الأداء، فلم يضبط مرة متلبسا بالتمثيل، لقد كان الفن معه طبيعة ريحانية.

بالمستشفى اليوناني بالإسكندرية، وبجرعة زائدة أعطيت له عن طريق الخطأ من عقار الأكرومايسين تنتهي حياة الريحاني الحافلة، عن عمر ناهز الستين، وكان قد رثى نفسه قبل ذلك اليوم بنحو أسبوعين قائلا: “مات نجيب.. مات الرجل الذى اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذى لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب.. مات الرجل الذى لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق، ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح.. مات الريحاني.. في ستين ألف سلامة”.

ماهر الشيال

باحث وكاتب ومحرر مصري.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock