رؤى

تأملات “أستاذ الجيل” أحمد لطفي السيد.. في السعادة والحرية

إنه الحقوقي ابن العمدة الذي أصبح يلقب بأستاذ الجيل والذي وصفه المفكر والمصلح الاجتماعي إسماعيل مظهر [1891-1962] بأنه سابق لعصره بعبقريته الأصيلة والتي لا تتولّد كغيرها من العبقريات الاصطناعية؛ نتيجة لاكتساب المعارف أو الفنون، بل إنها تتطلب بالأساس شخصية تتمتع بالحرية قبل أن تتعمق في بحور الفكر المستنير. ولذلك تفرّد أحمد لطفي السيد [1872-1963] بحس المفكر الحر، مُناديًا بالهوية والوطنية المصرية ومطالبًا بما يجب أن تتمتع به بلاده من استقلال وحرية؛ حتّى لو أدى ذلك إلى تعرضه للمساءلة القانونية، أو إلى معارضة أفكاره ومقاومتها، بسبب عدم اكتمال الوعي الجمعي.

لقد كرَّس أحمد لطفي السيد حياته لإيقاظ الوعي الوطني، لدى أبناء مصر لإيمانه بأنهم وحدهم هم القادرون على تحريرها من سطوة الاحتلال بكل أنواعه وأشكاله، كما دعا الطلبة إلى الاشتغال بالسياسة برغم الاضطهاد والتنكيل، وطالب بالدستور، ونادى بحرية المرأة، وبشَّر بحرية الفرد.

ولأنه عاش صادقًا مع نفسه وصادقًا في تفكيره ومنطقه، فقد صدق مع الناس الذين صدَّقوا أفكاره على أمل أن تتحقق في يومٍ ما.

ولا عجب في أن يرتبط اسم أستاذ الجيل بالصدق، فهو الذي كتب في مقاله (الرجل الصريح) المنشور في الجريدة في عددها 2111 بتاريخ 18 فبراير سنة 1914: “إن الخداع درع بالية لا تستر صاحبها إلَّا عندما تعمى بصائر الناس، فإذا ما أبصروا فلن يكون خادعهم محلًّا لثقتهم من جديد. والمخادع الكاذب هو بالأساس يُفرِّط في حق نفسه وفي حق إنسانيته بإخفائه لحقيقة شخصيته التي يضعف عن إبرازها ويجبن عن المجاهرة بمكنونها؛ ومن ثم فهو لا يمكنه تحمل مسئولية سلوكياته النابعة من داخله والمعبرة عن أخلاقه الحقيقية، ولا يمكنه تحمل نتيجة أفعاله حتى لو أنكرها الناس، ولذلك فهو يتلون كالثعبان مداجيًا جلساءه في تخلٍ واضح عن الشجاعة والعزة والضمير الحي”.

وعن السعادة كتب الأستاذ أحمد لطفي السيد في مقاله “الرجل السعيد” المنشور في الجريدة بتاريخ 11 يناير سنة 1914 في العدد رقم 2077: “إن هناك حاجة ماسَّة إلى التعرف على الإنسان السعيد، خاصة ذلك الذي يحيا في المدينة وتثقله هموم الركض المستمر في الحياة، فإذا به من فرط إجهاده يختفي بريق عينيه لانشغال عقله بأعباء الحياة وأوزارها التي أثقلت حركته وأمرضت قلبه، والذي كلما ازداد تعلقه بعرَض الدنيا ومتاعها الزائل؛ كلما فقد أهم مزايا إنسانيته وهي الحرية”.

وإذا كانت المدنية منحت الإنسان الترف والتقدم إلَّا أن أهلها في حرب مستمرة، فهم حتى في أوقات السلم يتجرعون ويلات الخوف من الحرب ومن الفقر، لذلك فهم لا يفترون عن المزاحمة على حاجات الدنيا وكمالياتها ويتنافسون على مناصبها وثرواتها التي تفتنهم وتلهيهم وتصيبهم بالقلق وربما بسببها يفقدون أخلاقهم ويتخلون عن صحوة ضمائرهم دون أسفٍ على ما أصابهم من عدم طمأنينة؛ بل وفقدان الشعور بالراحة والسلام النفسي؛ إرضاءً لشهوات أنفسهم المستعرة وتخليًا واضحًا عن إعمال عقولهم.

فالسعداء هم أصحاب النفوس الراضية والقلوب المطمئنة والعقول الحرة؛ لذلك فهم لا يتكالبون على زائل، ولا تملأ قلوبهم الهموم، بينما غيرهم لا يهدأ روعهم؛ حتى يصلوا إلى أغراضهم الدنيوية التي لا نهاية لها.. فإذا بحياتهم تنتهي بينما هم منغمسون في دوامة آمالهم حتّى النهاية.. يتقلبون بين الطمع فيما ليس لهم نصيب منه، والحسرة على ما فاتهم مما كانوا يتسابقون إليه، والحزن على مافقدوه، والزهو بما حصَّلوه، والشقاء بما جمعوه بدون وجه حق، والسخط على ما يصيبهم من شر، والضجر من كل خطب ونازلة، واليأس من إصلاح أنفسهم أو الوصول إلى السعادة.

