في قراءة لمحاولات البعض التصدي لتفسير الاصطلاح القرآني “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، وصلنا في المقال السابق، إلى أنه من المستبعد أن يكون المقصود من هذا الاصطلاح، “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” أنه النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ كما أنه من المستبعد أيضا أن “الْأُمِّيِّينَ” تعني الذين لا يقرأون ولا يكتبون.
فماذا إذن عن دلالة هذا الاصطلاح؟ وماذا يعني من حيث مواضع وروده في آيات التنزيل الحكيم؟ خاصة أنه ورد في أكثر من موضع؛ بل ورد صفة وتمييزا للرسول الكريم -عليه الصلاة والسلام- بأنه أُمِّي من خلال الصيغة الثلاثية “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” التي وردت مرتين: في سورة الأعراف [157 – 158]. وهو التساؤل الذي لا يكفي معه القول بأنه “من المستبعد أن يعني النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب”؛ إذ من أين يأتي هذا الاستبعاد؟
هنا محاولة لوضع اليد على الملامح الدلالية لهذا الاصطلاح، وتحديد المفهوم القرآني له، عبر استقراء مواضع ورود مصطلح (أُمِّي) ومشتقاته في آيات التنزيل الحكيم.
النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ
ورد مصطلح (أمِّي) ومشتقاته في ستة مواضع في كتاب الله الكريم. مرتان في كل من سورتي “آل عمران” و”الأعراف” ومرة واحدة في كل من سورتي “البقرة” و”الجمعة”. والملاحظ هو ورود المصطلح في صيغة الجمع في أربعة مواضع؛ ولم يأت في صيغة المفرد إلا “صفةً” و”تمييزا” لـ”الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” -عليه الصلاة والسلام- وذلك في سورة الأعراف.
يقول الله سبحانه: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ” [الأعراف: 157]. وكما يبدو من الآية الكريمة، فإن “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” هو النبي الخاتم؛ وهو في الوقت نفسه من غير “أَهْلِ الْكِتَابِ” بدليل أنهم “يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ”.
ولنا أن نلاحظ -تأكيدًا على ذلك- أن الآية تبدأ بـ “الَّذِينَ” وهو اسم موصول يصل الآية الكريمة بالسياق الذي سبقها؛ وهو السياق الذي يتحدث عن موسى عليه السلام وقومه من بني إسرائيل.. وهو أيضا السياق الذي يبدأ من قوله تعالى: “وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي…” [الأعراف: 150] وصولا إلى قوله سبحانه: “… قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ” [الأعراف: 156].. ليكتمل السياق بقوله: “الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ…” [الأعراف: 157].
وهذا ما تؤكد عليه الآية الكريمة التالية مباشرة؛ حيث يقول تعالى: “قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِ وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ” [الأعراف: 158].. وهي الآية التي تؤكد على عالمية الرسول والرسالة “قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا”؛ وعلى الإيمان “بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ” واتباع الرسول “لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ”.. بالإضافة للتأكيد مرة أخرى على صفة “الْأُمِّيِّ” التي يتصف بها الرسول الكريم “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” عليه الصلاة والسلام.
مصطلح الْأُمِّيِّينَ
إضافة إلى مصطلح “الْأُمِّيِّ” الذي يتصف به الرسول الكريم قرآنيًا، فقد ورد المصطلح في صيغة الجمع “الْأُمِّيِّينَ” كما في قول الله سبحانه وتعالى: “فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِي لِلَّهِ وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ” [آل عمران: 20]. وكما هو واضح، من سياق الآية الكريمة، فإن جملة “وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ” تُشير إلى المفارقة والاختلاف بين “اِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ” وبين “الْأُمِّيِّينَ” نتيجة عطف المصطلح الأخير على الأول؛ بما يعني أن “الْأُمِّيِّينَ” هم – من حيث موقعهم- خارج إطار “اِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ” أي: ليس لديهم “ْكِتَابَ”.
يؤكد ذلك حرف “إِنْ” الاحتمالية التي وردت في أول الآية، بما يؤشر إلى احتمالية أن يقوم “اِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ” بالمحاججة “فَإِنْ حَاجُّوكَ”؛ وهو ما يعني أيضا الربط بين هذه الآية، والآية الكريمة التي تسبقها مباشرة، عن طريق حرف العطف “الفاء” حيث يقول الله سبحانه: “إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ” [آل عمران: 19].. وهو ما يؤكد من جديد في سياق تكامل الآيتين [آل عمران: 19-20] على الفارق والاختلاف بين “الْأُمِّيِّينَ” وبين “اِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ”؛ وأن المسألة لا علاقة لها بالقراءة أو الكتابة، ولكن لها علاقة بمن لديهم كتاب، والذين ليس لديهم مثل هذا الكتاب.
ثم تأتي الآية (75) من سورة آل عمران، لتؤكد تأكيدًا واضحًا على وجود هذا الفارق، والاختلاف، بين المصطلح القرآني “اِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ” وبين المصطلح القرآني الذي نحن بصدد دراسته “الْأُمِّيِّينَ”.. إذ يقول الله تعالى: “وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ” [آل عمران: 75]. وغنيٌ عن البيان أن الذين “قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ” هم بحسب منطوق الآية “مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ” بما يعني الاختلاف بينهم وبين “الْأُمِّيِّينَ”.
تعريف الْأُمِّيِّينَ
قد يقول قائل، إن كل ما سبق هو محاولة للاقتراب من مصطلح “الْأُمِّيِّينَ” مجرد اقتراب وليس دراسة لتحديد مفهوم المصطلح وملامح دلالته.. ومعناه؛ وهذا صحيح. إذن ما معنى المصطلح قرآنيًا؟ وعلى ماذا يدل، بالدليل القرآني؟
لم يترك القرآن الكريم مصطلح “الْأُمِّيِّينَ” دون تعريف واضح لا لبس فيه.. يقول الله سبحانه وتعالى: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” [البقرة: 78]. وهنا يتضح التعريف القرآني الدقيق لمصطلح “الْأُمِّيِّينَ”؛ فقول الله سبحانه: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ” يتبعه مباشرة التعريف بهم، فهم أولئك الذين “لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ”. وبالتالي، فالمقياس القرآني لـ”الْأُمِّيِّينَ” هو عدم العلم بالكتاب “إِلَّا أَمَانِيَّ” وليس عدم العلم بالكتابة.
بل ومن النافل القول إن هذه الآية الكريمة لا تحتاج إلى تفسير؛ إذ هي تعريف واضح وصريح، في أوائل آيات التنزيل الحكيم، في سورة البقرة، للمصطلح القرآني “الْأُمِّيِّينَ” بكونه مصطلح يشمل “كل إنسان، في أي مكان في العالم، لا يعلم الكتاب”.
ولكن يبقى التساؤل: لماذا الاستثناء في قوله سبحانه “إِلَّا أَمَانِيَّ”؟ وما علاقة قوله تعالى “وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” بأولئك “الْأُمِّيِّينَ”؟ والأهم بالآية الكريمة التالية مباشرة، نعني قوله سبحانه وتعالى “فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ” [البقرة: 79].
هذا ما سنحاول الإجابة عنه في حديثنا القادم بإذن الله تعالى.