تُعاني الحداثة من سمعة سيئة في بعض الأروقة الدينية والأقسام العلمية، فهي كلمة ثقيلة على نفوس بعض السامعين فلا يقل وقْعها على آذانهم عن كلمة “بائعة هوى”، ويقف وراء ذلك عدة أخطاء شائعة التصقت بالحداثة في التداول العربي، يُمكنُنا إجمالها في المغالطات العشر التالية:
أولها: التعاطي مع الحداثة كمصطلح ثابت لا يتغيّر، متأثرين بفكرة قديمة طرحها المنطق الصوري حول إمكانية إيجاد مفهوم جامع مانع، تلك الفكرة التي استبعدتها الدراسات الحديثة، فالحداثة كغيرها من المفاهيم في حالة تفاعل وتغاير مستمر، سيما أن العقل الغربي لم يتوقف عن نقدها بكل ما أُوتي من قوة. فالمفاهيم ليست صلبة يُمكن أن نحددها تحديدا نهائيا، نتفق عليه اتفاقا كليا؛ كما أننا أمام عشرات التجارب مع الحداثة، وليست تجربة واحدة، فالحداثة الألمانية تختلف عن الحداثة الإنجليزية فكريا، والحداثة الفلسفية الفرنسية تختلف عن الحداثة الفلسفية الأنجلو سكسونية، والحداثة اليابانية في مجال السياسة تختلف عن الحداثة الهندية؛ لذا تعددت تعريفات الحداثة في كتابات الحداثيين.
ثانيها: الخلط بين الحداثة بمفهومها الرّحب والحداثة في نسختها الغربية، فالحداثة بمفهومها العام، فعل تاريخي مستمر لا يقبل التحديد بفترة معينة، فلها جذور في الماضي وامتدادات في المستقبل، فـ”الحداثة ليست سوى علاقة بالزمن” على حدّ تعبير “هيغل”، ووفق هذا المفهوم؛ الإنسان يستمد قيمته من حاضره وما يُقدّم فيه من إنجازات ولا يكون فيه الإنسان مجرد امتداد لأسلافه، تلك الفكرة التي تسيطر على الفكر الديني التقليدي وتظهر في مفردات مثل: السلف، والأشراف، والقبيلة وعراقة العائلة، والأجداد وروعة الماضي.
فالحداثة حالة انتقال بالبشرية من هيمنة الأفكار العاطفية لصالح الأفكار العقلانية، بهذا يستعيد الإنسان مكانته وكرامته في هذا الوجود، ففرق كبير بين الإنسان في القرآن الكريم المكرَّم بالعقل ومن مقتضياته حرية التفكير والنقد وبين الإنسان في جانب من الفكر الديني المسلوب منه حق حرية التفكير.
فالحداثة في مفهومها العام فعل حضاري يُطلب من كل أمّة؛ كي تكون معاصرة لزمانها؛ فالأمة التي تستطيع أن تقوم بواجبات زمانها تفكيرا وإنجازا؛ فقد حققت الحداثة. فتاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ للحداثة بمفهومها العام، فهناك حداثات على مرّ التاريخ تناوبت عليها مجتمعات متنوعة في ثقافتها وتراثها، وداخل هذا الإطار العام للحداثة تأتي الحداثة الغربية المتمثلة في جملة التحولات العميقة التي طرأت على المجتمع الغربي منذ خمسة قرون بداية من القرن السادس عشر مع “النهضة” و”الإصلاح الديني”، وترسّخها مع “حركة الأنوار” وانتشارها مع “ثورة الاتصالات” حتى تكاد أن تسع العالم كلّه.
ثالثها: تداول الحداثة في الثقافة العربية كمرادف للادينية، وهذا ما يُكذّبه الواقع الحداثي الذي يمنح أتباع الديانات المختلفة مساحات من حرية الحركة والعمل والتعايش لا تُمنح لهم في أوطانهم الأصلية، فالحداثة ليست تنظيرا مطلقا لجدلية فكرية عميقة في علاقتنا بالآخر، والطرح النظري للحداثة ومحاولات تطبيقها ليس معناه مصادمة أو مفاضلة مع الوحي.
وأسهم في انتشار تلك المغالطة محاولات بعض الحداثيين العرب تقديم الحداثة بوجهٍ واحدٍ يدعو للقطيعة مع التراث، ويراها بديلا عن الدين، وهذا يتنافى مع الحداثة حتى في نسختها الغربية التي سعى بعض منظريها مثل سبينوزا وديكارت وكانط وبول ريكور إلى عقلنة الدين وليس نفيه؛ فالحداثة ليست ذات موقف واحد ثابت من الدين، فمن المغالطة اختزال الحداثة في مفهوم أو تجربة بعينها؛ لنقول: انظروا إلى بشاعة الممارسة، وتناقض المفهوم مع الدين، فهذا طرْح المنفعل الغاضب الذي يحاول تقديم عواطفه في إطار موضوعي.
رابعها: تجاهل أهم السمات المميزة للحداثة الغربية من كونها تحوّلات ذاتية إنمائية تراكمية قام بها الغرب نتيجة حراك فكري داخلى تلبية لتساؤلات حاضره وتطويرا لتجارب مجتمعه، فالحداثة لا تُفرض من الخارج على مجتمع لمّا يُدرك بعد حاجته إليها، فلا يجوز أن نطالب الأمة بموقف لا تعي دوافعه؛ لأنّ الموقف نتاج الثقافة أيا كان اتجاهها، والأمة محجوبة عن مناشئ الثقافة الواعية، بعد أن رسّب الخطاب الديني التقليدي في لا وعيها فكرة أن العصور الذهبية في كل شيء قد فاتت، وأنها غير قادرة عن إنجاز حاضر يتفوق على الماضي.. وللتحرر من تلك الأفكار السلبية نحتاج إلى تعزيز الشعور بالثقة في منجز الثقافة العلمية والفنية في العصر الحديث.
خامسها: نزوع المفكرين الإسلامويين إلى مثالية متعالية على الواقع تجعلهم يرفضون التفاعل النقدي مع التجارب الحداثية التي لن تخلو من قصور شأن التجارب الإنسانية، زاعمين أنهم يمتلكون تصوّرا نظريا لتجربة مثالية لمّا تتحقق.. وأمام العجز الأخلاقي للنظام العالمي الذي من أوجه عجزه: ضعف العدالة الاجتماعية، وتدهور النظام البيئي، واختلال موازين المؤسسات الدولية يجد الإسلامويون فرصة لممارسة خطابية جوفاء، زاعمين أنّهم يمتلكون البديل، متجاهلين كونهم أداة في إشعال الصراعات وعجزهم عن تقديم نموذج يحظى بالقبول الاجتماعي.
فـ”الصراع اليوم ليس صراع براهين أو أفكار، فلم يعد يصلح في هذا العصر المنطق النظري الذي يقوم على ترتيب الجمل وتنسيق الكلمات في مقدمة كبرى وصغري لاستخراج نتيجة منطقية، ونقول هذا هو برهاننا، وإنما هو صراع نماذج وتجارب على أرض الواقع، أصبح الإنسان المؤمن في حاجة أن يُقدّم تجربته مع الإيمان في صورة تجربة حضارية واقعية محسوسة – نُشير إليها، ونقول هذه تجربة المسلم المتدين المعاصر”، فالعالم اليوم حلبة منافسة بين نماذج معرفية متنوعة يُحاول كلّ منها أن يُثبت عمليا أنه الأقدر على خدمة الإنسانية في واقعها المعاصر، والإحصائيات المستمدة من واقع تلك التجارب جزء من النتائج التي تحكم بين تلك النماذج.
سادسها: نقْل مظاهر الحداثة من نهوض بالفعل العمراني والتّقني على أوسع نطاق، وإهمال جوهرها المتمثل في استرداد الإنسان، وهذا ما جعل الحداثة العربية مشوهة على حدّ تعبير أحد المفكرين العرب “كلّ شيء ولد في مجتمعاتنا مختنقا، بسبب أنّ “الحداثة” الوافدة تمّ تمزيقها أشلاء في الوعي التحديثي – ولا أقول الحداثي – فتمّ تقبّل الشلو التقني فقط، وتمّ رفض الأساس العلمي للتقنية، بكل مكوّناته من عقلانية ونقد وإبداع… تمّ تقبّل الديمقراطية، بدون أساسها، وهو حرية الفرد، تمّ تقبّل الاقتصاد الحرّ، بدون أساسه من حرية الفكر. لم يحدث الفصل بين السلطات، ولا كان ممكنا أن يحدث، لارتباط مفهوم السلطة بمفاهيم قروسطية مثل الراعي والحامي والزعيم الملهم والرئيس المؤمن”.
ومن أوضح نماذج اجتزاء الحداثة تأسيس الدولة الحديثة في مصر، فعندما أرادت أسرة محمد على باشا بناء المملكة المصرية على غرار ممالك الغرب، يشاركها في ذلك أبناء البعثات القادمين من جامعات الغرب، بدأوا من حيث انتهى الغرب، فنقلوا قشرة الحداثة التي من مظاهرها تعدد الصحف في وقت لا يعرف عامة المصريين الكتابة والقراءة، وأنشأت الجامعة في وقتٍ لم يُسمح فيه بحرية الفكر البحثي، وكُتب الدستور المصري وبدأت الحياة النيابية والحزبية السياسية، وبدأت الأنشطة الفنية والثقافية في الظهور في وقتٍ كان يرى عامة المصريين الديمقراطية كفر، والفنون حرام، والحزبية انقسام، فلم يتجاوز حوار الحداثة إلى يومنا مستوى النخب، فعلى مدار قرنين من الزمان تعاقب على حكم مصر نسخ مكررة من أبناء أسرة محمد على، وبعدها حركة الجيش سنة ١٩٥٢ التي قدّمت ثلاث تجارب من الحكم، لم تُركز على بناء وعي الإنسان قدر ممارستها وصاية عليه ينازعها في تلك الوصاية جماعات التمايز الديني، فتوالت عشرات السنوات منذ بداية عصر النهضة، وما زالت بلادنا لم تبرح مكانها؛ فحداثتنا العربية فاشلة؛ لأنها تُمارس التطوير في القشرة السطحية، وليس في بنية الأفكار المنتجة للحداثة.
فلا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من (أشياء)، بل بمقدار ما فيه من أفكار. ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب، فتمحو منه (عالم الأشياء) محوا كاملا، فإذا حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقًا.
سابعها: ضعف الثقافة الحداثية، فما زالت على المستوى النظري نخبوية غير قادرة على التغلغل في أعماق الأوساط الأكاديمية والثقافية لما يكتنف كتاباتها من غموضٍ؛ لطبيعة الموضوعات والمسائل والنظريات شديدة التعقيد لكتّاب من بلاد ذات لغات وثقافات مختلفة، فغموض النصوص الأصلية للمفكّرين الحداثيين جعلها – على حدّ تعبير أرثر أيزابرجر – “جزءا من ثقافة النخبة وعاجزة عن اكتساب قراء جُدد”، فإذا إضفنا إلى ذلك افتقاد لغة بعض المترجمين العرب للدقة والإبداع لعدم إتقان اللغتين المنقول منها وإليها، وضعف حركة الترجمة العربية، فما تقوم بترجمته اليونان في عامٍ يزيد عما تقوم به الدول العربية مجتمعة؛ لأدركنا لماذا لا يخرج الفكر الحداثيّ خارج نادي نخبة النخبة!
ثامنها: تجاهل الطريقة التي تكوّن من خلالها الفكر الإسلامي الذي أفرزه العقل العربي عبر وسيلتين:
– تراكم اجتهادات العرب والمسلمين في فهم وحي الله إلى العالمين.
– التلاقح الثقافي بين العقل العربي وغير العربي الذي ُوجد منذ البيئة العربية الأولى، وعزّزه الإسلام بانسيابه في الدنيا، فحمل كل غير عربي قادم إلى الإسلام أجزاءً من ثقافته وعلمه وفلسفته إلى الثقافة العربية. ولم يقف الأمر عند حدود النقل الأحادي العشوائي؛ بل تعداه إلى حركة نقل جماعي منظّم عن الحضارات السابقة، ولم ير جيل صانعي الحضارة الإسلامية في مهدها الأول عيبا في ترجمة نتاج اليونان والهند والفرس وغيرهم من الأمم السابقة، فلا يوجد فكر إنساني يمكنه الحياة منعزلا، رافضا الالتفات إلى الحراك الفكري والثقافي المحيط به.
تاسعها: انشغال الحداثيين العرب بتسويق ثمار حداثة لم ينجزوها، وانشغال خصومهم بقراءة انتقائية لإبراز مساوئ تجارب حداثية لم نصنعها، وأهمل كلا الطرفين التركيز على تعزيز المبادئ والقيم التي تقوم عليها الحداثة، وفي مقدمتها: “استقلال” يمنح الإنسان حرية الاختيار والتعبير بلا وصاية، و”إبداع” يُمكّن الإنسان من الابتكار والتجديد على نحوٍ لم يُسبق إليه، و”عقلانية” هي المحكّ لكل شاردة وواردة، وترى كلّ رأي يستند إلى سلطة دون دليل عقليّ هي اعتداء على العقل.
عاشرا وأخيرا من أكبر إشكاليات واقعنا الفكري العام رفض “النقد المعرفي”، أحد أهم قيم الحداثة، ففي الوقت الذي يُفترض أن تكون الثقافة الإسلامية المعاصرة – بحكم حداثيتها ومعاصرتها – أكثر قدرة على تقبّل النقد والاستجابة له بشكل إيجابي من الثقافة الإسلامية في العصور السالفة، أتى الأمر على خلاف ذلك بعد أن أخذت كلمة “النقد” – بالدال – مدلول كلمة “نقض” – بالضاد – في التواصل اللغوي الاجتماعي، فصار يُنظر إلى “النقد” بوصفه هدما و”نقضا”، هكذا انتقلت دلالة السلب في كلمة “نقض” إلى كلمة “النقد”، وغُيّب المدلول الإيجابي لكلمة “نقد” الذي يُفيد معنى الفرز والتمييز، فالتفكير النقدي قائم على عمليات عقلية مستمرة؛ لتصوّر وتطبيق وتحليل وتقييم الأفكار كمقدمة لابد منها للنهوض الحضاري.