وماذا يمكن أن تمنح السعادة لصاحبها أكثر من الطمأنينة وراحة البال؟! وذلك الأمر لا يمكن أن يتحقق إلَّا لكل من يحمل قلبًا سليمًا يعرف معنى الرضا دون أن يكون مُكرَهًا عليه، واستوعب الغاية من حياته القصيرة فأحسن استقبال حوادث الأيام السارة والمحزنة، ولم ينشغل سوى بما يجب عليه القيام به. آنذاك سيسهل على كل إنسان مطمئن أن يُسعِد غيره من البشر؛ ومن ثم ستتجلى السعادة المجتمعية في العمل لخير الإنسانية ورقيها؛ لتتحرر من سجن الأنانية وعبودية الطمع والرغبة الشهوانية في الاستئثار بالمنافع.

وهكذا يرى أحمد لطفي السيد أن السعادة تكمن في قيام المرء بما يعتقده من واجب بإخلاص ومثابرة، ثم في رضاه عن نتيجة عمله وقناعته بما جني من ثماره، وعدم الغرور والتعالي مع تحقيق كل نجاح أو تفوق، وكذلك عدم التقصير أو التكاسل أو السخط في حالة الفشل أو عدم التوفيق. فالسعادة في نظره ليست في الثروة أو الجاه أو السلطان أو الحب أو العلم أو الجمال أو الحكمة أو كل ما سواهم، ولكن السعادة هي ظن السعيد أنه سعيد!

أما فيما يتعلق بالحرية فقد كتب أستاذ الجيل في الجريدة بتاريخ 19 ديسمبر سنة 1912 في العدد 1754: “إن الغذاء الحقيقي الذي يحيا به الإنسان والذي من أجله يحب الحياة ليس إشباع البطون؛ وإنما هو إرضاء العقول والقلوب التي لا ترضى إلَّا بالحرية”.

لذلك فإن المطالبة بالحرية هي أمر بديهي لأنها هي الغذاء الضروري للحياة والدفاع عنها هو دفاع عن الحياة التي يقنع بها كل حي، والتي لا يضن بها فيحرم الأحياء من استيفاء نصيبهم منها إلَّا كل بخيل ولئيم.. فلا حياة إلّا بالحرية التي هي المُقَوّم الأول للحياة، وليس هناك أعجب من الذي يستهين بحياة الآخرين؛ فيعجل بقدرهم المحتوم إلَّا كل من يضرب بين الناس وبين المعاني ومقومات الحياة الوجدانية والعقلية والروحية بحجاب مكتفيًا بالمن عليهم بتزويدهم بالطعام والنقود، بينما يمنع عنهم حريتهم إلى أن يموتوا، وكأن الحياة شيء والحرية شيء آخر!

فالإنسان قد خُلِق حُرًّا له إرادته الحرة فيختار ما يفعله وما يتركه، بل يختار أن يعيش أو أن يموت، فإذا مُنِعَ من حرية التعبير ومن حرية الحركة ومن حرية الاختيار؛ فقد حُرِمَ من الانتفاع بحريته، وتلك الحرية المُعطَّلة عن الاستعمال هي في حكم المفقودة طالما ليست هناك استفادة منها بسبب عدم تيسير تفعيلها على أرض الواقع.

ولا يكون الإنسان حيًّا إلَّا بمقدار ما يستمتع به من حريته، فالحرية الناقصة هي حياة ناقصة، أما فقدان الحرية فلا يعني سوى الموت لأن الحرية هي معنى الحياة.

ولا صحة لذلك الإدعاء بأن هناك من خُلِق للسيادة ومن خُلِق للعبودية والاتباع، بل إن الإنسان خُلِق حرًّا بطبعه؛ لذلك من حق كل إنسان أن يسعى إلى الترقي في كل شيء وأن يحصل على حريته قبل أي شيء، فليس هناك ما هو أنبل من أن يبدي الإنسان نزوعه إلى التمسك بحريته ورفضه التخلي عن تلك النزعة الفطرية، حتى لو ضحّى في سبيلها بحياته. والحرية العقلية هي أساس كل الحريات لذلك على المتعلمين أن يستخدموا إرادتهم في إظهار حريتهم العلمية، وألَّا يهابوا من إبداء آرائهم بحرية، وأن يتخلصوا من عبادة الآراء والأفكار المتوارثة دون تمحيص اعتمادا على مكانة قائلها، وأن يتحرروا من أغلال الأوهام والأباطيل، وأن يصبروا على الأذى الناتج عن تمسكهم بحريتهم ودفاعهم عن حياتهم.

رحم الله أستاذ الجيل “أحمد لطفي السيد” الذي تحل ذكرى ميلاده في مستهل كل عام ميلادي جديد وتحديدًا في يوم (15 يناير)، فهو من أنار شعلة التعليم والنهضة، وأوقد في جيل كامل الحماس من أجل نيل الحرية ومن أجل الدفاع عن الهوية الوطنية وعن تراب الوطن وحدوده، وذلك إيمانًا منه بأن مصر لن ترفع رأسها إلَّا بعزة أبنائها إذا ما أحبوا الحياة وقاموا بالتضحية في سبيل حريتهم.

نيفين عبد الجواد

كاتبة وباحثة مصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock