من النافل القول أن التنزيل الحكيم إذا وصف الأمة التي بُعث منها، وفيها، الرسول الكريم، عليه الصلاة والسلام، بـ”الْأُمِّيِّينَ”؛ فلا بد أن يكون أفرادها “جميعًا” متصفين بـ”الأمية”، على الإجمال ودونما استثناء، وذلك بحسب منطوق الآية الكريمة، في سورة الجمعة: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ…”.
فإذا كانت صفة “الْأُمِّيِّينَ” تعني، في التنزيل الحكيم، عدم القدرة على القراءة والكتابة، كان لا بد للقرآن الكريم أن يُخبرنا بأن هناك استثناءً في أمة محمد، عليه الصلاة والسلام؛ وذلك لسبب بسيط، أننا نعرف، يقينًا، أن كتبة الوحي من الصحابة وغيرهم نماذج من أمته، وأنهم كانوا يقرأون ويكتبون.. لكن التنزيل الحكيم شملهم جميعًا بصفة “الْأُمِّيِّينَ”.
ومن ثم، نستنتج أنه من المستبعد أن يكون المقصود من اصطلاح “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، أنه النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب؛ كما أنه من المستبعد، أيضًا، أن “الْأُمِّيِّينَ” تعني الذين لا يقرأون ولا يكتبون.
التعريف القرآني
رغم ذلك، فقد ساد اصطلاح “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” بمعناه الخاطئ، والمغلوط، أي بمعنى “النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب” عند كثير من المفسرين، الذين لم يستطع الكثير منهم التوصل إلى الفروقات بين المعاني والمدلولات، في ألفاظ ومصطلحات التنزيل الحكيم؛ ذلك الذي جاء بسبب عدم تمكنهم من “اللسان العربي”، الذي كان بالنسبة لكثير منهم “اللسان الثاني”. وللأسف، فقد جاءت الأجيال التالية لتعتمد نهج “النقل” عنهم.. النهج الذي مازال ساريًا حتى الآن، عند البعض، دونما محاولة لتصحيح المفاهيم الخاطئة، والمغلوطة، في التفاسير الأولى لآيات التنزيل الحكيم.
في هذا الإطار، نُعيد ونُكرر بأن القرآن الكريم لم يترك مصطلح “الْأُمِّيِّينَ” دون تعريف واضح لا لبس فيه.. يقول الله سبحانه وتعالى: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” [البقرة: 78]. وهنا، يتضح التعريف القرآني الدقيق لمصطلح “الْأُمِّيِّينَ”؛ فقول الله سبحانه: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ”، يتبعه مباشرة التعريف بهم، فهم أولئك الذين “لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ”. وبالتالي، فالمقياس القرآني لـ “الْأُمِّيِّينَ” هو عدم العلم بالكتاب “إِلَّا أَمَانِيَّ”، وليس عدم العلم بالكتابة.
بل، ومن النافل القول إن هذه الآية الكريمة لا تحتاج إلى تفسير؛ إذ، هي تعريف واضح وصريح، في أوائل آيات التنزيل الحكيم، في سورة البقرة، للمصطلح القرآني “الْأُمِّيِّينَ” بكونه مصطلح يشمل “كل إنسان، في أي مكان في العالم، لا يعلم الكتاب”. وهكذا، يأتي قول الله سبحانه وتعالى: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” [البقرة: 78]، ليؤشر إلى عدد من الدلالات؛ أهمها: إن المقياس الحقيق لـ”الْأُمِّيِّينَ” هو عدم العلم بالكتاب، وليس عدم العلم بالكتابة.
الأماني والظن
ولكن، هنا، يثور التساؤل: لماذا الاستثناء في قوله سبحانه: “إِلَّا أَمَانِيَّ”؟.. وما علاقة قوله تعالى: “وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” بأولئك “الْأُمِّيِّينَ”؟
لنا أن نلاحظ، بداية، أن “أَمَانِيَّ” جمع أمنية، وهي مشتقة من “منى” إذا قُدِر، لأن المتمني يُقدِر الشيء في نفسه ويُجَوِّز ما يتمناه.. وبكلمة، فإن “منى” هي: “تقدير لشيء ما والرجاء في تحققه”. وهو ما يتأكد من قوله سبحانه: “وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ” [البقرة: 111]؛ وأيضًا، من قوله تعالى: “لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا” [النساء: 123].
أما “ظَنَّ”، فهو من أفعال الأضداد في اللسان العربي. إذ، يحتمل معنى اليقين كما يحتمل معنى الشك، تبعًا للسياق الذي يرد فيه الفعل. في المعنى الأول “اليقين”، يأتي قوله سبحانه وتعالى: “… قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ” [البقرة: 249]. وفي معنى “الشك” يأتي قوله سبحانه: “وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ” [الجاثية: 32]؛ وأيضًا، قوله تعالى: “وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ” [الجاثية: 24].
وبالتالي، فإذا كان من أهم دلالات قول الله سبحانه وتعالى: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ”؛ هو التعريف القرآني الدقيق لمصطلح “الْأُمِّيِّينَ”، من حيث إن المقياس الحقيقي لـ”الْأُمِّيِّينَ” هو عدم العلم بالكتاب، وليس عدم العلم بالكتابة.. فإن من بين هذه الدلالات، أيضًا، أن الخطاب القرآني، هنا، يختص بالبعض من أهل الكتاب، الذين لا يتبعون ما يقوله “الكتاب”؛ وذلك ليس عن عدم قدرة على قراءة الكتاب، بل كون علمهم به هو مجرد أماني “لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ”، وأن هذه الأماني هي مجموعة من الظنون “وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ”.
ثم تأتي الآية التالية، مباشرة، لقوله سبحانه: “وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ”، لتؤكد بالدليل القاطع على أن “الأمّيّة” ليست في عدم القدرة على القراءة والكتابة؛ بل، في عدم الامتثال لما يقوله “الكتاب”، أو في اختراع وحي آخر ليس له علاقة بالكتاب.. يقول تعالى “فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ” [البقرة: 79].
الأمي والأميون
لم يأت مصطلح “الْأُمِّيِّينَ” في صيغة المفرد، إلا “صفة” و”تمييزًا” لـ”الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، عليه الصلاة والسلام، وذلك في سورة الأعراف [157-158].. في حين ورد المصطلح في صيغة الجمع عبر “أربعة” مواضع في كتاب الله الكريم؛ مرتان في سورة “آل عمران” [20،75]، ومرة واحدة في كل من سورتي “البقرة” [78]، و”الجمعة” [2].
ضمن هذه المواضع، يأتي قول الله سبحانه وتعالى: “هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ٭ وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٭ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” [الجمعة: 2-4].
وهنا، لنا أن نلاحظ، أن “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، عليه الصلاة والسلام، قد بعثه الله سبحانه وتعالى “فِي الْأُمِّيِّينَ”، ليكون هذا المبعوث “رَسُولًا مِنْهُمْ”؛ ومن حيث هو كذلك فهو “الْأُمِّيَّ”.. بمعنى: أن “الْأُمِّيَّ” هو المفرد من “الْأُمِّيِّينَ”؛ وهذا الوصف له يكون على أساس اتصافه بما اتصفت به الجماعة من “الْأُمِّيِّينَ”، ويكون حاله كحالهم.
وبالتالي، فإذا كان التعريف القرآني الدقيق لمصطلح “الْأُمِّيِّينَ”، هو عدم العلم بالكتاب، وليس عدم العلم بالكتابة؛ فإن معنى الأمة الأمية هو “الأمة التي لا تعلم الكتاب”، سواء بعدم العلم بوجوده، أو بالغفلة عنه مع وجوده، أو بالعلم به وعدم اتباعه.. ويكون “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، عليه الصلاة والسلام، حاله كحالهم من حيث عدم العلم بالكتاب؛ لأنه سُمي “أميًّا” لانتسابه إليهم، وكونه “منهم”، ولا يعلم الكتاب مثلهم.
فـ”الْأُمِّيِّينَ”، إذًا، ليسوا هم من تمت تسميتهم لانتسابهم إلى “الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ”، عليه الصلاة والسلام؛ بل، على العكس، فإذا كان هو مبعوثًا “منهم”، فإنه يتصف بما اتصفوا به على إطلاقهم ومن دون استثناء، فيكون “أميًّا” لعدم علمه بالكتاب مثلهم، ويُقال له “النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ” كما يُقال لهم “ُالأمِّيُّونَ”. ومن ثم، يكون النبي وصحابته من الأميين، سواء منهم من كان يكتب أو لا يكتب قبل مبعث النبي، عليه الصلاة والسلام؛ ويُستثنى منهم فقط من كان كتابيًا وأسلم.
في هذا السياق، يصبح التساؤل الذي يفرض نفسه، هو: أين هذا التعريف القرآني الدقيق لمصطلح “الْأُمِّيِّينَ”، بأنه عدم العلم بالكتاب، وليس عدم العلم بالكتابة.. أين هذا من محاولات البعض، سحب التعريف المغلوط، والخاطئ، على “أمة محمد”، عليه الصلاة والسلام، من خلال نسبة مقولة إلى النبي الأكرم، في اعتقادنا أنه لم يقولها.. وهي: “إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب”.
إذن، كيف كُتب الوحي القرآني، وهم لا يكتبون؟، وكيف كُتبت المُعلقات الشعرية وعُلقت في الكعبة، وهم لا يكتبون؟، وكيف حسبوا تجارة الشتاء والصيف، وهم لا يحسبون؟، وبأي خط كتب الرسول، عليه الصلاة والسلام، رسائله إلى حكام الروم والفرس، وهم لا يخطون؟ ثم بأي خط كُتبت معاهدة الحديبية؟!